فصل جديد من مخطط أبناء زايد لإثارة الفوضى وإذكاء الحروب في دول المنطقة الساخنة، كشفته منظمة “هيومن رايتس ووتش” تنفيذًا لأجندات سياسية تستهدف توسيع دائرة النفوذ الإقليمي والدولي لأبو ظبي، مستندة في ذلك إلى جيش المرتزقة الذي شرعت في تأسيسه منذ بدايات نهايات العقد الماضي.
المنظمة الحقوقية كشفت النقاب عن تفاصيل جديدة بشأن استخدام الإمارة الخليجية لشركة “بلاك شيلد” (Black Shield) الإماراتية للخدمات الأمنية، كبوابة نحو تجنيد مئات السودانيين وإرسالهم إلى ليبيا للقتال بجوار قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر ضد قوات حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا، وأخرى لليمن للقتال نيابة عن الجيش الإماراتي.
التحقيق الذي نشرته المنظمة على موقعها الإلكتروني واستند إلى لقاءات مباشرة مع الضحايا، أشار إلى أن الشركة الأمنية الإماراتية تعاقدت مع أكثر من 270 شابًا سودانيًا للعمل في الإمارات حراس أمن، لكنها خدعتهم بعد سلسلة طويلة من الإجراءات حتى زجت بهم في آتون الحرب في ليبيا دون علمهم.
ربما هذه ليست المرة الأولى التي يتم الكشف فيها عن تجنيد مرتزقة سودانيين للعمل لصالح قوات حفتر في ليبيا أو بجوار قوات التحالف العربي في اليمن، غير أن التفاصيل التي أوردها هذا التحقيق تفضح إستراتيجية الخداع والنصب التي تتبناها الشركة الإماراتية لإيقاع ضحاياها والحصول على دعمهم العسكري، مستغلة فقرهم الشديد وحاجتهم للمال، وهو ما يسقط القناع المزيف عن الوجه الإنساني والحضاري الذي طالما تعزف أبو ظبي للترويج له عالميًا.
مسلسل من الخداع
في خريف 2019 تنامى إلى مسامع عامر (اسم حركي لأحد الشباب السودانيين الباحث عن العمل) عن توافر فرص وظيفية جديدة في الإمارات، وكانت الوظائف المتاحة وقتها “حراس أمن” لعدد من المستشفيات والفنادق والسفارات في الإمارة الخليجية برواتب جيدة.
لم يفكر الشاب السوداني كثيرًا، فسارع لتوفير رسوم الطلب المقدم وقدرها 12 ألف جنيه سوداني (266 دولارًا أمريكيًا في ذلك الوقت) ثم تقدم بأوراقه عن طريق مكتب تابع للشركة الإماراتية، بلاك شيلد، ويسمى مكتب “الأميرة للاستقدام الخارجي”، ويحمل وثائق السفر وتأشيرات الدخول، بجانب ختم سفارة السودان في أبو ظبي، وأختام الجهات الرسمية في الإمارات، ليفاجأ بموظف الشركة وقد أعد له تأشيرة العمل وتذكرة السفر.. لكن دون عقد عمل.
ورغم مخالفة ذلك لقانون العمل في الإمارات، فإن عامر لم يتطرق إلى هذه المسألة طويلًا، وفي 22 من سبتمبر/أيلول 2019 غادر بلاده متجهًا إلى أبو ظبي، ومعه أكثر من 40 سودانيًا على متن الطائرة، وحين وصلوا إلى مطار أبو ظبي الدولي كان في استقبالهم رجلان إماراتيان، عرفا نفسيهما كممثلين عن شركة بلاك شيلد للخدمات الأمنية.
وبعد دقائق قليلة من الاستقبال صادر ممثل الشركة الإماراتية جوازات سفر الشباب السوداني، رغم تجريم هذا الإجراء في البلاد منذ 2002، ليستقلوا بعد ذلك عددًا من الحافلات في اتجاه مجمّع عسكري في مدينة غياثي، على بعد نحو 300 كيلومتر شرقًا.
وبعد أسابيع قليلة من وصولهم إلى هذا المجمع العسكري فوجئوا بدفعات جديدة من السودانيين يلتحقون بهم، لكن الأمر الذي أثار القلق وجود أفراد تابعين للقوات المسلحة الإماراتية صادروا هواتفهم ومنحوهم زيًا عسكريًا خاص بالجيش الإماراتي، وهو ما دفعهم للتساؤل عن أسباب ما يحدث؟ ولما تم جلبهم إلى مجمع عسكري وهم قادمون للعمل كحراس أمن على بعض المنشآت المدنية العادية؟
لم يكن الشاب السوداني يعرف اسم المكان ولا تضاريسه، لكن المفاجأة حين قرأوا الملصقات الموجودة على زجاجات المياه، إنهم في مجمع عسكري متداعٍ في بلدة راس لانوف شرق ليبيا! وهنا كانت الصدمة
وحين توجهوا بالسؤال عن سبب وجودهم في هذه الثكنة العسكرية، كان الرد أنهم سيخضعون لتدريب أمني لمدة ثمانية أسابيع على الأقل، وهنا يضيف عامر “بدءًا من منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، علمونا المهارات الميدانية (العسكرية) والتدريبات القتالية وزحف الجيش، والعديد من الأشياء الأخرى التي لا علاقة لها بوظيفة حارس الأمن. تدربنا على استخدام جميع أنواع الأسلحة: كلاشينكوف ورشاشات وقذائف “آر بي جي” وقذائف الهاون. تعلمنا كيفية تفكيك الأسلحة وتجميعها وكيفية استخدام القنابل اليدوية وكيفية إطلاق النار على الأهداف”.
وفي خلال 3 أشهر فقط، من سبتمبر/أيلول ونوفمبر/تشرين الثاني 2019، وظّفت بلاك شيلد أكثر من 390 سودانيًا اعتقدوا أنهم يأتون للعمل كحراس أمن في الإمارات، بحسب كلام عامر وثلاثة من زملائه، لافتين إلى أن كل منهم دفع ما بين 10 آلاف و20 ألف جنيه سوداني (ما بين 190 إلى 390 دولارًا أمريكيًا) كرسوم توظيف، وبعضهم دفع أكثر من ذلك، غير أن العامل المشترك أن الجميع كانوا دون عقد عمل كما هو الحال مع عامر.
التصدير إلى ليبيا
وبعد إتمام الدورة العسكرية المكثفة، طلب من الشباب السوداني الاستعداد لمغادرة المكان من أجل استلام وظائفهم، وفي إحدى ليالي يناير/كانون الثاني الماضي الباردة، فوجئ عامر بنفسه وبجانبه عشرات السودانيين في قاعدة عسكرية جديدة في صحراء قاحلة.
لم يكن الشاب السوداني يعرف اسم المكان ولا تضاريسه، لكن المفاجأة حين قرأوا الملصقات الموجودة على زجاجات المياه، إنهم في مجمع عسكري متداعٍ في بلدة راس لانوف شرق ليبيا! وهنا كانت الصدمة.. ما الذي جاء بهم إلى هنا؟ وأين عملهم المتفق عليه كحراس أمن في الإمارات؟
أسئلة لم تجد من يجيب عنها، صرخات لم تفارق الحناجر، ولم يعد أمامهم إلا الاستسلام للأمر الواقع، فالمأزق الاقتصادي المعيشي الذي يحيونه في بلادهم أقسى وأشرس من الأجواء التي يحيونها هنا في ليبيا، وعليه كان الرضوخ والاستسلام هو رد الفعل المتوقع.
موقع “بزفي” نشر في أكتوبر/تشرين الأول 2019، تحقيقًا أشار فيه إلى توظيف الإمارات لجنود أمريكيين سابقين بهدف تعذيب وقتل رجال دين بارزين وشخصيات سياسية إسلامية في اليمن في حملة اغتيالات مُستهدفة
وبعد أيام قليلة وجد عامر ورفاقه أنفسهم جنبًا إلى جنب مع المقاتلين الليبيين الموالين لميليشيات حفتر، البداية كانت إقناعهم بأن مهمتهم حراسة المنشآت النفطية المحيطة بتلك المنطقة وتسمى “الهلال النفطي” لكن مع الوقت انخرطوا في أعمال القتال مع المليشيات الموجودة هناك، فيما تعرضوا لهجمات عنيفة كادت تودي بحياتهم بعد أن استهدفت قوات حكومة الوفاق المعترف بها أمميًا، هذا الإقليم.
وهنا تكشف المنظمة الحقوقية في تحقيقها هذا عن التورط الخبيث للإمارات في النزاعات الخارجية، الذي لم يتوقف عند حاجز الدعم المالي فقط، بل تجاوز ذلك إلى تحويل كميات هائلة من الأموال والأسلحة إلى الجماعات المسلحة في ليبيا واليمن وتجنيد جيوش من المرتزقة للحرب بالوكالة.
اليمن.. المرتزقة سلاح ابن زايد
التحقيق أماط اللثام كذلك عن جرائم من نوع آخر، لكنها هذه المرة أكثر شراسة وانتهاكًا للحقوق الإنسانية، إذ كشف أنه في السنوات الخمسة الماضية وحدها، تورطت قوات من المرتزقة المجندين عن طريق الإمارات باحتجاز وإخفاء وتعذيب نشطاء من اليمن في جنوب وشرق البلاد.
وكان موقع “بزفي” قد نشر في أكتوبر/تشرين الأول 2019، تحقيقًا أشار فيه إلى توظيف الإمارات لجنود أمريكيين سابقين بهدف تعذيب وقتل رجال دين بارزين وشخصيات سياسية إسلامية في اليمن في حملة اغتيالات مُستهدفة، لافتًا إلى أن هذا المخطط بدأ في 2018 حين جندت شركات الأمن الإماراتية مرتزقة من تشاد للقتال في اليمن.
الأمر ذاته تكرر مع السودان، حيث ضخت الإمارات ومعها السعودية عشرات المليارات من الدولارات لإقناع الرئيس المعزول عمر البشير بإرسال قوات من الجيش السوداني للقتال بجانب قوات التحالف في اليمن، ومع الإطاحة بالرئيس في أبريل/نيسان 2019 حل مكانه قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي) لأداء الدور ذاته، لكن ليس بتجنيد قوات من الجيش الرسمي إنما عبر مرتزقة من الجماعات المسلحة والشباب صغار السن.
وتحول اليمن، الذي كان سعيدًا من قبل، خلال السنوات الخمسة الماضية منذ دخول قوات التحالف في مارس/آذار 2015 إلى واحد من أكثر مناطق العالم تعرضًا للانتهاكات الحقوقية، وبات يتصدر قوائم المناطق الأكثر بؤسًا وفقرًا على وجه الأرض، كل هذا بفضل المخططات الإماراتية وحليفتها السعودية.
أمام هذا النفي يبقى السؤال: كيف وجد عامر ومعه المئات من الشباب السوداني أنفسهم إلى جانب ميليشيات حفتر في الوقت الذي كان الاتفاق فيه على إرسالهم للعمل في أبو ظبي؟
بلاك شيلد.. الوافد الجديد في عالم المرتزقة
فرضت شركة “بلاك شيلد” نفسها على المشهد خلال العامين الأخيرين، كونها كانت كلمة السر في نقل مئات السودانيين إلى ليبيا من خلال إستراتيجيات النصب والخداع التي تم ذكرها في تحقيق المنظمة الحقوقية، لتنضم وبشكل مباشر إلى قائمة شركات الأمن الإماراتية التي تم توظيفها لتحقيق هذا الغرض.
الشركة مسجلة في “دائرة التنمية الاقتصادية” بأبو ظبي كمؤسسة فردية وشركة ذات مسؤولية محدودة ومُدرجة على الموقع الإلكتروني لحكومة أبو ظبي كشركة خدمات أمنية تأسست عام 2019، غير أنها تفتقر للمعلومات التفصيلية الخاصة بها على الإنترنت.
وتعود ملكيتها بحسب العقود التي راجعتها “هيومن رايتس ووتش” إلى رجل الأعمال الإماراتي ديين سيف معضد الكعبي، وهو الذي عرف نفسه في مقال له في 2012 بأنه عقيد في القوات المسلحة الإماراتية، وهناك رجل آخر كان في استقبال المجندين السودانيين في ليبيا ويدعى مسعود المزروعي.
حينها قدم المزروعي نفسه على أنه ممثل الشركة في ليبيا، لكن اسمه ورد في بعض الصحف اليمنية خلال عامي 2017/2018 وقد عرفته بأنه نائب لقائد القوات الإماراتية وقائد عمليات التحالف بعدن، ما يعني أن الشركة مملوكة لعسكريين في المقام الأول، وهو ما يتناغم مع دوافعها الحقيقية وإن كانت تتخذ من تشغيل العمالة الأجنبية ستارًا يداري جرائمها وأهدافها الخبيثة.
ورغم الاتهامات التي وجُهت للشركة منذ نشأتها في 2019 وحتى أكتوبر/تشرين الأول 2020 من الضحايا السودانيين، فإنها لم ترد على أي منها، لكن في أواخر يناير/كانون الثاني 2020، ومع تصاعد حدة الانتقادات اضطرت إدارة الشركة للرد نافية مزاعم خداعها للعمال السودانيين، كما أنها نفت عن نفسها الاشتراك في أعمال ذات طابع عسكري.
لكن أمام هذا النفي يبقى السؤال: كيف وجد عامر ومعه المئات من الشباب السوداني أنفسهم إلى جانب ميليشيات حفتر في الوقت الذي كان الاتفاق فيه على إرسالهم للعمل في أبو ظبي؟ ولماذا تلقوا تدريبات عسكرية مكثفة لا تتناسب مطلقًا وطبيعة الوظائف المتفق عليها؟ أسئلة لا تحتاج إلى عناء الإجابة، لكنها تفضح الوجه القبيح للمخطط الإماراتي الساعي إلى إذكاء الحروب في اليمن وليبيا تحقيقًا لأجندات سياسية ولو على حساب حياة مئات المرتزقة المغرر بهم وأضعافهم من القتلى، ضحايا الحروب.