في فبراير 2017 تم إعلان أسماء مشاهير المعماريين المشاركين في معرض “سيربانتين” السنوي في بريطانيا، هذا الحدث السياحي الهندسي السنوي الذي أصبح في مقدمة الأحداث العامة للتقويم الثقافي العالمي، وكان من بين المختارين لتصميم جناح المعرض هذا العام المهندس الإفريقي دبيبدو فرانسيس كيري، وهو ما لفت أنظار الحضور.
لم يكن اسم كيري مطروحًا على الساحة المعمارية في هذا التوقيت بالصورة التي تؤهله لأن يكون ضمن المعرض الذي يشارك فيه عباقرة العالم من المعماريين أمثال: زها حديد وريم كولهاس وأوسكار نيماير وبجارك إنجلز وفرانك جيري وسو فوجيموتو، ليفرض المعماري الإفريقي اسمه على دائرة الاهتمام الإعلامي.
استطاع دبيبدو المولود في واجادوجو عاصمة بوركينا فاسو عام 1965 أن يقدم نموذجًا فريدًا في الدور التنموي لمشاهير القارة وشخصياتها العامة للنهوض بمجتمعاتهم الفقيرة، ليثبت أن الساسة والزعماء ليسوا وحدهم من يجب أن يسلط عليهم الضوء عند الحديث عن القارة السمراء، فهناك نماذج أخرى لا تقل دورًا ولا تأثيرًا عن الحكام والقادة.
وينسلخ معظم مشاهير العالم الذين قدموا إلى الغرب من مناطق نائية من جذورهم، لا سيما إن كانت هشة فقيرة، غير أن النموذج الحاليّ استطاع أن ينقل خبراته المعمارية في أوروبا إلى مجتمعه الضيق ليصنع منه حالة فريدة تضاهي العالم المتقدم، كما سخر جهوده وأمواله لخدمة أبناء القارة.. فماذا نعرف عن دبيبدو فرانسيس كيري؟
هدف مبكر
رغم ولادته في قرية غاندو التابعة للعاصمة البوركينية (125 ميلًا جنوب شرق واغادوغو) التي تعاني من شح في الموارد الحياتية الأولية كالمياه والكهرباء، وما لهذا المناخ من وأد لأي أحلام مستقبلية، وضع كيري لنفسه خطة لتحقيق حلمه في أن يصبح معماريًا شهيرًا، قادرًا على إحداث الفارق في مجتمعه الضيق والواسع.
وعلى عكس معظم أبناء القرية الذين يعانون من ندرة المدارس وفقدان مقومات التعلم، التحق الطفل الصغير بالمدرسة الثانوية في المدينة، وذلك لكونه نجل عمدة القرية، وقد أبلى بلاءً حسنًا خلال فترة دراسته، ما أهله للحصول على منحة لدراسة الأعمال الخشبية في ألمانيا حين بلغ الـ18 عامًا.
وبعد أن سافر إلى برلين اكتشف أن لا فائدة من دراسة الأعمال الخشبية في بلد يعاني من ندرة الأشجار في الأساس، وهو ما يعني أن دراسته لن تحقق طموحاته التي حملها معه من غاندو، وعليه غير مسار دراسته إلى دراسة الهندسة المعمارية في الجامعة التقنية بالعاصمة الألمانية.
وبينما هو في السنة النهائية للجامعة اشترك في مسابقة لأفضل تصميم معماري، ورغم أن الشاب الإفريقي قضى عدة سنوات في أوروبا، فإن عقله وقلبه ما زالا معلقين ببيئته القديمة، فوقع اختياره على تصميم مدرسة ابتدائية لقريته، مستخدمًا في ذلك الخبرات كافة التي حصل عليها، وقدم نموذجًا معماريًا فريدًا في كيفية تطويع التكنولوجيا للطبيعة بأقل قدر من الموارد.
وجاء تصميم المدرسة بسيطًا في ظاهره لكنه يحمل الكثير من الإبداعات الهندسية، معتمدًا على هياكل مستطيلة بسيطة من الطوب اللبن، ثم توجها بسقف طائر من المعدن المقبب، وقد لاقى هذا التصميم إعجاب لجنة التحكيم التي منحته جائزة الآغا خان للهندسة المعمارية عام 2004، لتكون بذلك نقطة الانطلاقة الحقيقية نحو عالم الإبداع والشهرة.
وتتويجًا لما يتمتع به من مؤهلات رائعة دعُي كيري ليكون مبعوثًا لتلك الجائزة في إفريقيا، حيث جاب العديد من العواصم والقرى بحثًا عن مشاريع نموذجية يمكن تدشينها والمنافسة بها في المسابقات العالمية، لكنه اكتشف خلال زيارته أن هناك إشكالية لدى الكثير من المجتمعات الإفريقية تتعلق بتراجع قدرات الأفارقة على البناء وتقديم هندسة معمارية جيدة، وعليه قرر أن يعيد النظر في خطته لتركز بصورة أكبر على دعم القدرات المحلية على البناء، بدلًا من التركيز على دقة المنتج النهائي، لذا كان شعاره “المساعدة في المساعدة الذاتية”.
نجاح أوروبي
وبعد سنوات معدودة بات كيري يمتلك واحدًا من مكاتب الهندسة الشهيرة في ألمانيا، إذ يضم مكتبه قرابة 12 شخصًا متخصيين في فنون المعمار المختلفة، واستطاع بما له من سمعة طيبة ومكانة مرموقة في هذا المجال أن يفوز بالعديد من المشروعات في مختلف الدول، داخل أوروبا وخارجها.
ففي ألمانيا يصمم متاجر العلامات التجارية مثل Camper والمخططات التجارية الشهيرة هناك، هذا بخلاف إشرافه على بناء عشرات المراكز الطبية والمدارس والجامعات في بعض الدول منها الهند واليمن ومالي، كما أشرف على بناء الحرم الجامعي في مسقط رأس الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في ريف كينيا، الذي أطلق عليه مسمى “Legacy Campus”.
ويتضمن هذا المشروع الذي بلغت كلفته 12 مليون دولار لصالح مؤسسة ماما سارة أوباما (MSOF)، عددًا من البنايات الداخلية التنموية منها مركز لتنمية الطفولة المبكرة ومدرسة ابتدائية وثانوية ومدرسة تدريب مهني ومستشفى، وذلك بهدف دعم نهج مستدام لتعزيز المجتمع والتعليم.
وقد لاقى تصميم هذا المشروع ترحيبًا كبيرًا من الخبراء، وتعليقًا منه على دوافع إدراج تلك البنايات كافة داخل كيان واحد قال: “كل مدرسة داخل هذا الحرم التعليمي تعمل بشكل منفصل، لكنها تتحد عبر مجموعة من الأماكن المشتركة منها الملاعب الرياضية والكافيتيريا، وهي مساحات عامة لتعزز التواصل بين الطلاب وإقامة الحفلات المدرسية والمسابقات الرياضية، ليس لطلاب المدرسة فقط، لكن في المجتمع المحيط أيضًا”.
كما يعد مشروعه “قرية أوبرا” في واغادوغو الذي فاز تصميمه بجائزة الأغا خان أحد أبرز المشروعات الطموحة التي حظيت بإعجاب الكثير من خبراء المعمار في العالم، بخلاف مشروعات أخرى خيرية صممها في عدد من العواصم الإفريقية ذات المستويات المعيشية المتردية.
ونظرًا لما تتميز به مشروعاته من قيمة كبيرة فقد فرضت نفسها على مختلف المعارض والمؤتمرات الدولية، حيث شارك المعماري الإفريقي في معرض الأكاديمية الملكية عام 2014 وبينالي شيكاغو عام 2015 وبينالي فينيسيا بعده بعامين، حيث شارك من خلال مشروع مبنى برلمان وطني على أعلى الطراز المعماري الحديث في وطنه بوركينا فاسو.
وفي سياق متصل فقد فرضت عبقرية كيري نفسها على المنشآت الأكاديمية في العالم، فصار أستاذًا جامعيًا يدرس الهندسة المعمارية في بعض الجامعات منها الجامعة التقنية ببرلين وجامعة هارفارد وويسكونسن، أما عن فلسفته في التعليم فأوضح أنه يسعى للربط بين التعليم النظري والتطبيق العملي، بين المناهج المدرسية والتصميمات المعمارية على أرض الواقع، بحيث يتخرج الطالب ولدية أرضية كبيرة من الوعي بمتطلبات السوق بعيدًا عن التنظير الذي يأتي في النهاية بنتائج عكسية.
وفاؤه لقريته وأبناء وطنه
ورغم كل تلك النجاحات التي حققها المعماري العالمي، فإن القرية لا تزال عالقة في ذهنه، وفي حديث له عن مصدر الإلهام في تصميماته الخيالية قال: “كانت الشجرة دائمًا أهم مكان في قريتي”، مضيفًا “إنها المكان الذي يجتمع فيه الناس تحت ظله للنقاش وأخذ القرارات المهمة والحديث عن الحب والحياة، أردت أن يؤدي جناح المعرض نفس الوظيفة، مأوى بسيط مفتوح لخلق شعور بحرية الاجتماع والحديث وإجراء النقاشات”.
واستطاع كيري أن ينقل الحضارة الأوروبية المعمارية إلى قريته ومحيطها من القرى والمدن المجاورة، فانخرط في تدشين منظومة جديدة من المعمار تقوم على البساطة والتعاطي مع معطيات الواقع وموارده المحدودة، مستغلًا خبراته الكبيرة في تحويل القبيح إلى منابر للجمال والرقي.
النقطة المحورية في حياة فرانسيس أنه خصص عائد مشروعاته في أوروبا لدعم أعمال البناء في بلده، فأقام عشرات المباني والكيانات الكبيرة التي غيرت ملامح الحياة في بوركينا فاسو والدول المجاورة لها، وكان يتقاضى أجرًا رمزيًا على أغلب المشروعات التي كان جزءًا كبيرًا منها بالمجان وعلى نفقته الخاصة.
وهكذا استطاع دبيبدو فرانسيس كيري أن يقدم نموذجًا فريدًا في الدور التنموي الذي من الممكن أن يؤديه مشاهير القارة لدعم أوطانهم، ليؤكد حقيقة أن الأضواء الإعلامية ليست حكرًا فقط على الزعماء والقادة، فهناك تجارب أخرى خارج دائرة الحكم تستوجب الإشادة لما تقدمه من جهد محوري لدفع قاطرة البناء والتنمية في القارة السمراء للأمام.