لعلماء الهوسا (نيجيريا حاليًا) دور عظيم في إثراء المكتبة الإسلامية بأمهات المؤلفات في الفقه والعقيدة التي ساهمت بشكل كبير في تنقية العديد من الكتب التي شابها الزيف والتحريف والمكتظة بالخرافات والعادات التي تضرب الأصول والعقيدة في ثوابتها.
ورغم إسهاماتهم الجليلة في هذا المضمار والدفع بقوة لعجلة العلوم الإسلامية في أوساط مسلمي إفريقيا، فإن الأضواء غابت عنهم بصورة لافتة للنظر، وغض الباحثون والإعلاميون الطرف عن آثارهم العظيمة التي كانت خير شاهد على ما قدموه للأمة من جهد لا ينكره منصف.
ويأتي على رأس علماء الهوسا، الشيح علي بن محمد الكوماسي الكنوي، الذي كان علامة بارزة في نهضة العلوم الإسلامية في هذا الزمان، ونجح بما يمتلكه من مخزون كبير من العلم في مجالات الفقه والشريعة وثوابت العقيدة في أن يكون قبلة الباحثين عن العلم في نيجيريا وغانا والدول المجاورة.
أحدث العالم الإفريقي، وهو ابن الطريقة القادرية الصوفية، انقلابًا كبيرًا في منظومة المعتقدات الموروثة للتيار الصوفي صاحب الحضور الأعظم والتأثير الأقوى في المجتمع النيجيري، وارتأى لنفسه أن يسبح ضد التيار، آملًا في الوصول إلى بر الأمان العقدي.. فمن الشيخ علي الكنوي؟
في حجر العلم والعلماء
ولد علي بن محمد بن آدم بن أبي بكر، البرناوي الأصل، في مدينة كوماسي بجمهورية غانا عام 1915، لأسرة متدينة بطبيعة الحال، فكان والده من حفًاظ القرآن الكريم، عالمًا بالفقه والحديث، مبدعًا في علم التفسير، هذا بجانب عمله كتاجر بضائع بين كوماسي ولاجوس النيجيرية.
وحين بلغ العامين توفيت أمه ليتولى والده رعايته الكاملة حتى سن تسع سنين، وبعدها أرسله إلى مدينة كانو بنيجيريا رفقة شقيقته “هريرة” للتعرف على جذوره العائلية هناك، فكان الاستقرار في تلك المدينة ولذا سمي فيما بعد بالشيخ علي الكنوي رغم أنه كوماسي المولد.
تعمق أكثر في علم النحو على يد الشيخ أبو بكر مِجِنْيَوَا، فقرأ عليه الكافية الشافية لابن مالك
ما كان بفكر الطفل ابن التاسعة أن يغادر بلاده إلى بلاد أخرى، فكان في مخيلته أن الزيارة لن تدوم طويلًا، لكن مع مرور الوقت تبدلت الأحوال وتزوجت أخته هناك بتاجر يدعى شيخو نَأَبا لتبدأ مرحلة جديدة من حياته تحت رعاية أخته وزوجها، ولم يعد إلى كوماسي مرة أخرى إلا حين توفي والده عام 1932 فذهب إليها مُعَزيًا.
ومن قلب نيجيريا بدأت الرحلة العلمية للشاب المفعم بالتعلم، المولع بالعلماء، حيث جلس بين أقدام علماء أجلاء كان لهم دور كبير في تشكيل وعيه العلمي وتوسعة أفقه الثقافي وتشكيل رزانته العلمية، وبث معاني الخير والتسامح مع الآخرين في نفسه، فكانوا خير صانع له.
ومن أبرز الشيوخ الذي تلقى الكنوي العلم على يديهم، الشيخ إبراهيم رمضان الذي أتم حفظ القرآن على يديه والشيخ شعيب غورام الذي قرأ عليه “منظومةَ القرطبي” في الفقه المالكي ليحيى القرطبي و”منظومة ابن عاشر” للشيخ عبد الواحد بن عاشر الفاسي الأندلسي، ودرس عليه أيضًا “منظومةَ ابن رشد”، وهي أيضًا في الفقه المالكي.
كما تعلم اللغة العربية من مصادرها الأصلية على يد الشيخ محمد غومبي الذي قرأ عليه “مختارات الشعر الجاهلي” لأبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى النحوي، و”شذور الذهب في معرفة كلام العرب” لابن هشام الأنصاري، و”ألفية ابن مالك” و”لامية الأفعال” لابن مالك أيضًا.
وتعمق أكثر في علم النحو على يد الشيخ أبو بكر مِجِنْيَوَا، فقرأ عليه “الكافية الشافية” لابن مالك و”عُقود الجمان” في البلاغة للسيوطي، ثم برع في علم التجويد على يد الشيخ محمد الرابع الذي قرأ عليه “هداية المستفيد” و”هداية الصبيان” و”نظم في التجويد” للشيخ سعيد بن سعيد بن نبهان.
بيئة خصبة
كانت كانو في هذا الوقت قبلة لكثير من الطلبة والباحثين، فكانت بيئة خصبة لنمو وازدهار كل العلوم الإسلامية، في ظل كوكبة من المشايخ والعلماء الذين أثروا المكتبة الإسلامية بأمهات الكتب والمؤلفات التي ظلت حتى يومنا هذا مرجعًا لكثير من الشغوفين بالعلوم الدينية.
وكانت هذه الفترة تمتاز بالنماء والرخاء في مسار البحث الفقهي واللغوي والمنطقي في نفس الوقت، بل كانت المناطق الرئيسية والميادين العامة تزخر بالمناظرات الدينية بين العلماء، في أجواء تشبه أسواق الشعر عند العرب قديمًا، فكانت تلك المناظرات ساحة كاشفة لحجم ما يتمتع به كل شيخ من علم.
ساعدته كثرة قراءاته وتعلمه على أيدي كبار العلماء ورحلاته العلمية والثقافية المتعددة ألا ينخرط في هذا المستنقع
وقد أفرز هذا المناخ الخصب جيلًا من الفقهاء وفطاحل العلم كانوا بمثابة السد المنيع للحفاظ على الدين والشريعة والعقيدة من أي دخلاء، هذا في الوقت الذي كان يحارب فيها الإسلام في بعض البلدان المجاورة، وهو ما جعل تلك المدينة النيجيرية علامة مضيئة في تاريخ الحضارة الإسلامية في القارة الإفريقية.
لكن سرعان ما بدأ الدخن يختلط بتلك الأجواء القويمة، حيث سيطرت الطقوس الصوفية الدخيلة على بعض العقول، فأسرتها في ثياب ضيقة من السلوكيات والمظاهر التي تخالف العقيدة الصحيحة، فكان الاختلاط الفاحش والتغني بالأناشيد ونسبها للأولياء والأنبياء وهي منهم براء.
لكن الكنوي كان في منطقة بعيدة تمامًا عن هذا السائد في المجتمع، فقد ساعدته كثرة قراءاته وتعلمه على أيدي كبار العلماء ورحلاته العلمية والثقافية المتعددة ألا ينخرط في هذا المستنقع، فأوى بنفسه متحررًا من فخ التقليد الأعمى ومن أسر الهوى والخضوع للعامة، فقد كان كما وصفه المؤرخون “جريئًا ضد التيار”.
الانقلاب على التقاليد
كان الشيخ الكنوي أحد أقطاب الطريقة القادرية في نيجيريا (إحدى الطرق الصوفية) وكان من أبرز علمائها، إذ تلقى ورد القادرية على يد الرمز والعلم الشيخ آدم نماجي الذي يحتل مكانة كبيرة في قلوب المتصوفية ليس داخل نيجيريا وحدها، بل في الأقطار المحيطة بها.
كان القادريون يميلون في طقوسهم إلى بعض البدع التي أنكرها علماء الأمة الثقات، ومن أبرزها المهرجان السنوي للطريقة، المسمى لديهم بـ”الموكب”، حيث يخرج الآلاف في مسيرات حاشدة، الرجال إلى جانب النساء، والشباب مع الفتيات، الكل يضرب الدفوف وينشدون الألحان ويتوجهون إلى المقابر.
ساعد على انتشار تلك الطقوس الشيخ محمد ناصر كبرا، زعيم الطريقة في كانو، حيث كان يدعو لها بشدة ويحث أتباعه على التمسك بها، إلا أن الكنوي كان يغرد منفردًا بعيدًا عن سرب كبرا، حيث انتفض مدافعًا عن العقيدة الصحيحة ورافضًا لتلك الطقوس، ناعتًا إياها بالبدع والخرافات.
وعلى الفور تبنى الشيخ حملة ضغط كبيرة لإثناء علماء القادرية ومشايخها عن هذه الطقوس، في ظل الطاعة العمياء والتقليد المطلق من الأنصار دون فهم أو دراسة، وهو ما مثل خطورة عليه كادت أن تكلفه حياته، بعدما هوجم من أتباع زعيم الطريقة واتهم بمحاولة شق كلمة المسلمين.
وبالتوازي مع تحركات الكنوي خرج في تلك الأجواء الملبدة بغيوم البدع رائد السلفية في نيجيريا الشيخ القاضي أبو بكر محمود جومي، الذي دعا الناس إلى صحيح الإسلام وتنقية العقيدة مما شابها من الشرك والخرافات، بجانب تصفية العبادات من العادات المخالفة لروح الدين.
في غضون سنوات معدودة استطاع الشيخ علي، الكوماسي المولد، الكنوي الموطن، التخلص من الجزء الأكبر من الخرافات التي سيطرت على الطريقة القادرية
ورغم أن الشيخ علي كان قادريًا من الدرجة الأولى، فإنه انضم إلى دعوة جومي وآزره في الحملة التي شنها الصوفيون ضده، وخاضا كليهما حملة ضارية من أجل الدفاع عن العقيدة وصحيح الدين، وهو ما أدى في النهاية إلى استجابة قطاع كبير من المسلمين.
وبالفعل حققت جهود الكنوي بفضل جرأته وعلمه الغزير حصادها المتوقع، فنجح الرجل في تهيئة الأجواء تمامًا لتنقية الصوفية مما علق بها من البدع والخرافات، وبات الرجل علامة يضرب بها المثل في الجرأة والإبحار ضد تيار مجتمعه، وهو ما جعله محل استهداف وانتقاد من كثير من الأتباع، ولعل هذا كان السبب وراء غيابه عن الأضواء والتناول رغم ما قدمه من خدمات لتصفية الدين من شوائبه الدخيلة.
وفي غضون سنوات معدودة استطاع الشيخ علي، الكوماسي المولد، الكنوي الموطن، التخلص من الجزء الأكبر من الخرافات التي سيطرت على الطريقة القادرية، لكن ما يحسب له في المقام الأول أنه وضع اللبنة الأولى نحو منهج جديد يقوم على الجرأة والشجاعة في التعاطي مع المخالفات، كاسرًا بذلك جدران التبعية والتقليد الأعمى التي سادت مجتمعه في ذاك الوقت.