عندما يتعلق الأمر بالمجموعات المتطرفة سواءً أكانت تسمى “القاعدة” أو تنظيم “داعش” أو غيرها من الأسماء، فاننا نقرأ ونسمع الكثير من المعلومات المتضاربة والتناقضة حول “من هي الجهة الداعمة لهذه التنظيمات أو الجهة التي ساعدت على انشائها أو الجهة التي تستفيد منها”، وفي كثير من الأحيان تتقاطع مصالح الاطراف فيدعمها أكثر من طرف أو يستفيد منها أكثر من لاعب.
فيما يتعلق بنتظيم “داعش” اليوم، هناك من يتّهم السعودية ودول الخليج العربي بالوقوف وراءه، وهناك من يتّهم تركيا وهناك من يتهم الولايات المتّحدة وايران، وهذا دليل على أنّ ظاهرة الجماعات المسلّحة المتطرّفة هي ظاهرة معقّدة، متداخلة ومتشابكة، ولا يمكن النظر اليها من جانب واحد فقط.
وعندما يتعلّق الموضوع بـ “مكافحة الارهاب” يصبح الأمر أكثر تعقيدا. فحتى الآن ليس هناك تعريف محدد للـ”إرهاب”، ولا نعرف لماذا يتم ملاحقة جماعة راديكالية مسلّحة معيّنة وتُترك جماعات أخرى لا تقل خطورة عنها كتلك التابعة لايران في لبنان وسوريا والعراق واليمن والبحرين على سبيل المثال. ليس هذا فقط، بل أنّ عددا من الدول الاقليمية كمصر والسعودية اصبحت تعتبر أنّ جماعات سياسيّة لا تعتمد العنف منهجا لها كجماعة الاخوان المسلمين هي تنظيمات ارهابيّة يجب محاربتها.
وبشكل عام، فقد أصبح موضوع “الارهاب” و”مكافحة الإرهاب” منذ حوالي عقد من الزمان موضوعا مطّاطا ويستخدم من أجل تحقيق اهداف سياسيّة. فبعض الدول توجده أو تستغله او تدعمه ومن ثمّ تطرح خيار محاربته من أجل: توسيع نفوذها الاقليمي، أو تبرير بقاء أنظمة غير شرعية أو غير ديمقراطية، أو من اجل السيطرة على مقدّرات المنطقة وتغيير واقعها، كلّ دولة بما يناسبها.
لكن وكباحثين، يجب علينا عندما تتوافر الوقائع والمعلومات أنّ لا نترك الحقائق ونلجأ الى التخمينات والترجيحات. وبالعودة الى موضوع “داعش”، فان الوقائع تقول أنّ النسبة الأكبر من مقاتلي هذا التنظيم اقليميا من تونس ودوليا من روسيا. كما انّ النواة الصلبة لـ “داعش” أو “القاعدة” في سوريا والعراق اليوم هم من المسجونين السابقين الذين أطلق بشّار الأسد سراحهم، ومن الذين فروّا من سجون المالكي الأكثر تحصينا. فلماذا يطلق االأسد سراح هؤلاء بينما يقوم بقتل الناشطين السياسيين والحقوقيين في سجونه؟ وكيف يمكن ان يفرّ في يوم واحد فقط أكثر من 500 عنصر من اخطر المنتسبين لتنظيم القاعدة من أكثر سجون المالكي تحصينا في حين يقوم باعدام من هم اقل خطرا منهم ويرفض اطلاق سراح المظلومين؟
اما عن التمويل، فهناك من يقول انّ السعودية وعددا من دول الخليج هي من يموّل “داعش”، وفي حين قد يكون المقصود بذلك التبرعات التي قد تصل من قبل أثرياء او متعاطفين مع الشعب السوري والعراقي الى مثل هذه التنظيمات، فان الوقائع مرة اخرى تقول ان من ابرز مصادر التمويل لدى “داعش” بيع النفط والكهرباء الى نظام الأسد بالاضافة الى المال الذي تم نهبه من بنك الموصل والمقدر بحوالي 450 مليون دولار ، واعمال أخرى منها التهريب والجمارك والفدية والتبرعات.
وبغض النظر عن كل ذلك، فان “البقرة” التي تسمى “داعش” قد كبرت وسمنت وترعرعت وقويت تحت مرآى ومسمع العالم بأسره، ولم يتدخل أحد لفعل شيء عندما كانت “داعش” تقتل المعارضين السوريين وتسيطر على مناطقهم.
تحالف هش ضد “داعش”
وفيما يبدو الآن ان هناك اجماعا اليوم من مختلف الأطراف على مهاجمة “داعش” ، الا انّ دوافع وغايات هؤلاء اللاعبين الاقليميين والدوليين مختلفة تماما عن بعضها البعض. فلنأخد السعودية وايران والولايات المتّحدة على سبيل المثال. ما يهم السعودية هو الحفاظ على نظامها السياسي، ولانّ خطر داعش كان قد تضّخم مؤخرا، فان السعودية خشيت أن ينتقل التهديد اليها خاصة انّ تنظيم “داعش” قد ينجح من خلال خطابه في اجتذات شريحة واسعة من الشباب السعودي بشكل قد يهدد نظام الحكم، ولهذا فقد تحرّكت السعودية مباشرة لوقف هذا التهديد.
أما بالنسبة الى ايران، فما يهمّها هو نفوذها الاقليمي وبرنامجها النووي، ويشكل “داعش” بالنسبة لها تحدّيا وفرصة في نفس الوقت. فقد كاد التنظيم أن يطيح بنفوذها في العراق بشكل كامل خلال الفترة الاخيرة من حكم المالكي، كما أنّ التنظيم الذي كان على توافق مع الأسد قد بدأ يشكّل خطرا عليه في المعارك الأخيرة التي جرت بينهما خاصة ما يعرف باسم معركة مطار الطبقة العسكري، وكذلك الأمر بالنسبة الى خطر التنظيم على حزب الله في لبنان. وترى طهران التي هيّئت البيئة المناسبة لنشوء وتمدد هذا التنظيم أنّه قد يشكّل فرصة بالنسبة لها للمقايضة على الملف النووي.
أمّا الولايات المتّحدة، فهي تركّز على الجانب الأمني والعسكري ولا يبدو أنّها تعالج الأسباب الحقيقيّة التي أدت وتؤدي الى ظهور وتكاثر مثل هذه التنظيمات التي يحتاج التعامل معها النظر الى ما هو أبعد من الخيار الأمني والعسكري. وحتى إذا إفترضنا أنّ لهذه الظاهرة عوامل دينية وأمنية، فكيف يمكن القضاء على التطرف الديني في في ظل السكوت عن الممارسات الطائفية وعمليات القتل والارهاب التي تنشرها ايضا جماعات أخرى تابعة لطهران في اماكن الصراع الاساسيّة في الشرق الأوسط ، وكيف يمكن القضاء على التطرّف في الوقت الذي يتم فيه التغاضي عن عزل وقمع حلفاء الولايات المتّحدة للاسلاميين المعتدلين الذين يفوزون في الانتخابات في بلدانهم؟
من الواضح أنّ الجميع يحاول ان تجاهل الأسباب الحقيقية التي أدّت الى ولادة (داعش) والتهرب من مواجهتها بدلا من حلّها، مما سيؤدي في المستقبل الى ولادة من هو أكثر تطرفا من “داعش”. أضف الى ذلك أنّ التضارب في الأجندات والأهداف والغايات من محاربة “داعش” يعني أنّ التحالف لن يستمر طويلا وسرعان ما سيعود الصراع الجيوبوليتكي بين اللاعبين الاقليميين والدوليين.
وللأسف فان اشراك التحالف الدولي لايران وميليشياتها في محاربة “داعش” سيغذّي الحريق الطائفي الذي كانت اشعلته طهران منذ سنوات عبر أدواتها في المنطقة، كحزب الله في لبنان والمالكي في العراق والأسد في سوريا والآن الحوثي في اليمن. وهي اليوم تطالب بمقايضة تعاونها في محاربة “داعش” بالملف النووي.
ما بعد المعركة ضد “داعش”
ان الازدواجية والتناقض في الموقف الايراني من موضوع مكافحة الارهاب وتأرجحه بين “الإنكار والاقرار” هو جزء من استراتيجية دأبت طهران على اتباعها منذ عقود. تسمح لها هذه الاستراتيجية بان تبقي خياراتها مفتوحة وان تساوم وان تحاول ان تلعب على الطرفين، وان تنتقل من ضفّة الى أخرى وفقا لمعطيات المعركة والنتائج التي تؤول اليها و بما يخدم مصالحها ونفوذها الاقليمي.
ولا شك انّ اللاعب الايراني قد يكون في وضع أفضل لاستغلال وتوظيف الاحداث، فهو الأكثر قدرة على إدارة الوضع الإقليمي في ظل الفوضى لما يمتلكه من خبرة ومن أدوات وأذرع إقليمية تخوله الصمود في مثل هذه الظروف التي طالما اعتادت العمل فيها، بل ومحاكاتها في كثير من الأحيان لاستدراج بعض القوى للتفاوض والحصول على تنازلات بما يؤدي للاعتراف بنفوذها ومصالحها الإستراتيجية والحيوية في المنطقة.
تدافع إيران عن نفسها تقليديا عبر خط دفاع تقيمه خارج حدودها. وعندما ينجلي الغبار واذا تمكن التحالف من اضعاف وتفكيك “داعش” بعد سنوات، ستكون ايران الدولة الوحيدة التي تمتلك على الأرض “رجالا مدججين بالسلاح” في المنطقة الممتدة من بيروت مرورا بدمشق وبغداد وصنعاء.
اما اذا لم ينجح التحالف في القضاء على “داعش” فقد تتحوّل طهران في مرحلة من المراحل الى دعمه في وجه الولايات المتّحدة والحلفاء الاقليميين، ولنا سابقة في هذا المجال عندما استضافت ووظّفت القياديين في تنظيم القاعدة على اراضيها رغم التعارض الايديولوجي الظاهر بين الطرفين والذي يخفي خلفه هذا النوع من التعاون او الدعم.
للأسف فقد تبيّن انّ الثورات العربيّة ليست على مقياس بعض الأنظمة، فقد كان النظام الايراني على سبيل المثال من أوائل اللاعبين الاقليميين الذين يتصدّون لثورات الشعوب ويدعمون ما يسمى “الثورات المضادة” -كما حصل في لبنان عام 2008 وطهران عام 2009 و العراق 2010 وسوريا 2011 واليمن-. وقد نجحت طهران في استبدال رئيس في العراق وفي الابقاء على رئيس في سوريا وفي المفاوضة على رئيس في لبنان وفي محاولة اسقاط رئيس في اليمن. وتدعم السعودية وبعض الدول الخليجية اليوم في المقابل انقلاب السيسي، وكذلك الثورة المضادة في ليبيا.
لكن الأكيد أنّ كل هذه الأنظمة لن تستطيع وقف التحوّل الجاري، كل ما تستطيع فعله هو اما تأخيره أو دفعه باتجاه التطرف والارهاب، وسيكون لذلك بطبيعة الحال نتائج سلبية كبيرة من حيث ارتفاع الفاتورة التي ستدفها شعوب المنطقة، لكن لا شكّ انّ تداعيات كل ذلك ستصل عاجلا ام آجلا الى الدول التي تقف في وجه الثورات، وهو الامر الذي يجب ان تعيه وتدركه جيدا.