كثيرا ما ينادي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بضرورة اجتثاث ما يصفه بـ “الإرهاب الإسلامي” من بلاده ومحاربة المنتسبين إليه -وهذا نهج جميع رؤساء الجمهورية الفرنسية دون استثناء- لكن لم نسمعه يوما يتحدّث عن “إرهاب” أبناء جلدته المنتمين إلى جماعات اليمين المتطرّف التي تنادي علنا وصراحة بمحاربة المسلمين والمهاجرين وضرورة ترحيلهم من فرنسا.
وهي جماعات يمينية متطرّفة نمت وتغذّت وانتشرت من خطاب القادة الفرنسيين، الذين دائما ما يعلقون كراهيتهم للمسلم والمهاجر على شماعة ما يطلقون عليه “الإرهاب الإسلاموي”، مثل حركة “جيل الهوية”، المعروفة بمواقفها وممارساتها المناهضة للإسلام والمهاجرين، وهي تصرّح بذلك علنا منذ أن تأسست عام 2012.
أمام القضاء
حتى يقال إن المعاملة نفسها، بدأ القضاء الفرنسي اليوم الثلاثاء محاكمة 3 أشخاص منتمين إلى الحركة المتطرّفة بتهم الاعتداء على مراهقة (14 عاما) من أصول مغاربية في يناير/كانون الثاني 2018 والتحريض على عمل إرهابي، وذلك على خلفية فيلم استقصائي من إنتاج قناة الجزيرة، بعنوان “جيل الكراهية” (Generation Hate)، كشف قبل سنتين النقاب عن أنشطة اليمين المتطرف في فرنسا.
من بين المتهمين الثلاثة، ريمي ف. الذي يواجه عقوبة السجن لـ 5 سنوات، بعدما تحدث عن هجوم بسيارة على سوق في حي شعبي بمدينة ليل، فيما سيمثل المتهم إتيان ف. أمام محكمة ليل الجنائية بتهمة “التحريض العام على الكراهية أو العنف” لا سيما بسبب أدائه التحية النازية، كما يوجّه للمتهم الأخير، غيوم د. تهمة “العنف في تجمع”.
تعتبر معاداة الإسلام والمهاجرين من أهم المواضيع على أجندة هذه الحركة اليمينية المتطرّفة، فهي تعمل على ترحيل المهاجرين خاصة المسلمين منهم
وثّق الفيلم مشاهد عنيفة وصادمة وألفاظا عنصرية لأعضاء الجماعة المتطرفة ذات التوجه النازي، وهم يؤدون التحية النازية قبل الاعتداء بالضرب المبرح على الفتاة في مدينة شمال فرنسا، كما تضمن الفيلم تصريحات عنصرية لأحد عناصر جماعة الهوية خلال تحريضه على قتل واستهداف المسلمين، قائلا: “إذا أصبت يوما ما بمرض مزمن لا يرجى منه الشفاء، فسأشتري مسدسا، وسأرتكب مجزرة في مسجد مثلا”.
ورغم ثبوت التهم بالدليل القاطع، إلا أن الرئيس ماكرون، الذي لا يترك فرصة إلا ويتهجّم فيها على الإسلام بحجة حماية حرية التعبير والحفاظ على نمط العيش الفرنسي، لم يتحدّث أبدا عن هذه القضية ولا عن هذه الحركة المتطرّفة، وهي خطوة ليست منتظرة أو متوقعة، وإنما تشير إلى ازدواجية معاييره وعنصريته العمياء تجاه الإسلام، ولا سيما أن الشرطة الفرنسية تسجل اعتداءات ضدّ المهاجرين ينفّذها عناصر “جيل الهوية”.
معاداة الإسلام والهجرة
تأسست هذه الحركة السياسية التابعة لليمين المتطرّف، في سبتمبر/ أيلول 2012 وهي تنشط بشكل رئيسي في فرنسا، وتوصف بأنها قومية بيضاء وفاشية جديدة ومعادية للإسلام، وقد تمّ الإعلان عن تأسيسها عبر شريط فيديو بعنوان “إعلان الحرب” ، وفيه سلسلة من صور النشطاء الشباب تشرح أسباب مشاركتهم في الحركة اليمينية التي ترى بأنها “مجتمع مقاتل” يهدف إلى “الجمع بين الفتيان والفتيات في جميع أنحاء أوروبا”.
وتدعو الحركة المتطرّفة، الشباب الأوروبي إلى “مواجهة أولئك الذين يريدون إلقاء اللوم على حياتنا وأفكارنا، مواجهة توحيد الشعوب والثقافات، مواجهة موجة الهجرة الجماعية، مواجهة مدرسة تخفي تاريخ شعبنا عنا لتمنعنا من محبتهم، مواجهة العيش معًا المزعوم الذي يتحول إلى كابوس..”، فمن أهم أولوياتها ترحيل اللاجئين خاصة المسلمين منهم ووقف موجات الهجرة نحو أوروبا، حفاظًا “على الثقافة الأوروبية المسيحية”.
واختارت حركة جيل الهوية حركة “لامدا” كرمز لقتالهم ضدّ “أعدائهم”، وهو أحد حروف الأبجدية اللاتينية، الذي كان يضعه بعض المحاربين اليونانيين فوق دروعهم في أثناء حربهم ضد الفرس.
لا يخفي أنصار الحركة، نزعتهم الإرهابية وإعجابهم بالنازية وتبنيهم للعنف، فهم كغيرهم من الحركات اليمينية المتطرّفة التي تعتمد على العنف للوصول إلى هدفهم، إذ إن تقرير للاستخبارات البلجيكية كشف أن اليمين المتطرف في أوروبا الغربية بدأ بتغيير نمط أنشطته، وأن قيادات بعض مجموعاته المتطرفة بدأت بأمر عناصرها بالتدريب على الرماية وحيازة أسلحة بطرق قانونية أو غير قانونية.
ووصف التقرير الشكل الجديد لليمين المتطرف بـ”اليمين المتطرف ذو الياقة البيضاء”، وقدم حركة “جيل الهوية” في فرنسا كنموذج لليمين المتطرف ذو الياقة البيضاء، ولفت إلى أن هذه المجموعة تحاول لفت الأنظار إليها عبر الإعلام، وتدافع عن “الهوية المسيحية لأوروبا”.
أعمال إرهابية عدّة
صنعت هذه الحركة اليمينية المتطرّفة اسمًا لنفسها من خلال احتلال مسجد كان قيد البناء في منطقة بوكسيرولي التابع لمدينة بواتييه غربي فرنسا في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2012، حيث رفع أنصارها الذي يُقدّر عددهم بـ 73 فردا لافتتيْن كبيرتين توضح الأولى اسمَ الحركة، وتحيل الثانية بحملها رقم 732 إلى السنة الميلادية التي هزم فيها شارل مارطل المسلمين وأوقف تقدّمهم نحو قلب فرنسا ومنها إلى الشمال فما بعد.
اختار المتطرفون هذه المدينة الصغيرة لرمزيتها لأنها شهدت سنة 732 الحرب التي أوقفت التقدم الإسلامي بعد فتح الأندلس، وكانت منطقة بوكسيرولي من ضمن مسرح المواجهة في تلك الحقبة التاريخية. ثم ظهر في موقع “جيل الهوية” على شبكة الإنترنت نصًا بعد اقتحام المسجد، يقول:”لا نريد هجرة من خارج أوروبا ولا نريد بناء مساجد جديدة في التراب الفرنسي”.
يقوم عناصر تابعين لهذه الحركة بالحشد والتعبئة ضد استقبال بلادهم للمهاجرين
سنة 2013، أطلقت الحركة حملة “جيل ضد الحثالة”، هدفها إدانة “انعدام الأمن العام” في المدن وفي وسائل النقل العام، ودعوة الشباب الفرنسي إلى تعلم كيفية الدفاع عن أنفسهم، لأن الدولة تظهر أنها غير قادرة على ضمان النظام والعدالة، وتتكرر مفاهيم “الدفاع” و “الحماية” في جدلية “جيل الهوية”، التي تعرّف نفسها على أنها “خط المواجهة” للشعب الفرنسي.
وبذل عناصر تابعين لهذه الحركة جهودًا للحشد والتعبئة ضد استقبال بلادهم للمهاجرين، فقد سبق أن استأجر البعض منهم سفن –بعد جمعهم لتبرعات من أناس يقاسمونهم الفكرة- لاستهداف قوارب إنقاذ اللاجئين ومنع وصولهم إلى أوروبا، كما استهدفوا مقرات الجمعيات غير الحكومية التي تساعد المهاجرين غير النظاميين.
في أبريل/ نيسان 2018 أيضًا نشر عناصر تابعين للحركة ذاتها لافتات ضد الهجرة على الحدود الفرنسية الإيطالية، وحملت هذه اللافتات رسالة، مفادها:”تم إغلاق الحدود. لن تجعل أوروبا وطنك”.
إضافة إلى كل ما سبق، قادت الحركة المتطرّفة نشاطا في غابة كاليه التي تضمّ مخيم ضخم يستوعب ما يصل إلى 10000 مهاجر يرغبون في العبور إلى إنجلترا، حيث أغلق من 80 إلى 130 من نشطاء جيل الهوية ثلاثة جسور تربط غابة كاليه بوسط المدينة لعدة ساعات لمنع الأكل عنهم فضلا عن الاعتداء على المهاجرين.
آخر جرائم هذه الحركة، كان في نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عندما هاجم فرنسي أبيض في الثلاثينيات من عمره يرتدي سترة مكتوب عليها “الدفاع عن أوروبا“، مجموعة من المارة في مدينة “أفينون” الجنوبية، وقد لقي المهاجم حتفه على يد الشرطة، لأنه لم يلق سلاحه، لكن الحكومة الفرنسية، أعلنت أنه لن يتم التحقيق بالحادث على أنه “هجوم إرهابي”، بخلاف نظرتها لحادث الطعن بمدينة نيس (جنوب شرق) الذي وقع قبله بساعات.
واقعة “أفينون” الأخيرة، تؤكّد ازدواجية الخطاب الفرنسية، فأي هجوم يكون منفذه مسلم أو عربي مباشرة يتم نعته بالإرهابي، حتى قبل التحقّق من هدفه أو الجهة التي ينتمي إليها منفّذ العملية، لكن إن كان منفّذ الهجوم فرنسي فإن السلطات تقول إنه يعاني من اضطرابات نفسية وعقلية.