ترجمة وتحرير: نون بوست
في ربيع هذه السنة، اعتقل 14 رجلا بتهمة شراء الكتب الدينية وتحديدا الإسلامية منها، وخضع كل واحد منهم لأسابيع من الاستجواب بشأن مراسلاتهم عبر الإنترنت وآرائهم السياسية. هؤلاء الرجال من مدينة ييوو الصينية، التي تعد مركزا للتجارة الدولية على الساحل الشرقي للبلاد وموطنا لجالية متنامية من المسلمين. وتعتبر الاعتقالات رمزًا للقيود القاسية المتزايدة التي تستهدف الحياة الدينية والتعليمية للمسلمين في الصين.
لقد أصبحت السياسة العرقية الصينية تركز على منح الأقليات قدرا محدودا من الاستقلالية الثقافية، حيث تحولت في العقد الماضي نحو نهج يفضل الاستيعاب الكامل لأغلبية الهان العرقية في الصين في اللغة والممارسة الدينية. ويخشى المسلمون في الصين الآن من عودة حيز الحريات الدينية إلى ما كان عليه أيام الثورة الثقافية – عقد من الاضطهاد السياسي والديني الشديد في الستينيات والسبعينيات.
يقول أحد الناشرين المسلمين الصينيين عن تلك الحقبة: “كانت كل أسرة تقوم بحرق كتبها الدينية عند صدور حملة التفتيش. وكان الناس يرمون رماد الكتب في المرحاض إلى درجة انسداد الأنابيب. لكن الاضطهاد الذي نواجهه الآن أسوأ من ذلك الوقت”.
طلب الناشر، الذي فرّ من الصين ويواصل نشر كتب من الخارج، عدم الكشف عن هويته لأن ما لا يقل عن 40 شخصا من أقاربه اعتقلوا أو حُكم عليهم بالسجن بسبب معتقداتهم الدينية أو علاقتهم به. وقد اعتُقل كثيرون في شبكة النشر التابعة له أو فروا من البلاد. وفي حديثه عن ذلك، قال هذا الناشر إن “الدولة تريد فقط أن يكون لحديقتها نوع واحد من الأزهار، ألا وهي الورود الحمراء. فإذا ظهرت الورود الخضراء أو الزرقاء أو البيضاء، قطعتها على الفور”.
رجل مسلم من قومية هوي يقف أمام مسجد لاواسي في لينكسيا، مقاطعة قانسو، في سنة 2018. يتواجد المسلمون الصينيون بكثافة في المناطق الشمالية الغربية من قانسو ونينغشيا وشينجيانغ، لكنهم يعيشون في جميع أنحاء البلاد منذ أكثر من ألف سنة.
استهداف العلماء والكُتاب
قال ريان ثام، الذي يدرس الإسلام في الصين بصفته باحثا أول في جامعة نوتنغهام البريطانية، “إن المثقفين هم الذين يحافظون على التقاليد. ويُنظر إليهم على أنهم الحكام والقضاة الذي يدافعون عن الإسلام الحقيقي، وبالتالي فهم يشكلون هدفا جذابا للحكومة التي تهتم إما بالسيطرة على التعبير الثقافي أو محاولة إعادة هيكلته بالكامل”.
تضم الصين حوالي 23 مليون مسلم ملتزم، وفقًا لتعداد سنة 2010، وهو آخر إحصاء – أي أنهم يمثلون أقل من 2 بالمئة من سكان البلاد. إن معظمهم من الأويغور – مجموعة عرقية تركية – أو يُصنفون على أنهم هوي، ولا يمكن تمييزهم عرقيا ولغويا عن أغلبية الهان العرقية في الصين. يتجمع المسلمون الصينيون بكثافة في المناطق الشمالية الغربية من قانسو ونينغشيا وشينجيانغ، لكنهم يعيشون في جميع أنحاء البلاد منذ أكثر من ألف سنة.
في السنة الماضية، ذكرت الإذاعة الوطنية العامة الأمريكية أن السلطات أجبرت جميع المساجد تقريبا في نينغشيا ومقاطعة خنان الشرقية على أعمال “الترميم” التي تقضي بإزالة قبابها وكتاباتها العربية. ومنذ ذلك الحين امتدت عمليات الهدم إلى المساجد التي تقع في مقاطعتي جيجيانغ وقانسو. لكن المسلمين الملتزمين يقولون إن أشد القيود استهدفت الرموز المعنوية التي حافظوا من خلالها على إيمانهم لقرون في الصين.
ابتداءً من سنة 2018، أغلِقت بموجب القيود الدينية الجديدة مئات المدارس التي تُعلم اللغة العربية وعلوم الدين في جميع أنحاء نينغشيا وتشنغتشو، عاصمة خنان. والآن بات لزاما على الأئمة أن يأخذوا دروسًا في التربية السياسية كجزء من برنامج جديد للتعليم. ويفرض هذا البرنامج على الأئمة أن لا يمارسوا عملهم إلا في المنطقة التي تم تسجيل أسرهم فيها، مما يؤدي فعليًا إلى حرمان المئات منهم من التنقل.
منذ ذلك الحين، اشتدت حدة القيود المسلطة على المسلمين. وانتشرت عمليات هدم المساجد ووقع إسكات القلب الفكري للمجتمع الإسلامي في الصين إلى حد كبير، حيث يخضع العلماء والكتاب والزعماء الدينيون وعائلاتهم للمراقبة المستمرة من الدولة. كما توقف التبادل الأكاديمي والديني الذي كان مزدهرًا ذات يوم بين المسلمين الصينيين والمراكز الثقافية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وأصبح الأفراد الذين تربطهم علاقات تجارية أو دينية بالخارج يتعرضون لمضايقات واعتقالات من قبل الدولة الصينية
يقول ما هايون، الأستاذ المساعد في جامعة ولاية فروستبورغ، حيث يدرس الإسلام في الصين: “إن ما يهيمن على كوادر [الحكومة] الإسلامية هو خط الحزب [الشيوعي] والنسخة الرسمية للإسلام التي تروج لها الهيئات والمنظمات الحكومية. ونتيجة هذا التقييد أصبحت الخطابات التقليدية حول الإسلام تجارية ووطنية وصينية تدريجيا”.
المسجد الرئيسي في ييوو بمقاطعة جيجيانغ. يقول أصحاب الأعمال التجارية في المنطقة إن الحكومة المحلية أزالت المداخل المقوسة للمسجد لكن الأموال لم تكفِ لإزالة قباب المسجد.
“عشنا مثل الأشباح”
لا يزال باب مكتبة “كينزان شوجو” التي توفر الكتب الإسلامية مغلقًا، وظل المحل مليئا بأكوام من الكتب التي لم تُفتح بعد. لقد كانت المكتبة والموقع الإلكتروني المصاحب لها، التي تقع في حي جامعي راقي في بكين، تنشر أعمال الفلسفة الإسلامية وأحدث الأعمال العربية المترجمة إلى الصينية – إلى أن تم إلقاء القبض على الناشر ما ينغلونغ (لا علاقة له بما هايون) في سنة 2017 بتهمة النشر غير القانوني والإرهاب. وأفاد شخصان مقربان منه بأنه لا يزال معتقلا في منطقة شينجيانغ شمال غرب الصين.
أطلق الناشر الثاني المؤثر، ما زيشيونغ (لا علاقة له بأي من الناشرين الآخرين)، مطبعة “نشر تيانما” من مقاطعة يونان بجنوب غرب الصين حتى سُجن هو الآخر لبيعه كتبًا غير قانونية في سنة 2015. وقد أطلق سراحه هذه السنة، لكن بقي تحت المراقبة.
كتب ما زيشيونغ مقالا تم توزيعه على نطاق واسع هذا الخريف بين مجموعات الدردشة على تطبيق وي شات الصيني: “تم إغلاق المطبعة وصودرت أجهزتنا وجميع الكتب. في الأيام الأولى (من سجني)، كنت منعزلا تماما عن العالم الخارجي. اختفت كرامة الإنسان خلال أيام سجني. كل يوم، كانوا يجبرون الناس على نزع ملابسهم للتفتيش ويأمروننا برفع رؤوسنا بينما نجلس القرفصاء أثناء الاستجواب… كنا نعيش مثل الأشباح”.
مثّل الناشرون وسيطا مهما في عالم الكتاب والناشرين والمكتبات، وكانوا بمثابة العمود الفقري للدراسات الدينية في الصين. وحملات اعتقالات دليل على اتساع نطاق حملة القمع في شينجيانغ، حيث احتجزت السلطات مئات الآلاف من الأويغور والأقليات العرقية الأخرى، وحكمت على بعضهم بالسجن لفترات طويلة وتهمتهم الوحيدة ممارسة شعائر الإسلام.
رغم الانتقادات الدولية، أعلن الزعيم الصيني شي جين بينغ في اجتماع لمسؤولي الحزب عُقد في أيلول/ سبتمبر أن السياسات الأمنية في شينجيانغ كانت “صحيحة تمامًا” و”ناجعة”، قائلا: “يجب علينا المثابرة لإضفاء الطابع الصيني على الديانات الموجودة في بلادنا”.
رجال من الأويغور يتجهون نحو مسجد “عيد كاه” الواقع في قلب مدينة كاشغر، التابعة لأقليم شينجيانغ شمال غرب الصين، لحضور صلاة العيد في سنة 2019.
إن محاولات القضاء على مجتمع الكتاب المسلمين في الصين يأتي بعد فترة الانفتاح الأدبي التي أعقبت الإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي سادت في الثمانينيات. ورغم القيود المفروضة، تمكن الكتاب المسلمون من الازدهار في فترة اتسمت بحرية مطلقة في تلك العقود. فعلى سبيل المثال، قام الكتاب والمحررون بنشر أعمالهم بأنفسهم ووزعوها بالبريد على القراء والمكتبات الدينية التي كانت منتشرة في كل مكان خارج المساجد الكبيرة، لأنهم كانوا غير قادرين على الحصول على رموز الكتب التجارية – على غرار رقم الكتاب المعياري الدولي المخصص للناشرين المعتمدين – من قبل الدولة.
قال كاتب صيني مسلم بارز إن “الكثير من الناس تعرضوا للقمع بسبب أفكارهم وآرائهم في الصين، لكن أولئك الذين واجهوا مشاكل بسبب كتابتهم أو أعمال النشر من الجالية المسلمة لم يلاحظهم أحد”.
هرب هذا الأخير من الصين السنة الماضية بعد أن حذّره أصدقاؤه من أن الشرطة تسعى لاعتقاله. وقد طلب عدم الكشف عن هويته خوفا على سلامة عائلته، الذين مازال معظمهم في الصين.
اعتاد هو والمئات غيره من المسلمين الصينيين الإشراف على المنتديات والفعاليات التي تقام على الإنترنت وتنظيم مواقع الويب التي تناقش قضايا الدين والفلسفة. بحلول سنة 2016، تم إغلاق وفرض الرقابة على هذه المواقع. ثم بعد ذلك، انتقلوا إلى تطبيق “وي تشات” للدردشة، أين يدير الكاتب الآن مجموعات دردشة تضم كل منها 500 شخص، لكن القيام بذلك يتطلب يقظة دائمة حيث يقول: “حتى على هذا التطبيق، تستمر عملية الحظر من طرف الرقابة بينما لا نمل من مواصلة عملية إنشاء مجموعات جديدة”.
وتجدر الإشارة إلى أن تطبيق “وي تشات” تسبب في اعتقال 14 شخصًا في ييوو في وقت سابق من هذه السنة، بسبب اقتنائهم كتب هذا الكاتب عن التاريخ والنصوص الدينية والفلسفة عبر التطبيق.
قال صديق أحد المحتجزين، طلب عدم الكشف عن هويته لتفادي الاعتقال: “لقد قاموا باستجوابهم حول علاقتهم بالعديد من المثقفين المسلمين والمسلمين الصينيين المغتربين. كما طبعت الشرطة السجلات والرسائل النصية التي تبادلها المحتجزون على تطبيق “وي تشات” والتي كانت تجمعهم مع الكتاب والناشرين”. وأضاف “في الوقت الراهن، تقول الشرطة إنه يجب على هؤلاء الأشخاص إعلام الشرطة في كل مرة يسافرون فيها، وعليهم إبلاغها مسبقًا عندما يغادرون وعند عودتهم”.
بالنسبة لقادة الجالية المسلمة في الصين “لا يوجد أئمة يتجرأون على التحدث علانية”، وذلك حسب ما أفاد به عالم دين يقود مجموعة لتعليم القرآن في شمال غرب الصين. وأضاف المصدر ذاته: “يمكنك التخلي عن شهادة الإمام الممنوحة من الدولة ومغادرة المسجد للتحدث بصراحة، ولكن بعد ذلك كن على يقين من أنك سوف تخضع للمراقبة باستمرار”.
إنهم يعرفون ما الذي تخطط لفعله
في بداية سنة 2017، شاهد المسلمون الصينيون خارج شينجيانغ بفزع مئات الآلاف من الأويغور، وهم أقلية عرقية تركية، وهم يعتقلون ويرسلون إلى ما يسمى بـ “مراكز إعادة التأهيل” أو السجن. بعد فترة وجيزة، بدأ ضباط الأمن في شينجيانغ في الانتشار في مقاطعات أخرى لإعادة مسلمي الهوي، الذين يحملون وثائق هوية مسجلة في شينجيانغ، إلى المنطقة.
من بين الذين أُعيدوا قسرًا إلى شينجيانغ شابة من قبيلة الهوي درّست في مدرسة دينية في مسجد خارج شينجيانغ بعد أن أكملت درجة الدراسات اللاهوتية في جامعة الأزهر بمصر. في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، احتجزتها شرطة شينجيانغ فجأة وأعادتها إلى مسقط رأسها، مدينة تاتشنغ.
قال أحد زملائها، طالبا عدم الكشف عن هويته أو موقعه لأنه تم احتجازه واستجوابه بعد التحدث إلى الإذاعة الوطنية العامة الأمريكية، “سألناهم عن سبب إرسال 30 رجلاً للقبض على امرأة شابة ورضيعها في الساعة 11 ليلاً. فقد كان ذلك أمرًا غير معقول”. وقد علم في آذار/ مارس أن المرأة تم الحكم عليها بالسجن سبع سنوات دون معرفة التهم الموجهة لها.
أخبر أربعة مسلمين هوي ولدوا في شينجيانغ موقع الإذاعة الوطنية العامة الأمريكية أنهم تمكنوا من تغيير تسجيل وثائق هويتهم، المسماة هوكو، إلى مقاطعة أخرى قبل سنة 2017 في الوقت الذي أصبحت فيه القيود المفروضة على الأويغور المسلمين الملتزمين في شينجيانغ أكثر قسوة. كما سافر آخرون إلى الخارج. ولكن حتى خارج الصين، يواصل مسؤولو الأمن في شينجيانغ مضايقتهم من خلال تطبيق وي تشات.
يقول مسلم من قومية الهوي، يعيش في الوقت الحالي في مصر وطلب كذلك عدم ذكر اسمه خوفًا من انتقام مسؤولي الأمن الصينيين، “لقد علمت شرطة موطني الأصلي بطريقة ما أنني انتقلت من الشقة التي أقيم فيها هذه السنة”. يرسل ضباط الشرطة رسائل “ودية” أسبوعيًا، تتضمن وجوه مبتسمة ورموز تعبيرية وملصقات، إلا أن نواياهم واضحة والهدف منها إظهار أنهم يعرفون ما الذي تنوي فعله وتذكيرك بالمكان الذي تنتمي إليه في الأصل”.
محاولات لاستقطاب القادة المسلمين
لقد طالت حملات القمع التي تقودها الشرطة في إقليم شينجيانغ مدينة على شاطئ البحر في هاينان، وهي جزيرة استوائية صينية في بحر الصين الجنوبي، تعد موطنًا لمجتمع الأوتسول الذي يتألف معظمه من المسلمين. وقد ساهم المناخ الدافئ الذي يميز هذه الجزيرة في جذب المتقاعدين والمصطافين من المقاطعات الأخرى خلال فصل الشتاء، بما في ذلك أعداد كبيرة من مسلمي الهوي.
في شهر شباط/ فبراير الماضي، خلال عطلة رأس السنة القمرية الجديدة، قام اثنان من ضباط الأمن العام في شينجيانغ بوضع طاولة في أحد المساجد الستة في مدينة سانيا الصينية الواقعة في جزيرة هينان لتسجيل وثائق هوية لكل من حضر صلاة الجمعة، وذلك وفقا لشخصين حضرا صلاة الجمعة في ذلك اليوم ولاذ أحدهما بالفرار من التسجيل عن طريق الخروج خلسة من باب جانبي.
في شهر أيلول/ سبتمبر، أي في بداية فصل الخريف، بدأت المدارس العامة في أحياء أوتسول في سانيا في منع الطالبات من ارتداء الحجاب في المدارس. وتظهر مقاطع الفيديو التي تمت مشاركتها مع الإذاعة الوطنية العامة الأمريكية طالبات محاصرات بضباط شرطة خارج مدرسة تياننا الابتدائية لأنهن رفضن الامتثال للأوامر.
ووفقًا لصحيفة “جنوب الصين الصباحية”، يمنع الحزب الشيوعي المحلي في الوقت الراهن أعضاءه من ممارسة شعائر الإسلام ويدعو في الوقت نفسه إلى تضييق الخناق على الأحياء الإسلامية في سانيا. كما قامت قوات الأمن الصينية بدس معاونين لها في الفروع المحلية التابعة للرابطة الإسلامية في الصين، وهي الهيئة الوحيدة في الصين التي تديرها الدولة لتنظيم رحلات الحج الرسمية إلى المملكة العربية السعودية.
يقول عالم إسلامي إن ضباط الأمن الصينيين اتصلوا بابنه هذه السنة، قبل فترة وجيزة من ترقيته كعضو في الرابطة الإسلامية وكإمام مسجد، حيث “عرضوا عليه راتبا كاملا وراتبا تقاعديا ومنصب عضو في مجلس إدارة شركة حكومية محلية إذا تعاون معهم بشكل سري”، إلا أن ابنه رفض هذا العرض.
المصدر: الإذاعة الوطنية العامة الأمريكية