لا يتوقف الجدل في العالم أبدًا، فهو سمته وديدنه وسنته، وللمفارقة، فإن جزءًا كبيرًا منه يكون جدلًا من أجل الجدل نفسه، جدل مطلوب لذاته، تكتسب معه مفردة “الجدل” دلالة قيمية محايدة، بدلًا من دلالتها السلبية المعتادة، ليصبح الجدل شكلًا مُقدرًا من أشكال الـ”Socialization” أو دفع التواصل لكسر الملل والهروب من المواجهات الجادة، كما يقول خبراء علم النفس الاجتماعي.
وبطبيعة الحال، وفي وجود مواقع التواصل الاجتماعي، وفي ظل شعور عام بالانهزام، فإن الجدل لا يتوقف في مصر أيضًا، فمصر جزء غير صغير من هذا العالم، لكن بعضًا من هذا الجدل يكون سببًا في استثارة المشاعر العدائية والغرائز البدائية المكبوتة بين أطياف المجتمع، مما يهدد الاستقرار العام في البلاد التي تقف منذ نحو عقد على شفا حفرة من الفوضى العامة، لا يعصمها منها، بعد أقدار السماء، إلا إدراك شريحة كبيرة من أبناء المجتمع خطورة الانزلاق إلى هذه الحفرة.
أحدث تمظهرات الجدل المذموم في مصر كانت تصريحات إحدى الأساتذة في جامعة الأزهر بخصوص جواز زواج المرأة المُسلمة من رجل من أهل الكتاب، ما أثار الحالة المعهودة من الاحتراب الفكري مجددًا، على مواقع التواصل الاجتماعي، بين المسلمين بعضهم البعض من جهة، وبعض المسلمين وقلة من الأقباط من جهة أخرى.. فما تلك الفتوى؟ ومن هذه الأستاذة؟ ولماذا أثارت كل هذا الجدل؟
آمنة نصير
في الـ17 من نوفمبر/تشرين الثاني، هذا الشهر، خرجت الدكتورة آمنة نصير، أستاذ الفلسفة والعقيدة بجامعة الأزهر، في أحد البرامج التليفزيونية، على قناة الحدث الفضائية، تنكر فيها الإجماع الإسلامي السني المنعقد على عدم جواز زواج المرأة المُسلمة من ذكر غير مسلم بشكل عام.
تُعيد آمنة نصير في أطروحتها قراءة كيفية تفسير النصوص الإسلامية، وطريقة الاستدلال على الأحكام الفقهية في المجمل، وتطبق هذه الكيفية الجديدة على باب ما بات يعرف الآن بـ”الأحوال الشخصية”، ومسألة زواج المسلمة من غير المسلم، فتبرر نُصير فتواها بعدم وجود نص قرآني “صريح” يمنع المرأة المُسلمة من الزواج بغير المُسلم، ما دام غير المسلم “كتابيًا”، وتعتبر أن علة شيوع التحريم في المجتمعات المسلمة قديمًا، هي، فضلًا عن سطوة رجال الدين المحافظين: الخوف من دخول المسلمات في دين أزواجهن غير المسلمين، بما يؤثر على أعداد القوة البشرية الإسلامية. وبما أن هذه العلة قد انتفت، فإن المسلمة يحق لها الزواج من رجل من أهل الكتاب بلا تحريم.
وبالعودة إلى نص أطروحة نُصير، فإنها تعيد تعريف غير المسلم وتقسيمه إلى قسمين قائلة: “غير المسلم اللي هو المسيحي واليهودي، وهم من أهل الكتاب، والقرآن سماهم كده، يعني هم مش عباد أصنام ولا منكرين لله سبحانه وتعالى، ولكن لهم ديانة أخرى تختلف عن الإسلام”، وتشترط نُصير في أطروحتها الفقهية على غير المسلم، من أهل الكتاب، لصحة الزواج، ألا يفرض دينه على المسلمة، “في هذه الحالة، إذا طبق ما يُطبقه المسلم عندما يتزوج غير المسلمة، اللي هو لا يكرهها على تغيير دينها، ولا يمنعها من مسجدها، ولا يحرمها من القرآن، ولا أداء صلاتها.. فيجوز الزواج”.
وتعترف نُصير بوجود فجوة في أطروحتها، فيما يخص الجيل الناتج عن هذه الزيجة المُركبة دينيًا، من موقعها كأكاديمية إسلامية بالأساس، وهي أن “الأولاد هيكونوا على دين الأب، لذلك كان الفقهاء يرفضون زواج المسلمة من غير المسلمة الكتابي خشية أن تتسرب البنات المسلمات ويذهبن للمسيحية واليهودية، ويتناقص عدد المسلمين”، لكن يبدو أنها باتت تشعر أن هذه الفجوة لم تعد عائقًا كبيرًا أمام نجاح هذا النوع من الزيجات “وشرعيته” الدينية، وفق معالجتها للمسألة.
هجوم ضارٍ ودفاع خجول
فضلًا عما نالها من رواد مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة من الأغلبية المسلمة التي تعارض مثل هذه الفتاوى لسبب أو لآخر، وعن بعض البلاغات التي قدمت للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام لمنعها من الظهور التليفزيوني، فقد تعرَضت أطروحة آمنة نصير عن جواز زواج المسلمة من غير المسلم، الكتابي، إلى هجوم ضار من أعضاء المؤسسة الدينية الرسمية، بشكل نال منها شخصيًا في بعض الأحيان.
عبد الله رشدي، الخطيب بالأوقاف وإمام مسجد السيدة زينب، وأحد “طلاب العلم” من جيل الشباب المقربين لشيخ الأزهر، الذي اشتهرت مناظراته ضد أنصار الفكر التجديدي القائم على تجاوز السنة والتراث بشكل كبير، كتب على صفحته الرسمية بموقع “فيسبوك”، أمس، منشورًا حادًا بلغة خبرية مؤلفًا من عدد بسيط من الجمل، قال فيه: “زواج المسلمة من غير المسلم باطل، وإن حدث جماع فهو زنا، ومن زعم أنه زواج فقد كذب على دين المسلمين واستحل ما حرمه الله ورسوله وما تواتر عليه المسلمون علمًا وعملًا منذ زمن رسول الله حتى اليوم”.
كما استعار رواد مواقع التواصل وبعض المواقع الإخبارية نصًا من حديث شيخ الأزهر في ألمانيا منذ أربعة أعوام عن هذه المسألة، وأعادوا تداوله ردًا على أطروحة نصير، يبرر فيه عدم جواز زواج المسلمة من غير المسلم قائلًا: “زواج المسلمة من غير المسلم غير جائز شرعًا، لأن الكتابي، وإن كان شخصًا مؤمنًا بأحد الأديان السماوية، فإنه غير مؤمن بالرسول محمد، ودينه لا يأمره بتمكين زوجته المسلمة، إن تزوجها، من أداء شعائر الإسلام أو احترام مقدساتها”.
أما الشيخ أحمد كريمة، زميل دكتورة آمنة نصير في جامعة الأزهر، لكن في تخصص آخر هو الفقه المقارن في كلية الدراسات الإسلامية، فقد اعتبر أطروحتها في حوار مع موقع “القاهرة 24”: “كلامًا فارغًا، مخالفًا للقرآن والإسلام، فالآية واضحة تمامًا في سورة الممتحنة بقول الله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر}، والمعنى هو النهي عن الإبقاء على العلاقة الزوجية التي بين الرجل إذا أسلم وبين الكافرة، إذا بقيت على كفرها، وقوله تعالى: {لا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم}، وأيضا المسلم إذا تزوج بكتابية فهو يؤمن بكتابها الذي نزل ورسولها، فيكون معها أساسًا للتفاهم في الجملة يمكن معه للحياة أن تستمر”، منوهًا عن احتمال ضعف التكوين العلمي للدكتورة آمنة وكثير من زميلاتها المتخرجات من الأزهر: “هي وأمثالها اللي اتخرجوا بنات من الأزهر، معرفش مدى حفظهم للقرآن الكريم.. الآيات واضحة”.
وقد ردت دار الإفتاء المصرية هي الأخرى على أطروحة نصير في منشور على الفيسبوك، حاولت أن تبتعد فيه عن السياق الزمني والاجتماعي للنصوص، وعن شخص صاحبة الفتوى، لكنه أثار أيضًا بعض الجدل بسبب اختلاف مضمونه عن الردود السابقة واحتوائه بعض المفردات المستعارة من نصوص غير إسلامية، التي حاول المحرر تعديلها لاحقًا، قائلة، في النسخة الأخيرة من النص: “لا يجوز للمسلمة أن تتزوج من غير المسلم، وهذا الحكم الشرعي قطعي، ويمثل جزءًا من هوية المسلم والعلة الأساس، في هذه المسألة تعبدية، بمعنى عدم معقولية المعنى، فإن تجلى بعد ذلك شيء من أسباب التحريم فهي حكم لا علل، فالأصل في الزواج أنه أمر إلهي، وصفه ربنا تبارك وتعالى بالميثاق الغليظ..(..)”.
فيما دافع البعض، على استحياء، عن أطروحة نصير، بعد أن بدا أن الغالبية العظمى من المسلمين في مصر لا توافق على رأيها، سواء لنص أم استدلال أم إجماع أم عرف، أيًا كان السبب، مع اصطفاف الدولة العميقة في وجهها الديني بجانب هذه الأغلبية، مما يجعل الوقوف في وجه هذه الأغلبية وقوفًا ضد الدولة بشكل ما، فكان أبرز المدافعين عن الأطروحة، بشكل غير مباشر، إعلاميًا وحيدًا مقربًا من النظام، وهو محمد الباز، وكاتبة نسوية تدعى ياسمين الخطيب، قالت إن أطروحة نصير خطوة جريئة على الطريق الصحيح، الذي عرفته بأنه نقض وكشف تلاعب الذكور بالنصوص لتحليل بعض الأشياء لهم وتحريمها، نفسها، على النساء، منوهة عن اعتقادها بأن الزواج مؤسسة عابرة للأديان، وأن “الإنسانية روح كل دين وغايته”.
لماذا كل هذا الزخم؟
يبدو أن صاحبة الأطروحة قد اعتادت الفتاوى والتصريحات المثيرة للرأي العام في السنوات الأخيرة، فقد صرحت، آمنة نصير، للمفارقة، بنفس هذه الفتوى، نهاية العام الماضي، في مثل هذا التوقيت تقريبًا، ولما تعرضت لهجوم مماثل، تنكرت لفتواها، مهاجمةً من حرفوا كلامها متهمة إياهم بغياب استحضار أمانة الكلمة، لأنها قالت فقط حينئذ إنه يجب احترام دولة تونس على سماحها للمسلمات بالزواج من أهل الكتاب، لأن ذلك شأن خاص بظروف المجتمع المحلي هناك، ولم تدع إلى ذلك في مصر.
وقبل هذه الفتوى، التي أثارت الجدل في عامين، العام الماضي والحاليّ، فقد كان لنصير مواقفها التي استغربها البعض في حينها، على غرار إعلانها التصويت لمرشح نظام مبارك في الانتخابات الرئاسية بعد الثورة مباشرة، أحمد شفيق، بسبب استهجانها سلوكيات الإخوان المهينة للمرأة، مثل استبدال صورة “الوردة” الافتراضية بصور المرشحات الإخوانيات الحقيقية في انتخابات مجلس النواب، وقد كان معروفًا أن هذا النمط من الدعاية النسائية خاص بحزب النور السلفي، وليس جماعة الإخوان، فضلًا عن أن يكون هذا السلوك، إن صح، سببًا كافيًا لاختيار مرشح “الفلول” بعد الثورة التي سقط فيها عشرات الشهداء.
أمام هذه الحالة العامة من العنف السلبي، اضطرت آمنة نصير، فيما يبدو، إلى التراجع “النسبي” عن فتواها، لا عبر إنكارها بالكلية، لكن عبر معاودة التأكيد على مجموعة الثوابت المحيطة بها، بغرض تهدئة الأوضاع وامتصاص الغضب الشعبي العام
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2014، أطلقت نصير وصلة مديح للقاضي الذي حكم بالبراءة لحسني مبارك ونجليه في قضية قتل المتظاهرين، معتبرة إياه “قاضيًا نظيفًا قويًا أبيًا”، مطالبة الشعب المصري الذي بات شعبًا “سفسطائيًا”، على حد قولها، بالتعلم منه: كيف يكون احترام الكلمة، وكيف يكون احترام الزمالة.
كما أفتت نهاية 2016، بجواز مشاهدة الراقصات في التلفاز والمسارح موجهة النداء للذكور المسلمين: “كفانا تطرفًا”، وبحسب صحفيين، وهي رواية لم نستطع التثبت منها بعد، فقد كان السبب الرئيس في انفصالها عن زوجها المستشار الدمرداش العقالي، بعد 25 عامًا من الزواج، هو اعتناقه الفكر الشيعي، بمعنى أنها تفتي بما لا تعتقد به.
وعلى الأرجح، فإن كثيرًا من المصريين يتخوفون من أن تكون فتوى نصير المتكررة حيال هذه المسألة تمثل وجهة نظر خط ما من الدولة نحو قوانين الأحوال الشخصية ضمن خطة تجديد “الخطاب الديني”، خاصة بعد أن اصطدم الرئيس السيسي بشيخ الأزهر قبل فترة في قضية مشابهة تقع ضمن نطاق الأحوال الشخصية أيضًا، لرغبته في منع وقوع الطلاق الشفاهي، عبر نظرة مقاصدية للدين، ترنو إلى تقليص حالات الطلاق المتفشية في المجتمع، وهو ما رفضه الإمام أحمد الطيب وقتها. لذلك، بالنسبة لهذه الفئة، فإنه من الضروري التصدي لمثل هذه الدعوات في المهد، خشية أن تؤدي إلى تغييرات مفصلية تسحب البساط من الدين الذي يهيمن على كثير من جوانب حياة المصريين، تلك الهيمنة التي من المفترض أن الدولة تحميها نزولًا على إرادة أغلبية المجتمع.
وبالنسبة لشرائح أخرى من المجتمع، فإن فتوى نُصير المثيرة للجدل، بغض النظر عن وجاهتها واتساقها من عدمه، فقد أتت زمنيًا في الوقت الخطأ، حيث أفلتت البلاد لتوها من أزمة فتنة طائفية جديدة، بعد أن سب أحد الشباب الأقباط رسول الإسلام على صفحته بموقع “فيسبوك” خلال الدعوات الإسلامية الأخيرة لمقاطعة المنتجات الفرنسية، ما أدى إلى اعتقاله، بعد ضغوط شعبية إسلامية، تبعها غضبٌ مسيحيٌ من عدم اتخاذ إجراء مماثل ضد فتاة مسلمة قامت بنفس السلوك، لكن ضد السيد المسيح، أسفر عن اعتقال هذه الفتاة هي الأخرى فيما بعد، ولم تهدأ الأمور، إلا بعد الإفراج عن كليهما، مقابل الاعتذار للطائفتين.. فلم إحياء الفتنة مجددًا؟
نهاية مؤقتة
أمام هذه الحالة العامة من العنف السلبي، اضطرت آمنة نصير، فيما يبدو، إلى التراجع “النسبي” عن فتواها، لا عبر إنكارها بالكلية، لكن عبر معاودة التأكيد على مجموعة الثوابت المحيطة بها، بغرض تهدئة الأوضاع وامتصاص الغضب الشعبي العام.
أصدر مكتب نصير بيانًا استدراكيًا يقول إنها على رأي جمهور الفقهاء من تحريم زواج المسلمة من غير المسلم، لكن، للمفارقة، فقد عاود المكتب تبرير هذا الرأي، بنفس العلة التي ألمحت نصير نفسها إلى انتفائها سابقًا، وهي: ألا يتسرب الأبناء أو يتشتت إيمانهم بين الأم المسلمة والأب المنتمي إلى أهل الكتاب. مع التأكيد، مجددًا، على أن الزواج من مشرك أو مشركة، محرم قطعيًا لوجود النص القرآني الصريح بتحريمه، ولا يجوز فيه الاجتهاد من أي نوع.
لكن هذا التعقيب جاء بعد أن تسلل هذا الجدل الحساس إلى الوسط القبطي نفسه، حيث بدأ عدد من النشطاء الأقباط يدونون على صفحاتهم بمواقع التواصل الاجتماعي ما معناه أن نقاش المسلمين حيال هذه المسألة يوحي بأن الذكور المسيحيين يتهافتون على الزواج من المسلمات، وهو – على حد قولهم – غير صحيح، لأن المسيحية هي الأخرى تمنع الزواج من غير المسيحية، بل تحرص كل طائفة داخل المسيحية على إلزام ذويها بالزواج من نفس الطائفة، فكيف هي الحال تجاه الديانات الأخرى؟
كما استنكر أقباط آخرون معاودة استدعاء مصطلحات “الكافر/المشرك” في هذا الجدل الإسلامي – الإسلامي، للإشارة إلى غير المسلمين، وعلى رأسهم المسيحيون في مصر، في ظل ما باتت تحمله هذه المفردات من دلالة سلبية، يفهمها بعض المتطرفين كمعادل موضوعي لاستباحة النبذ أو القتل، وهي أمور مدانة، على حد قولهم، لا لأغراض أخلاقية أو دينية فقط، ولكن حفاظًا على السلم الاجتماعي.