رغم الانتشار الواسع لفكرة الأسرة الصغيرة في الدول المتقدمة، فإن الأسرة الكبيرة (التي تعرَّف بأنها العائلات التي لديها أربعة أطفال أو أكثر) لا تزال سمة مهمة في العديد من البلدان الغنية، حيث ينشأ ما يقرب من خُمس الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 11 و13 عامًا في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والربع في أيرلندا في أسر مكونة من 4 أطفال أو أكثر.
وطبعًا هناك الكثير من الأبحاث عن تأثير أعداد الأشقاء وترتيب المواليد على نمو الأطفال ونجاحاتهم في الحياة لاحقًا، وثمة العديد من الدراسات والأدلة التي تربط بين الفقر وعدد أفراد الأسرة، مثلًا في دراسة بعنوان: أكثر يعني فقر أكثر، لماذا تؤدي العائلة الكبيرة إلى الفقر؟ وجدت أن هناك علاقة عكسية بين عدد أفراد الأسرة وكل من (مستوى الدخل والمصروف والادخار والمصروف على التعليم والمصروف على الحالات المرضية والإصابات والمصروف على الصحة بشكل عام) لكل فرد، بمعنى أوضح كلما زاد عدد أفراد الأسرة كانت الأسرة أفقر في كل شيء آخر.
وبطبيعة الحال، نتائج الدراسة ليست صادمة للكثير من الناس، فقد يبدو من الشائع أن تحظى الأسر الفقيرة بعدد أفراد أكثر، لكن ما قد يكون محيرًا بنظر الكثيرين هو لماذا يستمر الفقراء في زيادة عدد أفراد عائلاتهم إذا كان من الواضح أن ذلك لن يضيف لحياتهم إلا المزيد من الفقر؟
يدان في الحقل أفضل من يد واحدة
الفقراء لديهم عائلات كبيرة بشكل عام. لماذا؟ السبب الأساسي هو اعتقاد الفقراء بأن “يدين أفضل من واحدة”، فعلى سبيل المثال، يرى المزارعون الفقراء فوائد في امتلاك المزيد من الأيدي للأعمال الزراعية، ففي نظرهم يمثل المولود الجديد استثمارًا طويل الأجل (وغير مكلف نسبيًا) فبعد خمس أو ست سنوات يمكن الاستفادة منه كيد عاملة رخيصة أو مجانية لمساعدة ذويهم.
وبعد عمر طويل يمثل هؤلاء الأبناء أيضًا نظام تأمين اجتماعي عائلي يضمن الآباء من خلاله الرعاية المالية والخدمية في وقت الشيخوخة، لكن ما لا يدركه الفقراء أن هذا ما قد يسهم في بؤسهم أكثر بل وفي الكثير من الأحيان قد يكون سببا رئيسيًا في توريث الفقر للأجيال القادمة.
في العديد من المجتمعات، لا تزال الوصمة الاجتماعية – إن صح القول – عن تقبل المجتمع لوسائل منع الحمل موجودة
ارتفاع معدلات وفيات الأطفال
تخيل أنك تعيش في مكان تتعرض فيه حياة أطفالك للتهديد باستمرار، حيث لا يوجد طعام كافٍ وتعذر أو محدودية الوصول إلى المياه النظيفة والسكن غير الملائم والرعاية الصحية السيئة والدعم الحكومي الضئيل الذي يكاد لا يذكر، وهي عوامل تساهم بشكل مباشر في زيادة وفيات الأطفال ويعرف الآباء الذين يعانون من الفقر ذلك بشكل لا ريب فيه.
ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، شهد العالم انخفاضًا كبيرًا بنسبة 60% في وفيات الأطفال دون سن الخامسة من 93 حالة وفاة لكل 1000 مولود حي في عام 1990 إلى 38 حالة في عام 2019، ومع ذلك، لا يزال عدد وفيات الأطفال والشباب هائلًا، ففي عام 2019 وحده، مات 7.4 مليون طفل ومراهق وشاب (0-14 سنة) لأسباب يمكن الوقاية منها أو علاجها.
وكما ترى فإن معظم حالات وفيات الأطفال تحدث في البلدان النامية، وفي مواجهة هذا الواقع، يفكر الآباء الفقراء في إنجاب المزيد من الأطفال، وهم على دراية تامة بالحقيقة المفجعة وهي أن بعض أطفالهم ببساطة لن يعيشوا.
المفاهيم الخاطئة عن تنظيم الأسرة
في العديد من المجتمعات، لا تزال الوصمة الاجتماعية – إن صح القول – عن تقبل المجتمع لوسائل منع الحمل موجودة، ويمكن إرجاع هذا اللبس في المعتقدات إلى مجموعة من الأسباب، بما في ذلك غياب دور الحكومات والمؤسسات الصحية في التثقيف الصحي العام والتحيزات الثقافية وحتى الشك في دوافع الحكومة للتحكم في حجم الأسرة. هذه الأسباب مجتمعة غالبًا تساهم في زرع الخوف والارتباك من استخدام بعض وسائل تنظيم الأسرة.
ليست المفاهيم الخاطئة دائمًا هي التي تمنع الأشخاص من ممارسة تنظيم الأسرة، ففي بعض الأحيان يكون السبب هو نقص الرعاية الصحية التي يمكن الوصول إليها، فبالنسبة للبعض، تقع العيادات الصحية بعيدًا عن منازلهم وقراهم، مما يجعل من الصعب السفر للحصول على الدعم اللازم، وفي المناطق الريفية على وجه الخصوص، يمكن أن يكون الافتقار إلى البنية التحتية والطرق والمواصلات عائقًا أمام تلقي الرعاية الطبية المهنية.
في كثير من المجتمعات تحظى فكرة تخليد اسم العائلة بأهمية كبيرة، رغبةً في الحفاظ على النسب والتاريخ واسم العائلة
القيم الأبوية
بالنسبة للدول المتقدمة، يعتبر إنجاب عدد أقل من الأطفال – أو عدم إنجاب أطفال على الإطلاق – شيئًا مألوفًا بشكل عام ومتزايد، ويعتبر الحديث عن الحقوق الإنجابية للمرأة واحدًا من الأمور التي تحظى باهتمام كبير، لكن في العديد من البلدان النامية والفقيرة التي لا تزال تقبع تحت وطأة انتشار القيم الأبوية الذكورية، يكون للرجال الحق في كثير من الأحيان في اتخاذ القرارات نيابة عن زوجاتهم وأسرهم، بما في ذلك استخدام وسائل منع الحمل من عدمه. نتيجة لذلك، غالبًا ما تُترك النساء دون أي سيطرة على عدد الأطفال الذين سينجبون في نهاية المطاف.
ولا شك أن الزواج المبكر القسري (دون سن البلوغ القانونية وعادةً ما تكون 18 عامًا) يلعب دورًا أساسيًا في هذا الحقل، فحين تتزوج الفتيات المراهقات اللواتي يعتبرن الأكثر استضعافًا في معظم مجتمعات دول العالم النامي في سن مبكرة، تبدأ الإنجاب في سن مبكرة أيضًا، ما يعني – من بين المضاعفات الكثيرة الأخرى – احتمال إنجاب المزيد من الأطفال.
وبذلك، يؤسسن أسرهن في سن يتوجب فيهن أن يكن على مقاعد الدراسة الإعدادية أو الثانوية وفي الغالب لا يتمكن من إنهاء مرحلة الدراسة المدرسية وباعتبار أن الأم من تقوم بالتربية في المجتمعات الذكورية فلن تتمكن من نقل ما لم تتعلمه لأطفالها وبالتالي تستمر دوامة توريث قيم تعليمية ضعيفة لأطفالها، وكما في أحجار الدومينو يعني في النهاية أن جيلًا جديدًا غير متعلم سيحظى بفرص أقل ودخل أقل ليعيد بدوره ما تعلمه من الآباء وهلم جر، وأضف إلى ذلك أنه من المرجح أن ينجبن المزيد من الأطفال، مما يجعل من الصعب تحمل تكلفة التعليم لجميع الأطفال.
الدين والمجتمع
ينظر إلى الأطفال في العديد من الأديان على أنهم نعمة وهبة كبيرة، وبقدومهم تأتي البركات والأرزاق، وعلى هذا الأساس من المنطقي أن يتبنى الكثير من الأزواج فكرة الأسرة الكبيرة، خاصةً أن الكثير من الأزواج الذين ليس لديهم أطفال يتعرضون للوصم وينظر إليهم بازدراء، بينما ينظر إلى العائلات الكبيرة على أنها قوية، وإذا كانت المرأة غير قادرة على الإنجاب، فمن المألوف أن يتخلى زوجها عنها أو يبدأ أسرة مع شخص آخر.
يضاف إلى ذلك كله، أنه في كثير المجتمعات تحظى فكرة تخليد اسم العائلة بأهمية كبيرة، رغبةً في الحفاظ على النسب والتاريخ واسم العائلة وكأنها غريزة إنسانية طبيعية.
باختصار
هناك مشاكل اقتصادية مختلفة تنتج عن إنجاب عدد من الأطفال سواء كان ذلك على مستوى اقتصاد الأسرة أم على مستوى الاقتصاد الكلي للدولة، وأبرزها تكمن في توافر فرص العمل، حيث يوجد حد لما يمكن للحكومة أو للقطاع الخاص أن يولده. علاوة على ذلك، فإن الأسرة الكبيرة تمنع الأمهات من العمل، حيث يتعين على الأمهات الاعتناء بالأطفال.
ثالثًا، يجبر دخل الأسرة المنخفض الأطفال على إشراك أنفسهم في سوق العمل غير القانوني منذ سن مبكرة من أجل المساهمة في إعالة الأسرة، ما يمثل خطورةً كبيرةً جدًا على نمو الطفل ومستقبله في مجالات الحياة كافة.
رابعًا، مع كل طفل إضافي للأسرة الفقيرة، يتم استنفاد جميع موارد الأسرة المحدودة في تربية الأطفال، ما يؤدي إلى عدم وجود مدخرات في الأسرة الفقيرة تعينها على أي طارئ مستقبلي غير متوقع مثل فقدان مصدر عمل رب الأسرة الرئيسي أو تعرض أحد أفراد العائلة لانتكاسة صحية مما يسهل المهمة أمام وحش الفقر لينهش في عظام جميع أفراد العائلة ويحكم قبضته على مستقبل الأبناء التعساء.
تنظيم الأسرة يعد قضية معقدة، إذ يتأثر بالأسرة والثقافة والدين، وقد لا تكون النساء دائمًا من صانعي القرار حتى فيما يخص صحتهن الإنجابية
ما الحل؟
يمكن أن يؤدي تثقيف النساء والمراهقات بشأن أهمية تنظيم الأسرة وطرق منع الحمل إلى منع وفاة واحدة من بين كل ثلاث وفيات تحصل للأمهات وزيادة معدل بقاء الأطفال على قيد الحياة بنسب كبيرة. لهذا السبب وغيره، على الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني التضافر من خلال القيام ببرامج توعوية في المناطق اللأكثر فقرًا تهدف للتوعية بأهمية المباعدة بين فترات الحمل وإزالة المخاوف والمفاهيم الخاطئة عن تنظيم الأسرة.
يجب أن يتم ذلك من خلال مساعدة النساء على فهم خياراتهن عندما يتعلق الأمر بتحديد النسل، حتى يتمكن من اختيار الطريقة التي تناسبهن بشكل أفضل ودعمهن في اتخاذ القرار إذا لزم الأمر.
وفي حين أن تعليم النساء أنفسهن يعتبر دائمًا محورًا وأساسًا لا يمكن البدء دونه، فإن تنظيم الأسرة يعد قضية معقدة، إذ تتأثر بالأسرة والثقافة والدين، وقد لا تكون النساء دائمًا من صانعي القرار حتى فيما يخص صحتهن الإنجابية. لهذا السبب، يجب أن تتم مشاركة أكبر عدد من الأطراف المؤثرة ثقافيًا ودينيًا واجتماعيًا في عملية التوعية أيضًا.
ويشمل ذلك الرجال، بحيث يتم تعميق ثقافة المساواة بين الجنسين ومشاركة مسؤوليات رعاية الأطفال ودعم صحة شركائهم وأطفالهم من خلال اتخاذهم قرارات تشاركية مع زوجاتهم لتنظيم الأسرة، إلى جانب العاملين الصحيين المسؤولين عن تقديم المشورة في مجال تنظيم الأسرة، والتأكد من أن المرافق في المناطق الأكثر فقرًا لديها ما يكفي من المعدات والإمدادات التي تحتاجها لتزويد النساء والفتيات بالرعاية المناسبة قبل وفي أثناء وبعد الحمل.