لم تكن أهداف روسيا في سوريا قائمة على الإيثار إطلاقًا، وإنما أرادت أن تحتفظ لنفسها بقاعدة عسكرية في الشرق الأوسط لحراسة مصالحها الإقليمية، وهي تسعى لإقامة مشاريع إعادة إعمار سوريا ما بعد الحرب حتى تكافئ الشركات الروسية التي دعمت الديكتاتور بشار الأسد. لقد حققت موسكو هدفها الأول، إلا أن تحقيق الهدف الثاني يبدو أصعب بكثير.
دبلوماسيا، لا تزال وجهات النظر متباينة حول إعادة إعمار سوريا. فمن جهة، يصر الغرب على ربط الأموال المخصصة لإعادة الإعمار بعملية سياسية تكون شرعية على نطاق واسع في سوريا، وإطلاق سراح الآلاف من السجناء السياسيين، وضمان أمن سائر السوريين. ومن جهة أخرى، ترغب روسيا في جعل عملية إعادة الإعمار شرطا مسبقا لعودة اللاجئين السوريين، وقد حاولت الترويج لهذه الفكرة عندما أعلنت أنه ليس بوسع اللاجئين السوريين – الذين يتجاوز تعدادهم 6 ملايين – العودة إلى وطنهم إلا عندما يبدي الغرب استعداده لدفع الأموال من أجل إعادة بناء بلدهم.
خلال الأسبوع الماضي، حاولت روسيا تحقيق رؤيتها الخاصّة بسوريا ما بعد الحرب من خلال المساهمة في تنظيم أول مؤتمر حول عودة اللاجئين في دمشق، لكن المؤتمر فشل فشلا ذريعا.
شاركت في هذا المؤتمر حوالي 20 دولة من بينها الصين والهند والإمارات، إلا أنه سرعان ما تبين أن تلك الدول كانت متواجدة هناك، إما لرغبتها في الانتفاع من ازدهار عملية إعادة الإعمار في سوريا أو لأنها ببساطة تحاول أن تعرض دعمها السياسي للأسد. وباستثناء لبنان، لم تكن أي من الدول، التي تستضيف عددا كبيرا من اللاجئين السوريين، على استعداد لقبول شروط روسيا للحوار.
رفض الاتحاد الأوروبي الحضور وأصدر بيانا وصف فيه المؤتمر بأنه “سابق لأوانه“، وأضاف مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل بأنه حتى في حال رغب الجميع بعودة اللاجئين إلى ديارهم، “يجب أن تتم هذه العودة بشكل آمن وطوعي يضمن كرامتهم بما ينسجم مع المعايير التي وضعتها المفوضية العليا في الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين”. وقد حضرت هيئة الأمم المتحدة هذا المؤتمر ولكن فقط بصفتها مراقبا.
أثارت المشاركة المحتشمة في هذا المؤتمر غضب روسيا، حيث عبّر المبعوث الخاص الروسي إلى سوريا، ألكساندر لافرينتيف، عن غضبه عندما تساءل الصحفيون عن السبب الذي جعل المؤتمر أقل من التوقعات بكثير، حيث أجاب صحفيا روسيا في تلك المناسبة: “إنها الضغوطات، الضغوطات” المسلّطة من قبل الولايات المتحدة. وقد حاول لافرينتيف التقرّب من الحكومة الأردنية قبل أيام قليلة من انعقاد المؤتمر حتى تعيد النظر في قرارها، إلا أن جهوده لم تؤت أكلها.
يلوم الأردن 650 ألف لاجئ سوري، الذين يستضيفهم، في كثير من الأحيان على تدهور اقتصاد البلاد، لذلك سيسرّ كثيرا بعودتهم إلى ديارهم. كما أن عمان بحاجة ماسة إلى دعم موسكو لإبقاء الميليشيات الإيرانية الموجودة في الجنوب السوري بعيدة عن حدودها، إلا أن الأردن متحالف مع الغرب، لذا لا يمكنه أن يجبر اللاجئين على الرحيل.
تفهمت روسيا مأزق الأردن فأرسلت لافرينتيف إلى هناك في 27 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي لطمأنة السلطات الأردنية. وخلال هذه الزيارة، التقى لافرينتيف أيضا بقائد الثوار السابق أحمد العودة الذي أصبح الآن أكبر الداعمين لأمن السوريين المعارضين للنظام في شرق درعا بالقرب من الحدود السورية-الأردنية.
أصبح العودة شخصية مشهورة خلال الحرب السورية المدمرة إلى جانب العديد من الميليشيات والفصائل الثائرة في تلك المنطقة، وتلقى دعما من الغرب والإمارات خلال تواجده في مركز العمليات العسكرية في عمان خلال سنوات الحرب السورية. وفي سنة 2018، حين شعر العودة باقتراب هزيمته، وافق على المشاركة في اتفاقية مصالحة بوساطة روسية، حيث كوفئ على براغماتيته بتعيينه قائدا للكتيبة الثامنة من الفيلق الخامس الذي تدعمه موسكو في الجيش السوري. ولكن ولاءه ليس للأسد وإنما للسوريين المعارضين للنظام.
أكد مصدران في الأردن لمجلة “فورين بوليسي” أنه من بين الأسباب التي دفعت العودة لزيارة الأردن، التخفيف من قلق الأردنيين حول الخطر الأمني الذي يهدد اللاجئين في حال عودتهم إلى سوريا. وحيال هذا الشأن، علّق أبو ماهر – وهو ثائر سابق كان بين من وقّعوا على اتفاق المصالحة في درعا – قائلا: “توجه أحمد العودة إلى الأردن ليناقش مسألة عودة اللاجئين”.
تُصور روسيا قادة الثوار السابقين الذين انضموا إلى الفيلق الخامس على أنهم حماة اللاجئين أثناء عودتهم للوطن، إلا أن هذه الفكرة مشحونة بالتحديات: فمنذ أن تعهدت اتفاقية المصالحة في درعا بنشر السلام بين كل الأطراف في الحرب، ظلّ النظام والمعارضة يهاجمان بعضهما بلا هوادة، وشهدت المنطقة عديد الاغتيالات.
تحول كمية الضغائن والعداوات بين المتمردين السابقين المدعومين من روسيا والجيش السوري ضد إمكانية الوصول إلى حل وسط يمكن أن يطمئن اللاجئين ويؤكد لهم أنهم لن يتعرضوا للاعتقالات العشوائية والاختفاءات القسرية والتعذيب، إذا اتخذوا قرار العودة لبلادهم. وأضاف أبو ماهر: “يحاول الروس إقناع النظام وقادتنا بمناقشة أمن اللاجئين. لكن لا يجب أن يثق أحد في نوايا النظام. إنهم يريدون قتل الجميع”.
في سنة 2019، صدر تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” يفيد بأن فروع المخابرات السورية استمرت في اعتقال الناس تعسفا وإخفائهم والتحرش بهم. كان شقيق أبو سالم من بين الذين عادوا إلى درعا في تلك السنة. وبعد فترة وجيزة من عودته، وفي طريقه لوسط المدينة، قيل إن جنود النظام أوقفوه عند نقطة تفتيش، ثم قاموا باحتجازه وتعذيبه في فرع المخابرات العسكرية المحلي. في حديثه عن ذلك، قال أبو سالم: “لقد ضربوه ضربا مبرحا لدرجة أن لم يعد هناك جلد على أجزاء من جسده. أقسم أنه لم يستطع التحرك لمدة 10 أيام”.
أثرت هذه القصص على صورة روسيا كضابط شرطة موثوق به في سوريا، بل وعمّقت مخاوف السوريين من النظام الذي يتهمونه بارتكاب جرائم حرب ممنهجة، من بينها الآن القبض على من ظن أن الوضع آمن وعاد للبلاد. لم تنجح هيمنة روسيا المفترضة في كبح الأسد، وينطبق الأمر ذاته على الفرقة العسكرية الموازية لها التي تضم مقاتلين سابقين، التي فشلت في تغيير طريقة عمل النظام.
لقد تم إطلاع الأردن وحلفائه في الغرب على ما يقع على الأراضي السورية من قبل نشطاء حقوقيين شجعان من سوريا والأردن ولبنان، الذين غالبا ما يعرضون أنفسهم للخطر الشخصي في سبيل ذلك. وقال درويش، أحد هؤلاء الناشطين السوريين، إنه تلقى تهديدات بالقتل لكونه مواليا للغرب، بينما تعرض اثنين من زملائه للاعتقال وفُقد أثرهما.
قبل سنتين فقط، دفع درويش مبلغ 1500 دولار لأحد المهربين ليدخل إلى لبنان، واستطاع جلب أسرته الشهر الماضي. أفاد درويش بأنه على الرغم من تدهور الوضع الاقتصادي في لبنان، وارتفاع نسبة الفقر بين اللاجئين بنسبة 90 بالمئة في الأشهر الأخيرة، إلا أنها تبقى أفضل من الحياة في سوريا. كما أخبرنا من إحدى ضواحي بيروت: “هنا، على الأقل، لن يهددني الجيش أو يتسبب في اختفائي. مكثت في سوريا طوال فترة الحرب، لكن عندما اقتحم الجيش منزلي للبحث عني، علمت ما هو آت”.
شارك لبنان بدوره في المؤتمر، وقد تجاهلت نخبتها الحاكمة مخاوف اللاجئين من الاعتقالات العشوائية والتجنيد الإجباري في الجيش وأشكال الحرمان الأخرى التي سببتها الحرب، ولطالما رأت أن مساعدة الأمم المتحدة للاجئين السوريين في لبنان تعمل على إبطاء عودتهم.
حاليا، يستضيف لبنان 1.5 مليون لاجئ سوري، ورغم حملات الحكومة المباشرة وغير المباشرة لطردهم، لم يعد سوى 65 ألفا لسوريا حتى الآن. ومن جانبه، قال الرئيس اللبناني ميشال عون، نقلاً عن صندوق النقد الدولي، إن وجود اللاجئين كلف بلاده 40 مليار دولار، واقترح تقديم مساعدات دولية للسوريين داخل سوريا، لأن ذلك قد “يشجعهم على العودة”.
على غرار روسيا، يتوقع لبنان الاستفادة من إعادة إعمار سوريا أيضا، التي من المتوقع أن تكلف حوالي 200 مليار دولار. يسوّق لبنان لميناء طرابلس في الشمال، الذي يقع على بعد 20 ميلاً من سوريا، كمركز لوجستي لإعادة إعمار البلاد. لكن باستثناء لبنان، ليس لروسيا أي أنصار في المنطقة.
لاحظت ماريانا بيلينكايا، الصحافية الروسية التي غطت المؤتمر، توقف لافرينتيف في تركيا بعد المؤتمر مباشرة. وأخبرتني عبر الهاتف من العاصمة السورية أن “روسيا طلبت من دمشق دعوة تركيا. لكن موسكو تفهمت سبب عدم مشاركتها. لقد سافر لافرنتيف إلى تركيا بعدها للتأكد من أنهم لم يشعروا بالإهانة ولمناقشة عودة اللاجئين”.
في سوريا، لا يستطيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التماس أي تنازلات من الأسد من شأنها إقناع الغرب بدعم مؤتمر دولي لعودة اللاجئين، مثل إلغاء التجنيد الإلزامي، وإطلاق سراح السجناء، وإتاحة سبل الوصول غير المقيد للمفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. لكن السبب المهم الآخر الذي يحول بين السوريين والرغبة في العودة هو الأزمة الاقتصادية في سوريا، حيث لا يملك الناس ما يكفي من الطعام، وقد دُمّرت مدنهم، ولم تعد منازلهم سوى أنقاض متناثرة في مساحات شاسعة من الأراضي القاحلة.
لقد أوضحت معظم الدول أنها لا تريد إضفاء الشرعية على محاولة روسيا استغلال قضية اللاجئين لتحقيق مكاسب دبلوماسية واقتصادية. لكن هذا لا يعني أن لتلك الدول أي اقتراحات معقولة للحد من معاناة السوريين داخل البلاد أو المشتتين خارجها.
المصدر: فورين بوليسي