في اجتماعٍ مغلق عن المهاجرين، يناير 2018، قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب: “لماذا يأتي كل هؤلاء الناس من الدول الحثالة إلى هنا؟” هذا التصريح الذي أثار أزمة حينها مع إفريقيا وأمريكا اللاتينية ومن قبلهما الأمم المتحدة، ورغم التراجع عنه بعد أسبوع خلال اجتماع له مع رئيس كازاخستان نور سلطان نزارباييف، فإن هذا الموقف قد سُجل عليه للكشف عن موقع تلك المناطق في عقلية الرئيس.
خلال ولاية ترامب الأولى تراجعت مكانة إفريقيا في قائمة أولويات الإدارة الأمريكية، وانتابت العلاقات بين أمريكا والقارة حالة من الجفاء السياسي والتراجع الدبلوماسي، فخلال 4 سنوات كاملة لم يقم الرئيس الأمريكي بزيارة واحدة لأي من دول القارة.
العديد من المواقف والتصريحات بين الحين والآخر عمقت حجم تلك الفجوة بين الطرفين، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على النفوذ الأمريكي داخل القارة، الذي يتراجع بصورة ملفتة للنظر، في مقابل تزايد نفوذ قوى أخرى منافسة على رأسها الصين وروسيا، الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات داخل مراكز البحث الأمريكية عن تداعيات تلك السياسة الجافة على مصالح البلاد في تلك القارة الغنية بمواردها وموقعها المتميز.
ومع اقتراب المرشح الديمقراطي جو بايدن من دخول البيت الأبيض، علق البعض العديد من الآمال على إحياء العلاقات بين الجانبين إلى سابق عهدها، خاصة أن المرشح الفائز – وفق البيانات الصادرة عن وسائل إعلام أمريكية حتى الآن – قد استبق ولايته بمؤشرات تعكس نظرة مغايرة تمامًا للقارة مقارنة بالرئيس المنتهية ولايته.. فهل يتغير الأمر؟
ترامب.. جفاء دبلوماسي إفريقي
عمل ترامب منذ مجيئه في يناير/كانون الثاني 2017 على توسيع الفجوة بين بلاده وإفريقيا من خلال بعض المواقف التي قد يفهم منها أنها يعاقب دول القارة، فكانت أول قرارته عقب توليه مقاليد الحكم تقييد تأشيرات الدخول الأمريكية لمواطني العديد من البلدان ذات الأغلبية السكانية المسلمة، وفي مقدمتها دول إفريقيا.
ففي البداية أصدر قرارًا بمنع مواطني ليبيا والسودان من دخول بلاده، ثم وسع الدائرة في يناير 2020 لتشمل دولًا أخرى مثل تنزانيا وإريتريا ونيجيريا، بجانب منعهم من الإقامة في الولايات المتحدة، وهو ما أغلق الباب بصورة نهائية أمام لم شمل الأسر الإفريقية داخل أمريكا.
وانعكس الموقف المتطرف للرئيس حيال القارة الإفريقية على حجم العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، فتراجعت معدلات التبادل التجاري من 61.8 مليار دولار في 2018 إلى 56.8 مليار دولار في 2019، بانخفاض قدره 8.07%، علمًا بأنه في نفس الفترة زادت معدلات التجارة بين الصين والدول الإفريقية خلال الفترة 2018-2019 بنسبة 2.2%، لتصل إلى 208 مليارات دولار.
بينما تسعى كثير من القوى لتعزيز حضورها العسكري في القارة، إذ بترامب يعلن تخفيض حجم قواته المتمركزة في بعض دول إفريقيا والبالغ عددها الإجمالي قرابة 7000 جندي
ويأتي هذا التراجع الواضح في حجم العلاقات الاقتصادية في وقت تشهد فيه دول القارة خطوات جيدة في مجال التنمية رغم تداعيات أزمة كورونا (كوفيد 19)، فبينما تعاني كثير من الدول من تراجع معدلات نموها بسبب هذا الوفاء، فقد أظهرت معظم الاقتصادات الإفريقية ديناميكية واعدة، بمتوسط معدل نمو بلغ 3.4%.
لم يختلف المجال الأمني كثيرًا عن سابقيه، السياسي والاقتصادي، فتراجعت مكانة أمريكا الأمنية داخل القارة، فبعد عقدين كاملين كانت واشنطن شريكًا أساسيًا للقارة أمنيًا لا سيما بعد هجمات عام 1998 على سفارتي الولايات المتحدة في تنزانيا وكينيا، ثم تدشين منظمة القيادة الإفريقية (أفريكوم)، في عام 2007م، تراجعت تلك المكانة بصورة كبيرة في عهد ترامب.
ففي نهاية 2019 وبينما تسعى كثير من القوى لتعزيز حضورها العسكري في القارة، إذ بترامب يعلن تخفيض حجم قواته المتمركزة في بعض دول إفريقيا والبالغ عددها الإجمالي قرابة 7000 جندي، حيث أصدر تعليماته لوزير الدفاع بتقديم خطة لسحب القوات التي تحارب الإرهاب في غرب إفريقيا وبحث إعادة تموضعها في بعض المناطق الأخرى في آسيا.
بايدن.. إرهاصات التغيير
منذ الوهلة الأولى للإعلان عن خوض جو بايدن انتخابات الرئاسة أمام ترامب، كان المرشح الديمقراطي حريصًا على اختيار فريق مستشاريه من ذوي الخبرات الكبيرة في الشؤون الخارجية، حيث استعان بكوكبة لها باع دبلوماسي حيال أكثر من ملف، سياسي كان أو جغرافي.
وفي قراءة متأنية لأسماء هذا الفريق يلاحظ أن القارة الإفريقية كان لها النصيب الأبرز من بين مناطق العالم البعيدة نسبيًا عن دوائر اهتمام أمريكا، وهو ما بعث التفاؤل في نفوس بعض الخبراء بشأن مرحلة جديدة من التعاون والتنسيق متوقع أن تشهدها العلاقات الأمريكية الإفريقية.
ويأتي على رأس الفريق الاستشاري، مستشار بايدن للشؤون الدولية، أنتوني بلينكين، الذي طالما عبر عن دعمه لقيام شراكة أمريكية إفريقية قوية، كما قام برحلات دبلوماسية عدة لبعض دول القارة مثل المغرب ونيجيريا وجيبوتي وجنوب إفريقيا.
يمكن ملامسة الخطوط العريضة لتوجهات بايدن الإفريقية من خلال ورقة السياسات الصادرة عن حملته الانتخابية بعد اختيار هاريس نائبًا له التي جاءت تحت عنوان “أجندة بايدن-هاريس للشتات”
كذلك هناك مستشارة الأمن القومي في عهد الرئيس أوباما، سوزان رايس، التي كانت مرشحة لأن تكون نائبة بايدن بدلًا من كامالا هاريس، التي عملت مساعدًا لوزير الخارجية للشؤون الإفريقية من 1997 إلى 2001، بجانب خبراتها الكبيرة في التعامل مع بعض الملفات السياسية في القارة مثل الكونغو الديمقراطية وسيراليون وملف العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا.
أما ثالث الأسماء فهي سفيرة الولايات المتحدة السابقة في بتسوانا، ميشيل جافين، الممثلة السابقة عن أمريكا في مجموعة التنمية للجنوب الإفريقي (سادك)، وهي واحدة من أبرز المتخصصين الرئيسيين في إفريقيا، والقادرة على تقديم استشارات سياسية واقتصادية بناءة لبايدن في إدارته لملف التعامل مع القارة الإفريقية.
وقبل كل ذلك يأتي اختيار بايدن لكامالا هاريس ذات الأصول الإفريقية لتكون نائبة له ليجيب عن العديد من التساؤلات عن طبيعة المرحلة المقبلة المتوقعة بين واشنطن وعواصم القارة السمراء، وهو الاختيار الذي حمل معه العديد من الرسائل والدلالات سواء للأقليات الإفريقية في الداخل أم لأنظمة وحكومات دول القارة في الخارج.
ماذا عن القادم؟
يمكن ملامسة الخطوط العريضة لتوجهات بايدن الإفريقية من خلال ورقة السياسات الصادرة عن حملته الانتخابية بعد اختيار هاريس نائبًا له التي جاءت تحت عنوان “أجندة بايدن-هاريس للشتات” وتهدف في المقام الأول إلى تفعيل سياسة الاحترام المتبادل بين أمريكا والكيانات السياسية الأخرى.
الورقة وإن كانت تخاطب في المقام الأول الأمريكيين من أصول إفريقية داخل الولايات المتحدة إلا أنها تعكس وبشكل كبير ملامح السياسة الخارجية لمرحلة بايدن في التعامل مع ملفات القارة الخارجية، التي في مقدمتها تغيير لغة الخطاب والابتعاد عن العنصرية البغيضة التي طالما اتبعها ترامب.
خبراء توقعوا أن يستهل بايدن حكمه – حال الإعلان رسميًا عن فوزه – بجولة رئاسية إلى القارة الإفريقية كما فعل قبل ذلك باراك أوباما عام 2014، بجانب عقد مؤتمر كبير في البيت الأبيض يضم قادة وزعماء القارة وأن يضعوا خلاله اللمسات الإجمالية للسياسة الأمريكية الجديدة حيال دول القارة أسوة بما فعلت الصين قبل عدة أعوام.
هذا بخلاف التركيز على البعد الاقتصادي في العلاقات المستقبلية، وتعزيز اتفاقيات التجارة الحرة المتبادلة بين الطرفين، بحيث تتجاوز تلك العلاقات مرحلة قانون “النمو والفرص الإفريقي” الذي يسمح بإعفاء الصادرات من البلدان الإفريقية المؤهَّلة إلى الولايات المتحدة من الرسوم الجمركية إلى علاقة تشاركية بناءة على أسس من التعاون والاحترام المتبادل، خاصة في ظل ما تمتلكه القارة من موارد وثروات اقتصادية أسالت لعاب الكثير من قوى العالم الاقتصادية.
من المغامرة السياسية استشراف ملامح المرحلة القادمة لأي رئيس دولة، لكن المؤشرات تذهب في اتجاه ربما يكون أقل حدة مما كان عليه ترامب، لتبقى الأيام القادمة وحدها كفيلة بالإجابة عن التساؤل المتعلق بحجم ومدى تغير السياسة الخارجية تجاه القارة الإفريقية خلال ولاية الرئيس الديمقراطي.