تميزت السياسة الخارجية العمانية بالحياد لعقود طويلة مضت، وباتت تلك الإستراتيجية مرتكزًا وطنيًا أصيلًا في السلطنة، نجحت من خلاله في اجتياز اختبارات سقوط الشاه في إيران والحرب الباردة ونهايتها والحرب التي قادتها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان والربيع العربي.
وتحت قيادة السلطان الراحل قابوس بن سعيد، استطاعت البلاد أن تحافظ على مسافة واحدة من كل الأطراف الفاعلة المتورطة في النزاعات الإقليمية، ففي الوقت الذي تحافظ فيه على علاقات جيدة مع واشنطن تجدها في الوقت نفسه على علاقة مشابهة بطهران ولندن، ومثلها مع الرياض والدوحة وأبو ظبي.
وكانت نتيجة لتلك السياسة أن باتت مسقط أحد أكثر الوسطاء حضورًا في الملفات الحساسة إقليميًا، ولعل أشهر الأدوار التي قامت بها في هذا المضمار دورها في إطلاق سراح السجناء المحتجزين في إيران، بما في ذلك 3 مواطنين أمريكيين عامي 2010 و2011، هذا بخلاف الاتفاق النووي الإيراني والوساطة في الأزمة الخليجية الأخيرة.
لكن بعد رحيل قابوس وتولي السلطان هيثم بن طارق مقاليد الحكم، تغيرت الخريطة الإقليمية بصورة كبيرة، وفرضت الكثير من التحديات نفسها على الساحة، لا سيما التوتر القائم بين أمريكا وإيران، أو الأزمة الخليجية، بجانب الوضع الملتهب في اليمن الحدودية.
السلطان الجديد بعد تنصيبه أكد استمرارية سياسة سلفه الحيادية، وعدم التدخل في شؤون الغير والحفاظ على التعايش السلمي، محافظًا على المسافة الواحدة التي كان يتبعها قابوس، هذا رغم الأجواء المشتعلة في المنطقة التي تتطلب من الجميع اتخاذ الحيطة اللازمة.
لكن المستجدات الأخيرة التي فرضت نفسها على المشهد ربما تدفع الجميع لإعادة النظر في المرتكزات السياسية السابقة، فالتوترات التي تشهدها حدود السلطنة مع اليمن عبر محافظة المهرة، والتدخلات السعودية الإماراتية وما تحمله من تقويض لسيادة واستقلال عمان، كل هذا ربما يلقي بظلاله على العقلية الحاكمة في البلاد.. فهل تضطر مسقط للتخلي عن سياسة الحياد التي طالما التزمت بها لعقود طويلة دفاعًا عن أمنها القومي؟
المهرة.. أمن السلطنة القومي
تتشارك السلطنة بشريط حدودي مع اليمن بطول 183 ميلًا، يتقاطع معظمه مع محافظة المهرة، تلك المحافظة التي تمثل بعدًا إستراتيجيًا مهمًا للعمانيين، ولذا تعاطت عمان مع الحرب اليمنية بصورة مختلفة تمامًا عن نظيراتها من البلدان المجاورة، ففتحت حدودها لاستقبال النازحين وغضت الطرف رويدًا عن عمليات التهريب الحدودية تجنبًا لتفاقم الأوضاع وخروجها عن السيطرة.
ورغم الأزمة التي تتعرض لها السلطنة بسبب تراجع أسعار النفط وتداعيات أزمة كورونا، فإنها لم تفكر مطلقًا في تشديد القيد على الحدود مع المهرة، فاتحة الباب أمام حركة التجارة غير المشروعة في معظمها للإبقاء على الحد الأدنى من الحياة والاستقرار في تلك المنطقة.
ورغم الصراعات القبلية التي تشهدها تلك المحافظة التي تهدد أمنها، فإن للدبلوماسية العمانية دورها المشهود في تخفيف حدة هذا التوتر ووأد أي مساعٍ للفتنة قبل ولادتها تجنبًا لتصاعد الأجواء بما ينعكس على الأمن القومي العماني الذي يواجه تحديات جسام في هذه المرحلة المتوترة في الإقليم برمته.
ولطالما حذر السلطان قابوس السعودية من تدخلها العسكري في اليمن في مارس/آذار 2015 لما يمكن أن ينطوي عليه هذا التدخل من مخاطر تهدد أمن السلطنة، غير أن الرياض ومعها أبو ظبي أكدتا أكثر من مرة أن هزيمة الحوثيين ستكون سريعة وحاسمة، وستعود الأجواء إلى ما كانت عليه قبل ذلك من حيث الهدوء والاستقرار، وهو ما لم يحدث رغم مرور 5 سنوات ونصف على هذا التدخل.
وبعيدًا عن الموقف المشتعل في بقية المدن اليمنية بين الحوثيين وقوات التحالف، ظلت المهرة المحافظة الأكثر هدوءًا، رغم ما تمثله من أهمية إستراتيجية تسيل لعاب الأطراف المتنازعة، ويعود الفضل في ذلك إلى العلاقات الوثيقة بين ساسة السلطنة وشيوخ قبائل المحافظة.
الأمر تغير نسبيًا خلال الفترة الماضية، بعد دخول السعودية والإمارات على خط الأزمة، وباتت طموحات البلدين في المهرة يهددان الاستقرار الذي كانت تتمتع به طيلة السنوات الماضية، فأقامت المملكة وجودًا عسكريًا لها في “الغيداء” عاصمة المحافظة، بجانب وجود آخر في منطقة “حوف” هذا بخلاف التحرش الإماراتي هناك بين الحين والآخر.
في 2011 استطاعت السلطنة إسقاط شبكة تجسس تابعة لجهاز أمن الدولة في الإمارات، هدفها جمع المعلومات العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية عن السلطنة، ومحاولة تجنيد سياسيين وعسكريين في عمان بهدف التخطيط لمرحلة ما بعد قابوس
طموحات السعودية تتصاعد
ينظر السعوديون للمهرة على أنها البوابة الأكثر اتساعًا لتعزيز نفوذ بلادهم في خليج عدن، فلطالما داعب الرياض حلم إنشاء خط أنابيب عبر الأراضي اليمنية وبالتحديد عبر الشرط الأمهري، ما من شأنه أن يقلل من اعتمادها على مضيق هرمز الذي بات مهددًا خلال السنوات الأخيرة من طهران.
وخلال الأشهر الماضية أرسلت السعودية لواءين يتألفان من 2500 جندي في المهرة إضافة إلى 1300 فرد من قوات حرس السواحل اليمني و1500 من أفراد القوات الخاصة تعمل خارج إطار الدولة اليمنية، هذا بجانب سيطرتها على المعابر بين اليمن وعمان وتحديدًا معبري صرفيت وشحن، فضلًا عن حظر حركة التجارة والسماح فقط للجرحى اليمنيين بالعبور إلى عمان، وهو ما ساعد في إحكام قبضتها على مداخل ومخارج المدينة.
إستراتيجية السعودية في توطيد أقدامها في المحافظة اليمنية لا تتوقف على القوة العسكرية الصلبة وفقط، بل وظفت قوتها الناعمة كذلك لتحقيق الهدف ذاته، حيث عملت على إنشاء المدارس ذات المناهج السلفية وبناء مساجد وتعيين أئمة سلفيين، علاوة على تدشين المنشآت الشبابية والمجتمعية المتعددة التي تأسر عقول وقلوب أهالي المهرة.
بعد سياسي آخر في الحضور السعودي في هذه المنطقة يتمثل في الضغط على مسقط التي تعاني من أزمات اقتصادية حادة مؤخرًا، في محاولة لإخراجها قدر المستطاع عن المدار الإيراني الذي تدور في فلكه منذ عقود، هذا بجانب موقفها من الأزمة الخليجية ورفضها الرضوخ للإملاءات السعودية الإماراتية والتزامها سياسة الحياد.
المخطط السعودي لإحكام قبضته على المهرة قوبل برفض شعبي واضح، حيث تصاعدت موجة الاحتجاجات الرافضة لهذا الحضور، وهو ما دفع المملكة إلى إقامة ما يزيد على 26 نقطة تفتيش في المنطقة المحيطة بالميناء النفطي هناك، تجنبًا لأي تصعيد شعبي.
النفوذ الإماراتي.. تهديد مستمر للسلطنة
تنظر الإمارات لسلطنة عمان على أنها أحد أبرز البقاع الإستراتيجية في مجال النقل البحري، لما لها من موقع إستراتيجي مهم، وتتعزز تلك الأهمية من سيادتها على شبه جزيرة مسندم التي تبعد عن مسقط نحو 600 كيلومتر، التي يمر من خلالها نحو سدس إمدادات النفط العالمية.
وتخطط أبو ظبي للسيطرة على تلك الجزيرة، عبر حزمة من الإستراتيجيات التي اتبعتها خلال العامين الماضيين، على رأسها السيطرة على كل الموانئ المحيطة بالمنطقة بهدف تطويقها، وفي 2018 نشرت الإمارات خريطة لتبيان حدودها وجاء فيها أن “مسندم” ضمن أراضيها، وهو ما استفز مسقط بصورة كبيرة.
وبعيدًا عن أطماع الإماراتيين في تلك الجزيرة بهدف التحكم في ممرات النفط العالمية، فإن التوتر بين البلدين لا يقف عند هذا الحد، خاصة أن هناك محاولات إماراتية عديدة للتدخل في شؤون الحكم العمانية من خلال عمليات التجسس التي تقوم بها للاطلاع على تفاصيل الحكم والقدرات الاقتصادية والعسكرية.
بات يقينًا لدى الشارع العماني أن الوجود السعودي الإماراتي أصبح يمثل تهديدًا خطيرًا للسلطنة
يذكر أنه في 2011 استطاعت السلطنة إسقاط شبكة تجسس تابعة لجهاز أمن الدولة في الإمارات، هدفها جمع المعلومات العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية عن السلطنة، ومحاولة تجنيد سياسيين وعسكريين في عمان بهدف التخطيط لمرحلة ما بعد قابوس الذي كان يعاني وقتها من أعراض صحية خطيرة.
ورغم احتواء الأزمة عبر الوساطة الكويتية وقتها، فإن الأمر تكرر مرة أخرى حين اكتشفت أجهزة المخابرات العمانية خلية تجسس إماراتية أخرى في نوفمبر/تشرين 2018، كانت تخطط لشراء أراض عمانية في بعض المناطق الاستراتيجية، الأمر الذي دفع السلطنة لإصدار قرار بحظر تملك تلك الأراضي لغير المواطنين.
ثم يأتي الموقف الإماراتي من المهرة ليضع أبو ظبي في دائرة الشك والريبة بالنسبة للعمانيين، فبعد 4 أشهر فقط من دخول القوات الإماراتية الأراضي اليمنية ضمن قوات التحالف في 2015 دخل الإماراتيون المحافظة اليمنية الحدودية، ملعنة حينها أن الهدف من هذا التدخل دعم السلطة المحلية والحفاظ على الأمن في ثاني أكبر محافظات اليمن وبوابتها الشرقية.
ومع مرور الوقت تكشفت ملامح المؤامرة الإماراتية حيال تلك المنطقة الإستراتيجية، وتبين أن الهدف لم يكن دعم السلطة كما زعمت السلطات الإماراتية وبات القلق ينتاب الجميع خوفًا من مصير جديد كمصير عدن وبعض مدن الجنوب، وهو ما صعد من وتيرة التوتر بين البلدين.
هل تتخلي السلطنة عن الحياد؟
بات يقينًا لدى الشارع العماني أن الوجود السعودي الإماراتي أصبح يمثل تهديدًا خطيرًا للسلطنة، سواء من ناحية التهديد الأمني لها إذ إن الحضور العسكري والناعم لأبو ظبي والرياض في المهرة يهدد السيادة العمانية ويقلص نفوذها الحدودي، أم من الناحية الاقتصادية كونها تعتمد على المنافذ المائية الحدودية المشتركة مع اليمن للحصول على موارد للاقتصاد العماني، ومن ثم فإن خسارة محافظة كالمهرة سيقلص المكاسب الاقتصادية التي تحصل عليها مسقط.
وهنا يبقى السؤال: هل تضطر عمان إلى التخلي عن سياسة الحياد والانحياز إلى جانب في الحرب على اليمن دفاعًا عن أمنها القومي؟ سؤال تحمل الإجابة عنه شقين، الأول يتعلق بالفكرة نفسها من حيث المبدأ، فالتخلي عن الحياد رغم ما يحمله من مخاطر ربما يقوض أمن المنطقة برمتها وليس السلطنة وفقط، إلا أنه قد يكون خيارًا جبريًا لا رفاهية فيه، حال استشعار عمان بتهديد حقيقي يضع مستقبلها على المحك.
أما الشق الثاني فيتعلق بمدى السماح للأوضاع بأن تتطور إلى حد انجرار مسقط لفخ الانحياز لطرف دون آخر، وهو التطور الذي تتجنبه العواصم الخليجية برمتها، في ظل الدور المحوري الإقليمي الذي تقوم به السلطنة كحلقة الوصل بين الأطراف المتنازعة في الخليج، فضلًا عن جهودها الدبلوماسية لاحتواء أي توتر ينشب في المنطقة.
أما ميدانيًا.. فإنه من غير المرجح أن تنجح مخططات السعودية والإمارات في المهرة، فالطبيعة القبلية لمجتمع هذا المدينة عصٍي بشكل كبير على فرض السيطرة عليه، ولشعب تلك المحافظة العريقة تاريخ طويل من النضال ضد النفوذ الأجنبي، هذا بجانب العلاقات القوية التي تربط مسقط بعائلات وقبائل المهرة، الأمر الذي يصعب من المهمة الاستعمارية الجديدة، لتبقى في النهاية في إطار الضغط الممارس لكسب مواقف سياسية داعمة لتوجهات المملكة وحلفائها.