كان يا ما كان في عصر ما قبل الراديو والتلفاز بالألوان، شيوخ يحتشد حولهم رجال وصبيان يقصون عليهم حكايات وقصص من غابر الأزمان، واحدة عن بنت السلطان وأخرى عن الجازية الهلالية وأخيها الحسن بن سرحان، تبدلت الأحوال فكبر الصبي ومات الشيخ، لكن القصة باقية ما بقي الإنسان.
المطلع مقتبس إلى حد ما من طريقة سرد الحكواتي التونسي للقصة أو الخرافة التي تختلف نسبيًا من بلد عربي إلى آخر، لكن عمومًا فإن الحكاية بمفهومها الكلاسيكي والتراثي كشكل فني اعتمد في الماضي للإخبار والتثقيف والترويح عن النفس والتسلية لم تتغير كثيرًا، فللقصة أشكالها وأساليبها ومعانيها وأيضًا حاكيها الذي بات عملة نادرة في زماننا هذا بعد أن حل محله التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي، فإلى أي مدى يستطيع الرواد الجدد لهذا الفن المحافظة على إرث الأجداد وتطويره؟
“من قاع الخابية”
فن الحكاية هو إرث ثقافي وهو أيضًا إنتاج لغوي فني بسيط وعفوي تتوارثه الأجيال المتلاحقة شفويًا حتى صار جزءًا من العقل الجمعي، ويسمى في تونس بفن “من قاع الخابية” أي من عمق التاريخ ومن صندوق التراث العجائبي. عملت بعض الدول على حفظه والاعتناء به كمخزون حضاري، ويختلف الفن الشعبي من أمة إلى أخرى حيث تتعدد أشكاله وصوره بين مسموع ومرئي، ويظهر جليًا في حكاوي الأجداد للأحفاد وأساطير الأمم وأغاني الأفراح والأهازيج (النجمة في شمال إفريقيا)، ويدخل في ذلك الغناء والإنشاد الديني والملاحم والقصص وجميع ما يُسمع من غناء تراثي.
الحكواتي الكلاسيكي كان يبدأ بسرد الرواية أو الحكاية مستعملًا كلمات رنانة مثل “كان يا مكان”، مستعينًا بذاكرته ومهارته في الإلقاء والتعبير، وغالبًا ما تكون عن شخصية تاريخية تلعب دور البطولة وتتحلى بالشجاعة والشرف والمروءة ونصرة المظلوم، ففي نهاية كل حكاية لا بد أن ينتصر الخير على الشر وأن تكون حكمة هي سيدة الموقف والقيم والفضائل التي تُغذي النفوس هي الرسائل، الأمر الذي يجعل السامعين في شوق دائم لحكاية وقصة أخرى.
يتمتع الحكواتي بمعلومات وفيرة وقصص تراثية ممتعة بالإضافة إلى حسن الإلقاء وأسلوب التشويق مما يخلق تفاعلًا كبيرًا بينه وبين المتلقي (الجمهور)، فهو شخص يقصُ الحكاية ويسرد القصة في جمع من الناس، وهو الراوي لأخبار الأمم وأحوالهم أمام أناس يحتشدون حوله في شكل حلقة دائرية سواء في المنازل أم في الطرقات والمحافل.
رواد الحكاية
ترتبط مهنة الحكواتي في ذاكرة التونسيين بالتلفاز الأبيض والأسود وبيد عبد العزيز العروي التي كانت تدق الناقوس النحاسي الكبير وهي شارة البداية لكل حلقة جديدة وقصة متجددة من حكايات الزمن الغابر، وتعود شهرته إلى القصص والخرافات الشعبية التي كان يرويها باللهجة العامية التونسية.
عبد العزيز العروي (1898-1971) هو صحفي وإذاعي تونسي يعد واحدًا من جماعة تحت السور التي ضمت علي الدوعاجي والطاهر الحداد ومصطفى خريف والهادي الجويني وغيرهم، وهي المجموعة التي نهضت بالأدب التونسي قبل الحرب العالمية الثانية، عمل بالإذاعة التونسية محررًا ومذيعًا منذ تأسيسها سنة 1938 كما كلف بإدارتها بين (1946 و1956).
العروي يُعد من أشهر الحكائين وأبرزهم على الإطلاق، حيث خلف بعد رحيله أهم رصيد ومخزون من القصص والخرافات التي تبث إلى اليوم بالإذاعات والتلفزيون رغم مرور عقود على تسجيلها، عُرف بأحاديثه الشيقة وأسماره وحكاياته التي بلغ عددها نحو مئتي حكاية قدمها بأسلوبه الطريف والهادف، وقد جمع فيها بين المضمون الشعبي الأصيل واللهجة العامية الحضرية بعيدًا عن الفصحى والعبارات العربية المنمقة أو الجهوية غير الواضحة.
إضافة إلى، رشيد قارة (1930-2010)، وهو ممثل ومسرحي تونسي يُعد رائد فن الحكي الموجه للأطفال، عُرف بأسلوبه الراقي والجذاب وبلغته سهلة الفهم، وعرضت معظم حكاياته على القناة العمومية التونسية خلال تسعينيات القرن الماضي.
ويُمكن القول إن تجربة قارة المتنوعة وخبرته في مجال تخصصه (التلفزيون والمسرح) جعلته يمتلك أدوات النجاح المتمثلة في الإلقاء والاسترسال والوضوح، إضافة إلى ملامحه الجسدية ولباسه (الجبة) التي تتقارب إلى حد كبير مع صورة الجد التي ترتسم عادة بمخيلة الأطفال.
الحكاؤون الجدد
مع بداية القرن الحاليّ، تراجع فن الحكاية في تونس ولم يعد التلفزيون يهتم بمثل هذا النمط الثقافي وبات واضحًا أنه أُبعد قسرًا لصالح البرامج الفرجوية والتجارية التي تعتمد على الإثارة والتنافس على تحقيق نسب مشاهدة (ratings)، ولم يعد للحكائين فضاءات يُمارسون فيها فنونهم إلا في المراكز والنوادي الثقافية.
الحصار المفروض على فن الحكاية التونسي لم يمنع ظهور أسماء لامعة في هذا المجال ممن آمنوا بهذا الفن وسحروا بعوالمه الخفية، بينهم نساء كسرن حواجز النمط الجندري وتربعن على عرش الحكاية و”الخرافة التونسية”.
في حديثها لـ”نون بوست”، تسترجع زينة الجلاصي (معلمة وحكواتية) بداياتها مع فن الحكي قائلةً: “من الصعب تحديد أولى مراحل تعلقي بالحكاية، في الصغر كنت مولعة بالمطالعة والإنصات لحكايات الناس وقصصهم، تأثرت بوالدتي وخالتي كانتا تشداننا بأحاديثهما الممتعة وبأسلوبهما المشوق في جلسات كلها عاطفة وحنين للموروث الشعبي التونسي من أمثال أو خرافة من التراث”.
الحكواتية لم تخف تأثرها البالغ برائد الفن التونسي عبد العزيز العروي فقصصه طبعت شخصية القاص بداخلها التي نمت وتطورت عمليًا فيما بعد بإتقانها لأدوات فنية وموسيقية أخرى كالغناء البدوي، قائلةً: “ضربة النحاسة بقيت راسخة في مخيلتي منذ الصغر ولم تفارقني أبدًا”.
وعن أول مصافحة لها مع الجمهور، قالت الجلاصي إنها كانت صدفة حين تم اقتراحها لتقديم عرض خاص بذكرى شهداء الأمن في تظاهرة ضد الإرهاب “نحيا ونحيا ويحي الوطن”، مضيفة “لئن انتابني الخوف للوهلة الأولى إلا أنها تبقى من أروع التجارب التي مررت بها، قوبل العرض بترحيب واستحسان من المتابعين كانت فرحة لا توصف”.
فيسبوك وكورونا
الجلاصي أجابت عن السؤال الأهم المتعلق بالنشء ومدى مساهمة هذه الحكايات في تحقيق المتعة والإفادة في آن واحد لأطفال “الجيل الخامس” ممن أدمنوا التكنولوجيات المتطورة وتعلقت أفئدتهم بالمحتوى الذي تقدمه من أفلام الإثارة والخيال العلمي والألعاب التي تعتمد على تقنية الواقع الافتراضي المعزز، بالقول: “فن الحكي يتطلب المهارات وأدوات التمكن من فنون التواصل، لذلك يمكن تطويره بالاعتماد على هذه التكنولوجيا واستغلال منصاتها”.
الحكواتية التونسية أوضحت أن منصات التواصل الاجتماعي ساهمت بشكل فعال في نفض الغبار عن فن الحكي وأعادت الروح إليه، مؤكدة أن الراوي أو الكلاسيكي كان يعتمد على التواصل المباشر وحشد الناس من حوله أي أن الفضاء كان محدودًا أمامه على عكس شبكات التواصل الاجتماعي (فيسبوك) وموقع يوتيوب التي تُتيح للقاص الوصول إلى جماهير كبيرة ومتنوعة.
الجلاصي بينت أن وسائل التواصل الاجتماعي مكنت الحكواتية من الانتشار وعرفت بهم وجعلتهم مطلوبين للقيام بعروض في الفضاءات التربية والتنشئة مثل دور الثقافة والمهرجانات ورياض ومحاضن الأطفال، مضيفةً أنها ساهمت في تطوير العروض وإضافة مؤثرات عديدة مثل الحركات والتلاعب بالصوت وتجسيد الشخصية والأغاني البدوية التراثية، وفي رأيها عناصر مهمة لجلب الاهتمام، مضيفةً أن جائحة كورونا والحجر الصحي مثلت مناسبة لانتشار هذا الفن عبر الوسائط المتعددة.
تؤكد زينة الجلاصي أن التباعد الاجتماعي الذي فرضه كوفيد-19، استثمره الحكاؤون في اختصار المسافات بينهم وبين الجمهور، من خلال خدمة البث المباشر الذي كان هدفه الأول مساعدة الناس على تجاوز تداعيات الأزمة الصحية والنفسية، وأشادت بتجارب زملائها التي لاقت نجاحًا باهرا في فترة الحجر الصحي، قائلة: “هناك تجارب رائدة تستحق الشكر والدعم، وأذكر منها مبادرة مدير المركز الوطني للاتصال الثقافي والحكواتي هشام الدرويش الذي ترجم بعض الحكايات بلغة الإشارة لفائدة الصم”.
دور تربوي
إضافة إلى الدور الترفيهي، يُناط بعهدة الحكاء مهمة التربية والإرشاد والتوعية، وتقول زينة الجلاصي وهي مدرسة: “من المعلوم أن وسائل الاتصال الحديثة غزت عقول الأطفال ودفعتهم قسرًا إلى العزوف عن المطالعة وحتى مشاهدة الصور المتحركة، والحكواتي الحقيقي الذي يحمل قضية هو ذلك الشخص الذي أخذ على عاتقه مهمة تربوية نبيلة”.
وعن تجربتها في هذا الإطار، أكدت محدثة “نون بوست” أنها تعمل خلال عروضها على إشراك الأطفال في مضمون وشكل قصصها، فإلى جانب حرصها على الظهور بلباس تقليدي، تشجع الجلاصي الأطفال على ارتداء ذات الزي من أجل ترسيخ التراث التونسي، كما تعمل على التواصل المباشر معهم في وسط الحكاية عن طريق الأسئلة الموجهة التي تحمل إجاباتها رسائل القيم والمبادئ مثل نبذ الأنانية والكراهية والدعوة إلى احترام الآخر.
وأضافت أن الحكواتي في المدارس هو عنصر تربوي مهم جدًا في عملية المحافظة على التراث الثقافي الشفوي وكذلك في العملية التربوية، فالخرافة تُعلم الأطفال فن التواصل مشافهة وتساعدهم على اكتساب المهارات وتشجعهم على مطالعة القصص، إضافة إلى أن رسائل الحكواتي تؤصل لمجتمع غير معطوب أخلاقيًا من خلال قيم التكافل والتآزر التي يبثها، مشيرةً إلى أن الحكواتي قادر بأدواته على تعليم الأطفال وفق بيداغوجيا سليمة، مؤكدة أن تجربتها مع فاقدي البصر كانت دليلًا على أن الحكاية بإمكانها تعويض الصورة، لذلك يجب رد الاعتبار لرواد الحكاية في تونس وتطوير هذا الفن.
بالمحصلة، يُمكن القول إن الحكواتي الإنسان هو ذلك الفنان الذي لا يعيش بمعزل عن واقعه أو مجرد من ماضيه الحضاري، وما حكاياته إلا مرآة عاكسة للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لتلك الأزمان، لكنه أيضًا ذلك الشخص الذي يحمل على عاتقه أمانة فنية بأن يحفظ التراث الشفوي من كلمات وعادات وينقلها إلى الأجيال التي ستخلفه، ولئن تعددت التسميات من الحكواتي في سوريا والقوال في مصر وحَجاي في السودان والخراف في تونس، فالمضمون واحد جنس إبداعي من ضروب الأدب المختلفة كالشعر والنثر والقصة والرواية.