رغم تخصيص الحكومة العراقية عشرات مليارات الدولارات سنويًا كموازنة استثمارية ضمن الموازنة العامة للبلاد، فإنه ومنذ 17 عامًا لم يلحظ العراقيون أي تقدم ملموس في واقع البنى التحتية في البلاد.
فالمشاريع التي مولتها الحكومة إما ظلت حبرًا على ورق وإما شُيدَت كمشاريع تسويقية إعلامية لا طائل منها على مستوى البنى التحتية للعراقيين مثل مشاريع الأرصفة الجانبية للطرقات ومشاريع الجزرات الوسطية وتأثيث الطرقات في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من نقص حاد في عدد الأبنية المدرسية بما لا يقل عن 20 ألف مدرسة فضلًا عن النقص الحاد في المستشفيات والمراكز الطبية.
إهدار المال العام
أرقام مرعبة تلك التي يكشفها المسؤولون العراقيون لقيمة المشاريع الوهمية التي لم تنفذ، إذ تصل قيمة المشاريع الوهمية التي أُعلن عنها ورصدت مبالغها فعليًا من خزينة الدولة إلى نحو 300 مليار دولار، وكانت هذه الأموال مخصصة لبناء المستشفيات والمدارس والطرق والجسور والمراكز الترفيهية والمنتجعات السياحية وغيرها.
من جانبه، يشير عضو اللجنة المالية النيابية ثامر ذيبان إلى أن العراق كان من المفترض أن يشهد بعد عام 2005 ثورة عمرانية كبيرة في المجالات كافة لوجود موازنات وصفها بـ”الانفجارية”، إلا أنه أكد أن هذه الموازنات ذهبت للفاسدين عن طريق المشاريع الوهمية التي أصبحت من أخطر أبواب الفساد في البلاد، وبالتالي أدى كل ذلك إلى تراجع الخدمات العامة بشكل كبير.
ذيبان أوضح أن ما يقرب من 300 مليار دولار أنفقتها الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2005 وحتى اللحظة على مشاريع وهمية لا وجود لها على أرض الواقع، استغلها الفاسدون لبناء إمبراطورياتهم الشخصية والحزبية.
أما وزارة التخطيط العراقية فقد كشفت في تقارير دورية لها وجود أكثر من 6 آلاف مشروع معطل، فضلًا عن المشاريع الحكومية التي تقدر جهات أن عددها يصل إلى نحو 9 آلاف مشروع لا تزال حبرًا على ورق.
مشاريع دون جدوى
لا يقف هدر المال العام عند المشاريع المتلكئة أو الوهمية، إذ إن آلاف المشاريع التي نفذت على أرض الواقع لم تكن ذات جدوى وأنفقت الدولة عليها ملايين الدولارات دون أثر واضح.
يكشف مصدر بديوان محافظة نينوى في حديثه لـ”نون بوست” أن محافظة نينوى أنفقت عشرات مليارات الدنانير في مدينة الموصل ومدن المحافظة في مشاريع ترقيعية للزينة فقط دون أن يكون لها أي جدوى خدمية أو ترفيهية، ويضيف المصدر – اشترط عدم كشف هويته – أن مئات المشاريع نفذتها مديرية بلديات نينوى وبلدية الموصل وكذلك من الأموال المخصصة لإعمار المناطق المحررة على تأثيث الطرقات وصبغ الأرصفة وتزيين الجزرات الوسطية، كاشفًا أن جميع هذه المشاريع كان الفساد عنوانها الأول.
المصدر عدَّد جملة من هذه المشاريع لبلدية الموصل كتزيين شارع المنصة في الجانب الأيسر للموصل بأشجار التوت الضوئية البلاستيكية التي بلغت قيمة الشجرة الواحدة منها قرابة الـ350 دولارًا، فضلًا عن النشرات الضوئية السيئة الذوق وتزيين أعمدة الكهرباء وصبغ الأرصفة بأصباغ البيوت غير الفسفورية التي لا تصمد أمام العوامل الجوية الطبيعية أكثر من شهر واحد.
ويختتم المصدر أن هذه المشاريع تعد من أكثر المشاريع الرائجة ليس في نينوى فحسب بل في جميع المحافظات العراقية، إذ إنها سيئة التنفيذ وتتطلب صيانة مستمرة، وبالتالي فالأموال التي تصرف عليها باهظة جدًا، لافتًا إلى أنه كان من الأولى بمديريتي البلدية والبلديات أن تشرعا بفتح طرقات جديدة، فمدينة الموصل لم تشهد أي توسعة في طرقاتها منذ تسعينيات القرن الماضي.
من جهته، يقول الخبير في المجال الاقتصادي من الموصل محمد الحمداني في حديثه لـ”نون بوست” إن المشاريع المنفذة في محافظة نينوى تتسم بالعشوائية، فعلى الرغم من ادعاء مديرية البلديات بأن البنى التحتية الصحية ليست من اختصاصها، فإن المشاريع التي تنفذها مديرية البلديات أبعد ما تكون عن الجودة.
ويضيف الحمداني أن جميع الطرقات التي شرعت بلدية الموصل بتنفيذها إبان محافظ نينوى الأسبق نوفل العاكوب أُعيد إكساؤها مرة أخرى بسبب سوء التنفيذ، فضلًا عن أن هناك عدم تنسيق واضح بين الدوائر الخدمية في الموصل، فالطرق تعبد وبعد أقل من شهر تشرع دائرتا الماء والمجاري بحفريات في ذات الشارع للصيانة أو مد شبكات جديدة.
الواقع الخدمي في الأنبار سيئ للغاية، فما جرى من إعمار لأحياء ومناطق مدينة الرمادي لا يتعدى رصف الأرصفة وتعبيد الطرق من دون أي تخطيط
ويختتم الحمداني أن من أوجه القصور في عمل بلديات نينوى أن الموصل ومدن المحافظة بحاجة لعدد كبير من المتنزهات العامة الجديدة ذات الجودة العالية، فضلًا عن شق طرق جديدة بعد توسع المدينة لأكثر من ضعفي حجمها منذ عام 2003.
وإلى محافظة الأنبار غرب البلاد، إذ يكشف أحد أبرز ناشطيها في حديثه لـ”نون بوست” أن مشاريع الإعمار في محافظة الأنبار تتصف بالزينة فقط، مضيفًا “صحيح أن الطرق العامة في الأنبار شهدت حملات إكساء كبيرة، إلا أن غالبية الأموال كانت من صندوق إعمار المناطق المحررة، وكان الأولى بهذه الأموال أن تستثمر في بناء مستشفيات ومدارس جديدة، فضلًا عن إعمار مصانع الزجاج والفوسفات وغيرها”.
ويضيف الناشط الذي فضل عدم كشف هويته – خشية الملاحقة الأمنية – أن الزائر لمدينتي الرمادي والفلوجة يخيل إليه أن المدينتين شهدتا إعمارًا واسعًا، إلا أن من يدخل الأحياء السكنية يجد كَمَّ الركام والأنقاض وسوء الطرق الداخلية التي تفيض مع أول زخة مطر.
وتشي الصور والمقاطع الفيديوية التي ينشرها بعض ناشطي محافظة الأنبار أن الصورة الجميلة التي يحاول مسؤولو الأنبار رسمها للمحافظة باءت بالفشل، فالشوراع تفيض بالمياه، فضلًا عن نقص كبير في المراكز الصحية والمستشفيات.
يقول الناشط المدني من مدينة الرمادي صبحي الدليمي في حديثه لإحدى وسائل الإعلام: “الواقع الخدمي في الأنبار سيئ للغاية، إذ إن ما جرى من إعمار لأحياء ومناطق مدينة الرمادي لا يتعدى رصف الأرصفة وتعبيد الطرق من دون أي تخطيط، فما أن يُعبَّد طريق حتى تأتي دائرة الماء لحفره من جديد، وبالتالي ومع بدء موسم الأمطار شهدت الرمادي بحيرات من المياه الآسنة التي تجمعت نتيجة هطول الأمطار، وبات التنقل في بعض أحياء الأنبار شبيهًا بمحاولة الوصول من قرية إلى أخرى”.
غياب الشفافية
شهد العراق خلال الفترة الممتدة بين 2003 و2020 زيادة سكانية كبيرة وتوسعًا كبيرًا في محافظاته، غير أن غالبية المحافظات لم تشهد حتى اللحظة أي توسيع في الحدود البلدية لمراكز المدن.
وينطبق هذا الوصف على جميع المدن العراقية من الموصل وحتى البصرة، ويشير مختصون إلى أن أسبابًا سياسيةً وطائفيةً وحزبيةً تقف حائلًا دون توسيع الحدود البلدية للمدن، فتوسعة مدينة الموصل تصطدم بوقوف الحشد الشعبي برفض المشروع بسبب سيطرته الكبيرة على مناطق سهل نينوى وبزاوية 180 درجة للجانب الأيسر من المدينة، أما في مدن الأنبار، فتقف الخلافات العشائرية والمصالح الحزبية ذات الموقف، وهو ما ينطبق على بقية المدن العراقية.
فوضى كبيرة تعيشها مدن العراق، في ظل واقع أشبه ما يكون بالمخادع، فتأثيث الطرق والأرصفة لا يكون إلا بعد إكمال البنى التحتية للمدن
أما المهندس عمر نزار فيرى في حديثه لـ”نون بوست” أن دوائر التخطيط العمراني في العراق تفتقد للتخطيط وللذوق العمراني، فضلًا عن أن جميع القوانين التي تعمل وفقها قديمة وتعود لسبعينيات القرن الماضي.
ويشير نزار إلى أن دوائر التخطيط العمراني والبلدية والبلديات تفتقد للخطط الخمسية والعشرية التي تتطور المدن وفقها في جميع دول العالم، وبالتالي يتموضع العراق في واقع بائس من ناحية التخطيط العمراني لمدنه التي تحولت في غالبيتها إلى عشوائيات دون وجود تخطيط منظم وواضح لتوسعها.
وعزى نزار ذلك بالدرجة الأولى إلى نظام الجمعيات الإسكانية الأهلية التي تبتاع قطع الأراضي وتقسمها وتبيعها للمواطنين، وهو ما أرهق المدن وحولها إلى فوضى، لم تفلح معها الدوائر البلدية في إيجاد حل شامل لها ولبناها التحتية.
وعن البنى التحتية للمدن في العراق، يوضح نزار أن مدنًا كالموصل والأنبار وصلاح الدين وديالى وجميع المدن باستثناء العاصمة بغداد لا تزال تفتقد لشبكات الصرف الصحي للمياه الثقيلة، وبالتالي كان من الأولى بدوائر البلدية والبلديات والمجاري والتخطيط العمراني أن تصب جهدها في هذا الجانب، بدل رصف الطرق والجزرات الوسطية وتأثيث الشوارع.
هي فوضى كبيرة تعيشها مدن العراق، في ظل واقع أشبه ما يكون بالمخادع، فتأثيث الطرق والأرصفة لا يكون إلا بعد إكمال البنى التحتية للمدن، غير أن ما يجري في العراق هو عكس المنطق ومنذ 17 عامًا.