تَنمُ أسرار الحياة البرية التي تمنح لصحافة الأرض ميزتها الفريدة عن إيقاع غني تزخر به الكتابة عن الطبيعة، سابرة في أغوار كوكبنا الذي ما زال يلفه الغموض، لتكشف لنا عن بديع صنع وأنماط حياة لم نكن لنسمع عنها ولنشهد روعتها قط، بعدما أعمتنا أضواء المدينة وابتلعنا روتينها داخل دوامة لا مناص من الإفلات منها إلا عبر رحلة استكشافية في سفوح الجبال وبين الأدغال ومجاري الوديان القابعة في الروابي المتوارية عن أنظار البشر.
تزداد الأمور سوءًا حينما نبتعد عن المناطق الأكثر تحضرًا في أوروبا وأمريكا الشمالية، نحو الأماكن التي تتلاشى فيها سيادة القانون، وقد يجعلك هذا تتعرض للضرب والمضايقة والتهديد، إذ كشفت لجنة حماية الصحفيين أن 13 صحفيًا يتابعون قصصًا بيئيةً لقوا حتفهم في أثناء آدائهم عملهم خلال السنوات العشرة الماضية. وعلى طرف النقيض، يميل الكثير من الناس إلى الاعتقاد أن للصحافة البيئية “إيقاعًا هزيلًا، لأنها تغطي الحياة الطبيعية للدلافين والدببة القطبية والطيور وأشجار الصنوبر وقصص عطش الناس وانهيار المناخ.
انهماك لا يذهب سدى
من السمات التي تلازم هؤلاء الصحفيين صحوة الضمير، فعندما تحكي قصة الثعلب الطيار وهو يحلق فوق سماء جزر المالديف، فإنك تكون شاهدًا في الوقت نفسه على مدى هشاشة موطن هذا الخفاش الأكبر، وترى بأم عينيك جنة الأرض هذه التي سيبتلعها البحر مستقبلًا بسبب انهيار قطع الجليد الصافي، في مشهد تراجيدي يثير إحساسك بالحسرة على أرخبيل فريد الجمال، أصبح ضحية للتغير المناخي الذي تقع المسؤولية العظمى منه على البشر.
ربما يقضي الصحفي المتخصص في شؤون البيئة شهورًا أو سنوات في عوالم نائية مع عشائر الفيلة الكبرى ذات الأنياب في أدغال إفريقيا جنوب الصحراء، حيث يتواصل صيدها الجائر وتجارة العاج غير المشروعة، أو مع أسراب البطريق الجميلة التي تعيش في القارة القطبية المتجمدة أنتاركتيكا المهددة بالانقراض، ولم يكن لهذا الانهماك أن يذهب سدى، بل أثمر قصصًا ليست كباقي القصص.
الشغف لاكتشاف العالم من حوله هو ميزة الصحفي العلمي الذي يتمتع بذاكرة حافظة للبيانات ولديه نهم للقراءة وإلمام بفنون التحرير الصحفي والتعامل مع المصادر واستقصاء المعلومات وفحص البيانات، علاوة على إدراكه للعلوم أو على الأرجح استعداده للتعلم والتواصل مع المجتمع العلمي من باحثين وعلماء وأبحاث ودراسات، لهذا ليس هناك منهج مُحدد يجب على الصحفي أن يسير عليه ليصبح محررًا علميًا، بل هو ملزم أن يعلم نفسه بنفسه، حتى يكون قادرًا على تبسيط المفاهيم المعقدة للقراء.
لا يعني هذا بالضرورة أن يتحول الصحفي إلى خبير في الجغرافيا والأرصاد الجوية، أو تحويل الصحف إلى نشرات لهيئة الأرصاد الجوية، وإنما يعني الحاجة إلى صحفيين أكفاء لديهم القدرة على تغطية القضايا البيئية مع قدر من المعرفة بالشأن البيئي، وعلاقة جيدة بمصادر من الخبراء والعلماء المختصين.
العمل صعب والمكافأة كبيرة
تتداخل القضايا البيئية مع الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وما ثبت هو أن معالجة البعد البيئي لقضية معينة، تتطلب إلمامًا بالتخصصات المتداخلة، كما يستغرق إعداد قصص بيئية فترة زمنية أطول من تلك التي يتطلبها إعداد تقارير إخبارية عادية، لأنها تستلزم مراجعة عدد من الجوانب العلمية والتقنية والإحصائية.
التحقيق الاستقصائي هو سيد الكتابة في هذا المجال من الصحافة المتخصصة، خاصة إذا كان الحديث عن سلبيات وليس إيجابيات، لأن التقرير البيئي لا يحقق توازنًا ينحاز للحقيقة الكاملة وينتصر للقضية البيئية، بل عادة ما يتحرك القلم لتحريره عندما يشتكي سكان مدينة من تغير لون مياه الصنابير مثلًا أو يتعلق الأمر بعاصفة أو زلزال أو فيضان وغيرها من الكوارث الطبيعية.
إنه لعمل صعب، ذلك أن الاستقصاء يعد طريقًا ملائمًا للحصول على الحقائق أو اكتشافها، من خلال سعي الصحفي للحصول على أكبر قدر ممكن من التفاصيل والأدلة، حتى لو كانت نتائجه غير فورية، لأن القصة لا يتم بثها سريعًا هكذا، لكن عندما يحدث ذلك، تكون المكافأة كبيرة.
الربيع الصامت.. شرارة النضال البيئي
للكتابة عن البيئة تاريخ طويل يعود إلى السرد الاستكشافي لكريستوفر كولومبوس الذي قاد منذ عام 1492 أربع رحلات استكشافية بتمويل إسباني عبر المحيط الأطلسي، أدت إلى اكتشاف القارتين الأمريكيتين اللتين كانتا خارج النظام السياسي والاقتصادي للعالم القديم.
في أعقاب أول رحلة عبر المحيط، كتب كولومبوس تقريرًا موجزًا عن “جزر الهند من وراء نهر الغانج”، وكان قصده إعلان اكتشافاته الأخيرة وحشد الدعم المالي والسياسي لرحلة أخرى.
آمن كولومبوس بفكرة كروية الأرض، وساعدته خبرته في الملاحة البحرية ومعلوماته الجغرافية، على خوض اكتشافاته
في بادئ الأمر طُبعت الرسالة بالإسبانية في أبريل/نيسان 1493، وفي وقت لاحق من نفس العام طُبعت الترجمة اللاتينية للرسالة حيث عُممت على نطاق واسع ونشرت في أرجاء أوروبا أخبار اكتشافات كولومبوس.
ألهم راشيل كارسون أجيالًا من المناضلين البيئيين
“الربيع الصامت” كان محفز الحركات المناصرة للبيئة، إذ يشير العلماء إلى أنها نشأت في العالم بعد عقدٍ من صدور هذا الكتاب Silent Spring الذي نشره راشال كارسون سنة 1962، من خلاله أكد أن الاستخدام الواسع لمبيد “دي دي تي” تسبب في قتل ملايين العصافير المحبوبة لدى الأمريكيين، ومن هنا جاءت تسمية الربيع الصامت، حيث ساهم المبيد في إضعاف بيضها، أيضًا كان المغزى من تأليف هذا الكتاب هو تحذير الناس من أن الدور سوف يأتي عليهم.
وهكذا توازى ظهور الصحافة البيئية كمهنة متخصصة مع بروز الحركات والمنظمات البيئية خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، حيث ساعدت على زيادة الوعي بالأزمة البيئية التي بدأت ملامحها تلوح في الأفق.
عالم لا تتشابه كائناته
صحافة الأرض كشفت عالمًا لا تتشابه كائناته ويزخر بتنوع عجيب يبعث على الانبهار، فغالبًا يعمل الصحفيون العلميون والمستكشفون على تصوير أماكن وكائنات ورواية حكايات قد تصبح في خبر كان بعد جيل من الآن، وقد ينحصر وجودها فقط على صفحات المجلات والصحف والمواقع والشاشات الصغيرة.
بإيقاف عجلة الزمان والمكان لاقتناص لقطة ثمينة من كوكبنا ورواية تفاصيلها، تصير كل قصة قنبلة إغراء موقوتة قادرة على تفجير جمال عاملنا وتبصيرنا بمفاتنه على نحو يجعلنا نتأمله بانبهار لنجده مختلفًا تمامًا عما ألفته أعيننا.