يعد النزاع الحدودي بين أذربيجان وأرمينيا الذي انتهى باتفاق لوقف الحرب بين البلدين برعاية روسية، أحد أبرز المعارك التي فرضت نفسها على دوائر الاهتمام الإقليمي والدولي، لما قدمته من دروس مستفادة يمكن الوقوف عليها في قراءة أي معركة مستقبلية.
الاتفاق الذي دخل حيز التنفيذ مع الساعات الأولى ليوم الثلاثاء 10 من نوفمبر/تشرين الثاني 2020، ويقضي بإعادة مناطق أذربيجانية احتلتها أرمينيا منذ أغسطس/آب 1993، وذلك بعد معارك ضارية بين الجانبين استمرت قرابة 50 يومًا متواصلة، جاء بمثابة القشة التي أنقذت يريفان من هزيمة تاريخية.
ولم تكن موافقة الأرمن على هذا التموضع الجديد – الذي وصفه الرئيس الأذري إلهام علييف بـ”الاستسلام” – إلا بعد اليقين الكامل بأن جيشهم سقط وبصورة رسمية أمام الإمكانات العسكرية غير المسبوقة للجيش الأذري وكان لتركيا كلمة السر في حسم المعركة ميدانيًا.
ورغم أنه من السابق لأوانه اختبار مدى صمود هذا الاتفاق في مواجهة المناوشات والتحرشات العسكرية المتبادلة بين الطرفين في ظل حالة الغضب التي تخيم على الشارع الأرميني ضد حكومته بسبب هذا الإجراء الذي تطور إلى الهجوم على مقر الحكومة والبرلمان، فإنه وحتى اللحظة الراهنة فإن الدروس التي قدمتها تلك المعركة تستوجب الدراسة والبحثç
انتصار قبل بدء المعركة
شتان شتان بين القتال عن عقيدة قانونية شرعية والقتال دفاعًا عن أراضٍ محتلة، فالمتابع لميدان المعركة في قره باغ يجد أن الجيش الأذري يحارب داخل أرضه من الناحية القانونية، ومن ثم فهناك إيمان بالقضية في المقام الأول من أجل استعادة كامل الإقليم.
الاستناد إلى خلفية قانونية أحد العوامل التي كان لها دور مؤثر في تقوية جبهة الجيش الأذري الذي يدافع لأجل استرداد أراضيه المحتلة منذ 29 عامًا، وأمام إيمانه الشديد بعدالة قضيته صعّد من هجماته وإستراتيجيات القتال إلى الحد الذي بات على مشارف عاصمة الإقليم، في الوقت الذي يتقهقر فيه الأرمن.
وكان مجلس الأمن الدولي قد أصدر 4 قرارات أممية عام 1993 (822 و853 و874 و884) دعت جميعها إلى سحب أرمينيا قواتها العسكرية من قره باغ وبعض الأراضي المتاخمة لها، وإعادتها إلى السيطرة الأذرية، لكن السلطات الأرمينية لم تلق بالًا لتلك القرارات، مواصلة انتهاكاتها وعملياتها العسكرية على مدار ربع قرن كامل.
اللجوء إلى القوة العسكرية لإحداث الفارق ميدانيًا مع تفعيل الجهود الدبلوماسية في التعاطي مع الوساطات الدولية والإقليمية للتوصل إلى اتفاق، كان العامل الفصل في حسم المعركة
الدبلوماسية ليست الحل الأفضل دائمًا
فشلت الدبلوماسية الأذرية في الحصول على الحقوق المسلوبة على مدار 29 عامًا، فالدبلوماسية الناعمة كثيرًا ما تفقد بريقها وتأثيرها ما لم ترافقها قوة عسكرية قادرة على حمايتها والدفاع عنها، ففي عصر القوة تبقى الدبلوماسية وحدها عنصرًا غير فعّال في كثير من الأزمات، لا سيما التي يستند فيه طرف دون الآخر إلى عنصر القوة.
ولطالما طرق الأذر أبواب المنظمات الدولية لاستعطافها في الحصول على قرار يعيد لها أراضيها المحتلة، ورغم صدور 4 قرارات، فإن الأرمن ضربوا بها جميعًا عرض الحائط، وهو الأمر الذي كان من الممكن أن يستمر على المنوال ذاته لعقود طويلة قادمة إذا بقي الوضع على ما هو عليه.
غير أن اللجوء للقوة العسكرية لإحداث الفارق ميدانيًا مع تفعيل الجهود الدبلوماسية في التعاطي مع الوساطات الدولية والإقليمية للتوصل إلى اتفاق، كان العامل الفصل في حسم المعركة، لذا ما كان الوضع ليتغير لولا التدخل التركي المباشر على خط الأزمة الذي قلب الموازين بأكملها.
لقد استقر في يقين الجانب الأذري أن الحل في شقه الأكبر سيكون عسكريًا ثم سياسيًا ودبلوماسيًا في الشق الباقي، لتثبت هذه المعركة فشل الإستراتيجيات القديمة في التعامل مع الأزمات الممتدة تاريخيًا، فمن يفرض حضوره عسكريًا هو من يضع شروط التفاوض سياسيًا وليس العكس.
وبالنتائج التي حققتها تلك المعركة والاتفاق المبرم بين الجانبين واسترداد جزء كبير من المدن الأذرية، تدخل هذه الحرب التاريخ من أوسع الأبواب، كونها السابقة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية تستعيد دولة أراضيها المحتلة بعد فشل 29 عامًا من المفاوضات.
فرنسا ليست محايدًا نزيهًا
كشفت تلك الحرب زيف شعارات الحيادية التي ترفعها بعض الأوساط الأوروبية وعلى رأسها فرنسا، التي افتضح أمر انحيازها الفج لصالح الجانب الأرمني على حساب طرف النزاع الآخر، الأمر الذي يفقدها وساطتها المزعومة، وهو ما دفع أذربيجان إلى إعلان أن باريس “ليست طرفًا محايدًا”.
التحرك الفرنسي لدعم أرمينيا في جزء كبير منه يستند إلى تأثير اللوبي الأرمني في فرنسا، ومحاولة كسب دعم تلك الجالية الكبيرة للرئيس إيمانويل ماكرون الذي يعاني من تراجع كبير في شعبيته مؤخرًا، إلا أن هناك جزءًا آخر في هذا التحرك يتمثل في نكاية تركيا ومناكفتها أينما حلت.
المتابع لخريطة التحركات الماكرونية في الآونة الأخيرة يجد أن هناك عاملًا مشتركًا فيها جميعًا، وهو الحضور التركي، فتجده معارضًا لأنقره في البحر المتوسط، منحازًا لليونان وقبرص، مناقضًا لموقف أنقرة في ليبيا، وهكذا بات من الواضح أن ماكرون يحاول توظيف تلك السياسة الكيدية لتعزيز موقع بلاده داخل الاتحاد الأوروبي ودعم موقفه السياسي المهترئ داخليًا.
اليوم باتت موسكو وحدها من تلعب هذا الدور، ورغم انحيازها السياسي النسبي بداية الأمر إلى الأرمن، فإنها نجحت في العودة سريعًا من أجل القيام بالوساطة تجنبًا لتصاعد الأزمة بما ينعكس سلبًا على مصالح العديد من القوى في تلك المنطقة الإستراتيجية في العالم، منطقة القوقاز.
روسيا تعلم أن النصر الساحق للأذر سيقوي موقفها وسيفتر علاقتها بموسكو، وفي الوقت ذاته لا تريد خسارة كاملة للأرمن ما يدفعهم للارتماء في أحضان الغرب مرة أخرى، وعليه لجأت إلى سياسة مسك العصا من المنتصف
روسيا لا تريد أوكرانيا جديدة
التطورات الميدانية دفعت موسكو لالتزام سياسة المواربة بصورة كبيرة، واضعة مصالحها الإستراتيجية نصب أعينها في أي تحرك من شأنه أن يحسبها على طرف دون آخر، ومع أنها لم تتدخل عسكريًا لنصرة الأرمن المدعومين من الكرملين طيلة السنوات الماضية، فإنها نجحت في إيقاف الحرب وإنقاذ يريفان من هزيمة قاسية.
روسيا تعلم أن النصر الساحق للأذريين سيقوي موقفهم وسيفتر علاقتهم بموسكو، وفي الوقت ذاته لا تريد خسارة كاملة للأرمن ما يدفعهم للارتماء في أحضان الغرب مرة أخرى، وعليه لجأت إلى سياسة مسك العصا من المنتصف، نصر أذربيجاني مع الإبقاء على حظوظ الأرمن قائمة.
وهنا تساؤل يفرض نفسه: لماذا لم تدخل روسيا عسكريًا لنصرة الأرمن؟ وللإجابة عنه لا بد من معرفة أهمية أذربيجان بالنسبة لموسكو، فالروس يحتاجون تلك الدولة التي تحتل موقعًا إستراتيجيًا مهمًا، كما أن باكو تمتلك مصادر طاقة يمكنها أن تلعب دورًا محوريًا في سوق الطاقة العالمي مستقبلًا، بخلاف منفذها البحري، بوابة عبور الغاز الروسي لأوروبا، ولعل هذا ما يميز أذربيجان عن دول أخرى في تلك البقعة مثل جورجيا وأوكرانيا وأرمينيا.
تجنب الدب الروسي الولوج في حرب عسكرية مع أذربيجان، بخلاف البعد الاقتصادي الإستراتيجي، فهناك أيضًا بعد سياسي آخر، يتمثل في تجنب تكرار النموذج الأوكراني، الذي أفسد علاقة موسكو بدول العالم، وعليه فإن الوقوع في نفس الفخ مرة أخرى، مسألة حساسة للكرملين، من الصعب أن يعيدها مرة أخرى.
رهان خاسر
كشفت حرب القوقاز برمتها أن الارتماء في أحضان الغرب والتعويل على الحكومات الأوروبية رهان خاسر، فتلك الدول لا تتحرك إلا وفق بوصلة ميكافيللية في المقام الأول، وعلى مدار سنوات التفاوض الـ28 فشلت أوروبا في دعم حليفتها الأرمينية إلا بمواقف باهتة كان الجانب الأذري فيها يعتمد على الحلول الدبلوماسية الجوفاء.
ولعقود طويلة ظلت أزمة أذربيجان – أرمينيا في مرتبة متأخرة ضمن قائمة اهتمامات القارة العجوز، تاركة الساحة لحرب تكسير عظام بين الطرفين، ولم تمل الكفة بصورة راجحة مؤخرًا إلا حين تدخلت روسيا على الخط قبل سنوات، داعمة للجانب الأرمني قبل أن تتحول الدفة إلى الجانب الآخر بعد الدخول التركي.
لكن مع التطورات الأخيرة وفرض أنقرة إستراتيجيتها العسكرية التي كان لها القول الفصل في استرداد أذربيجان جزءًا كبيرًا من أراضيها المحتلة من أرمينيا المدعومة من القوى الأوروبية، فإنه من المتوقع أن يفرض هذا الملف نفسه مجددًا على موائد النقاش الغربي.
والملف الذي كان مهملًا بالأمس سيكون له الصدارة مستقبلًا، إذ من المرجح أن ينظر إليه في سياق العلاقات مع موسكو وأنقرة، ونجاحهما في سحب البساط من تحت حكومات الغرب، لا سيما فرنسا التي سيقاتل رئيسها لاستخدام هذا الصراع لتأكيد نفسه كقائد حقيقي لـ”أوروبا موحدة”.
إن كان هناك خاسر حقيقي بعد الأرمن في تلك الحرب فهي إيران بلا شك، التي لجأت إلى سياسة الحياد في تعاملها مع المعركة منذ انطلاقها، ورغم ميلها السياسي إلى الجانب الأرمني، فإن موقفها ظل باهتًا، مكتفية بتحذيرات من تهديد القتال بين الطرفين لحدودها وأمنها القومي
خسائر الحياد
الكثير من إستراتيجيات الحياد تقي أصحابها مغبة الولوج في مستنقع الحروب والأزمات، وتضمن له وضعية مستقرة نسبيًا مقارنة بأطراف النزاع، لكن في بعض المعارك قد يكون الحياد خسارة، خاصة في حال تقاطع المصالح ودخول العديد من القوى الأخرى على خط الأزمة.
وإن كان هناك خاسر حقيقي بعد الأرمن في تلك الحرب فهي إيران بلا شك، التي لجأت إلى سياسة الحياد في تعاملها مع المعركة منذ انطلاقها، ورغم ميلها السياسي إلى الجانب الأرمني، فإن موقفها ظل باهتًا، مكتفية بتحذيرات من تهديد القتال بين الطرفين لحدودها وأمنها القومي، وذلك مقارنة بالموقف التركي الذي رغم تشابه الظروف، كان القرار مختلفًا، ومن ثم النتائج.
وكان نتاجًا لتلك السياسة أن تراجعت مكانتها السياسية لدى أذربيجان لا سيما بعد موافقة يريفان على فتح ممر عبر الأراضي الأرمينية بين ناخشيفان وباقي الأراضي الأذرية، كما استطاع الروس أن يطئوا بأقدامهم الشريط الحدودي الإيراني، الأمر الذي ربما يجبر طهران على إعادة النظر في موقع هذا الملف ضمن قائمة أولويات سياستها الخارجية.
وهكذا أجبرت معركة قره باغ بما أسفرت عنه من نتائج وما استحدثته من تطورات ميدانية على الأصعدة كافة، السياسية والعسكرية، أن تفرض نفسها بقوة على المشهد الدولي، لتدفع الأنظار إليها في انتظار ما يمكن أن تسفر عنه الجهود الدبلوماسية الأخيرة لإنهاء أحد أطول النزاعات المستمرة في العصر الحديث.