في الـ12 من يوليو/تموز الماضي، أي منذ نحو أربعة أشهر فقط من الآن، شن الجيش الأرميني هجومًا مدفعيًا مفاجئًا على وحدات الجيش الأذربيجاني المنتشرة بالقرب من منطقة “توفوز” المهمة بالنسبة إلى إمدادات النفط والغاز، جنوب القوقاز، على الحدود بين البلدين.
أدى هذا الهجوم إلى إيقاع خسائر بشرية كبيرة في صفوف القوات الآذرية، تقدر بالعشرات، مقابل عدد قتلى لا يتعدى أصابع اليد الواحدة بالنسبة للجيش الأرميني، في استمرار لسياسة الاعتداءات والسطوة النفسية والعسكرية التي بدأتها أرمينيا منذ منتصف الثمانينيات، حينما وقعت مجزرة “حوجالي” الشهيرة وتكللت بهزيمة عام 1994 التي امتدت آثارها إلى عام 2016 حينما وقعت اشتباكات مشابهة بين البلدين.
لم تقتصر آثار الهجمات الأرمينية التي وقعت يوليو/تموز الماضي، عند حد الخسائر البشرية، بل تعدت ذلك إلى ما يمكن تسميته بـ”نكء الجراح” الآذرية المتعلقة بالانتماء إلى أرض قره باغ منذ عام 1918 حينما أرسل السلطان العثماني جيشًا بقيادة أنور باشا لتحرير المنطقة ضمن معارك الحرب العالمية الأولى، ضد الأرمن والإنجليز والروس، وحتى النضال من أجل الحفاظ على السيادة الآذرية على قره باغ خلال الحقبة السوفيتية، وصولًا إلى توظيف هذه الهجمات، محليًا، للتعريض بشرعية الرئيس الآذري الحاليّ، إلهام علييف، الذي جاء إلى الحكم بعد عشر سنوات لم يستطع والده، أيضًا، خلالها تحرير المرتفعات المهمة.
لكن، بعد شهرين ونصف فقط من هذه الهجمات، عاد نفس الرجل ليعلن إطلاق حملة عسكرية مغامرة تستهدف كسر صمت السلاح المهيمن على المنطقة منذ نحو ثلاثة عقود تقريبًا، ويضرب بقبضة يده على الطاولة، أمام التلفاز، إيذانًا بنجاح الحملة في إجبار رئيس الوزراء الأرميني على التوقيع على اتفاق استسلام، لن يجرؤ على إقراره علنًا بسبب ورطته أمام شعبه، على حد قوله.. فمن ذلك الرئيس الآذري الذي نجح في قلب الموازين جنوب القوقاز وتحرير أجزاء كبيرة من أراضي بلاده المحتلة؟
حيدر علييف
لا يمكن بحال فهمُ الوضع السياسي الحاليّ في أذربيجان، الذي يعد فيه الرئيس إلهام حيدر علييف الرجل الأول في البلاد، حقيقةً ومجازًا، دون الإشارة إلى جذوره العائلية، من جهة رصد التأثير والتأثر الحتمي وعلاقة عائلته بالتاريخ السياسي للبلاد ومكتسباتها الحاليّة من جهة أخرى.
فقد ظل حيدر علييف، والد الرئيس الآذري الحاليّ، المولود عام 1923 وحاكم البلاد منذ عام 1993 إلى عام 2003، المتخصص في التاريخ والاستخبارات، والمتزوج من طبيبة العيون الحاذقة حاملة الدكتوراه، ظريفة، أحد رجال الاتحاد السوفيتي الأوفياء، يؤدي أدوارًا سياسيةً وأمنيةً كثيرةً لصالح الاتحاد، على رأسها دور أشبه ما يكون بـ”والي روسيا على أذربيجان ونخجوان”، حتى وقت قريب قبل وصوله إلى السلطة في بلاده.
نقول ظل ولاؤه الأول لروسيا، حتى وصوله إلى السلطة، رغم تدرجه الكبير في المناصب داخل البُنية السياسية للاتحاد السوفيتي، بامتداد عُمره، لأن علاقته أخذت تتدهور مع قيادات رفيعة في الدولة السوفيتية خلال السنوات الأخيرة، قبل انهيار الاتحاد وظهور ما يسمى “رابطة الدول المستقلة” عقب سقوطه، التي تعد أذربيجان أحد أعضائها حاليًّا، وكان على رأس هذه القيادات التي اصطدم معها “ميخائيل غورباتشوف” نفسه.
أدت مواقف حيدر علييف الحازمة تجاه هذا التيار السوفيتي الجديد المؤيد للمزاعم الأرمنية إلى تنامي شعبيته السياسية وسط الشعب الأذربيجاني
جانب غير هين من تلك الخلافات التي أدت إلى الإطاحة بحيدر علييف خارج البُنية السياسية الرسمية للاتحاد السوفيتي نهاية الثمانينيات، كان بسبب نمو تيار داخلي في الاتحاد يميل إلى موقف سلبي تجاه المزاعم والاعتداءات الأرمينية على الأقلية الأذرية في قره باغ، بل وتأييد مطالبها في السيطرة السياسية على الإقليم بدعوى مكافحة سياسة تأذير الإقليم وأحقية الأكثرية الأرمينية ورغبتها في الخضوع لحكم أرمينيا، وليس أذربيجان.
أدت مواقف حيدر علييف الحازمة تجاه هذا التيار السوفيتي الجديد إلى تنامي شعبيته السياسية وسط الشعب الأذربيجاني، فلم يعد بالنسبة لهم مجرد رجل روسيا في الإقليم، وإنما بمثابة “أب” للشعب، خاصة مع عمره الكبير وخبرته الطويلة، فبدأ علييف بعد سقوط الاتحاد السوفيتي يؤسس بطانةً سياسية ملائمةً للدولة الجديدة ومقتضيات العصر، من وجهة نظره، عبر حزب “أذربيجان الحديثة” الذي دشنه في جمهورية نخجوان ذاتية الحكم، والأقرب إلى أذربيجان، عام 1992، تساعده على تبني سياسات اقتصادية وسياسية منفتحة على العالم الغربي واقتصاد السوق، بعد أن قضى عمره كله، بلا مبالغة، جزءًا من الجهاز الأمني للإمبراطورية الشيوعية.
جذور حكم الابن
ما أدى إلى تبني علييف الأب لهذه السياسات الجديدة المغايرة تمامًا للقيم التي عاش عليها، كان ببساطة، إدراكه أن سقوط الاتحاد السوفيتي، يعني، بشكل ما، عدم قدرة سياساته الاقتصادية ومقولاته الكبرى، على الصمود في هذا الوقت، وبالتالي، فإنه ليس من الفطنة التمسك بسياسات عفا عليها الزمن، كما يقال.
أمرٌ آخر، هو أن انهيار أحد القطبين، مع استقرار ونجاح القطب الآخر، يعني أن الرهان القادم لا بد أن يكون على الطرف الرابح، وهو الولايات المتحدة، وبالفعل، فإن أذربيجان التي تحدها روسيًا شمالًا، وإيران جنوبًا، وتحتاج إلى التكنولوجيا الغربية لاستخراج النفط والغاز، يمكنها أن تستفيد من الغرب إلى حين الخروج التدريجي من العباءة الروسية، فالإرث السوفيتي في هذه المنطقة والهيمنة السياسية وحدها، تمتد على الأقل، إلى منتصف القرن الثامن عشر، حينما أطاحت روسيا القيصرية بنفوذ الدولة القيجارية (الفارسية) جنوب القوقاز، وقد ساعده في هذا التحول خلافاته الأخيرة مع رموز الاتحاد.
ركز علييف الأب في سنوات حكمه لأذربيجان، التي لم تتجاوز العقد، أي فترتين رئاسيتين وفق الدستور الآذري، التي كانت سنواته الأخيرة في الحياة أيضًا، على الإصلاحات الهيكلية في الاقتصاد، وفق “روشتة” صندوق النقد والبنك الدوليين. الإصلاحات الهيكلية هنا نعني بها “الأرقام” الكبرى: عجز الموازنة والتضخ والناتج المحلي والصادرات والواردات والاستثمارات الأجنبية وتحرير سعر الصرف وتقليل الدعم الحكومي والخصخصة.
أدت هذه السياسة إلى قفزة إيجابية كبيرة في معدلات نمو الاقتصاد، حيث، سجلت باكو، سريعًا معدلات نمو تفوق باقي نظيراتها في الدول المستقلة عن الاتحاد، مدفوعة بعقود النفط المبرمة مع شركات النفط الغربية، وفي عام 2002، قُدرت زيادة الموازنة بأنها أكبر بـ85 مرةً، من عام تولي حيدر علييف السلطة في أذربيجان. تدخل هنا بطبيعة الحال اعتبارات مثل تحرير سعر صرف العملة في إظهار الأرقام بشكل مبالغ، ولكنها، تحسنت بالفعل.
بدأ علييف الأب يُصعد علييف الابن، تدريجيًا إلى السلطة، مستغلاً خلفية نجله الدراسية في مجال العلاقات الدولية
لكن المهم، بقيت هناك مشكلتان كبيرتان، الأولى تلك المتعلقة دائمًا بالآثار الجانبية لمشكلة الاستحواذ الفردي على السلطة، مع وجود عوائد غير تقليدية من أحد مصادر الدخل مثل النفط والغاز، وما يصاحبها من فساد مقصود وغير مقصود، يؤثر سلبًا على شعور المجتمع بالتحسن، خاصة في ظل سياسات صندوق النقد، والثانية هي معضلة “قره باغ” التي ترعاها مجموعة “مينسك”، فالمفاوضات تتقدم خطوة وتتراجع عشر خطوات، وما زالت أرمينيا تحتل الإقليم.
إلهام علييف
قبل وفاته عام 2003 عن عمر يناهز 80 عامًا بعدة سنوات، بدأ علييف الأب يُصعد علييف الابن، تدريجيًا إلى السلطة، مستغلًا خلفية نجله الدراسية، الذي درس وتخصص في مجال العلوم السياسية، العلاقات الدولية تحديدًا، ودرسها أيضًا للطلاب في أحد المعاهد المرموقة بروسيا لسنوات.
تدرج علييف الابن المولود عام 1961 في المناصب الرفيعة داخل بلده عقب انتهائه من العمل الأكاديمي في الجامعة خارج البلاد، تحت عناية والده الذي يعرف أن أجله قد اقترب، فعمل في شركة النفط الآذرية الوطنية في منصب قياديٍ لفترة ساهم خلالها في إنجاز عدد من العقود النفطية الكبرى مع الدول الغربية، كما عمل رئيسًا للجنة الأولمبية الأذربيجانية، ونال عضوية البرلمان.
وفي آخر أيام والده، في تلك الفترة التي تعرض خلالها الرئيس حيدر علييف لوعكة صحية على الهواء مباشرة، أدت، إثر إصابته بقصور في الكلى والقلب، لوفاته بالولايات المتحدة عام 2003، كان إلهام قد ترقى وظيفيًا في مساره كرجل دولة ليصبح رئيسًا للوزراء. نلاحظ هنا أن والده اعتاد العلاج في الولايات المتحدة، وليس روسيا، وهي رمزية مكثفة تكشف التحول السياسي في حياته أولًا، وأحد أسباب هذا التحول، هو التقدم التقني في أمريكا ثانيًا.
مدفوعًا بنفوذ والده السياسي المتجذر لعقود في أذربيجان، وسطوة حزب “أذربيجان الجديدة”، وحنكته السياسية في تقديم خطاب متوازن داخليًا وخارجيًا، والمأزق الدستوري الذي خلفته وفاة والده، تولى إلهام، نجل حيدر علييف، رئاسة أذربيجان، بعد انتخابات فاز فيها بنسبة أكثر من 70%، ليصبح أحد أصغر الرؤساء في العالم عن عمر يناهز 43 عامًا فقط.
خلافًا لوالده الهرم، منح إلهام علييف الدولة الشابة مزيدًا من شبابه، فركز على محاولة علاج مشكلات ولاية علييف الأب الرئاسية، وعلى رأسها إحساس المواطن بجدوى الإصلاحات الاقتصادية. هنا، لم تعد الدولة إلى الحقبة الشيوعية وتصورات التسوية الاجتماعية بين جميع المواطنين واليوتوبيا الأرضية، لكنه أولى مزيدًا من الاهتمام إلى مشروعات البنية التحتية العملاقة، وإشراك الفئات الأقل مثل مُهجري الحرب وسكان الريف في التنمية، وتحديث الجيش، مرتكزًا في ذلك على عوائد مشروعات النفط والربط الجيواقتصادي العملاقة.
بحلول عام 2011، أدت الإصلاحات إلى تحقيق معدل نمو تراكمي للناتج المحلي أكثر من 14%
من أبرز هذه المشروعات التي أعادت وضع أذربيجان على الخريطة السياسية والاقتصادية في منطقة جنوب القوقاز، مشروع “باكو – تبليسي – جيهان” الذي دُشن يوليو/تموز 2006، بطول أكثر من 1700 كيلومتر، للربط بين الدول الثلاثة، أذربيجان وجورجيا وتركيا، ونقل أكثر من 50 مليون طن نفط خام من بحر قزوين، ومشروع خط أنابيب جنوب القوقاز الذي تم تشغيله نهاية نفس العام، لنقل الغاز الأذربيجاني لأوروبا من حقل “شاه دينيز” العملاق وخط “تاناب” مع تركيا، بالإضافة إلى خط سكك حديد عملاق للبضائع يصل من أذربيجان إلى قارص التركية عبر تبليسي الجورجية.
بحلول عام 2011، أي قبل نهاية فترته الرئاسية الثانية بعامين، أدت هذه الإصلاحات إلى تحقيق معدل نمو تراكمي للناتج المحلي أكثر من 14%، ومضاعفة الاحتياطي النقدي الأجنبي 25 مرة، وتجاوز الإنفاق على الجيش حاجز الـ3 مليارات دولار أمريكي، بعد أن كان نحو 300 مليون دولار فقط في نهاية حكم والده عام 2003، وهي الإصلاحات التي ساهمت في انتخابه فترة رئاسيةً ثالثة عام 2013 لمدة خمسة أعوام جديدة.
الأسرة
من منظور وصفي بحت، قد يكون ضروريًا التعرف على أسرة الرئيس، ضمن محاولتنا للتعرف على الرئيس الأذري، كما هي الحال مع أي رئيس آخر، لكن في أذربيجان، التي يمكن وصفها اختصارًا، بكلمات مفتاحية، أنها دولةٌ اشتراكية سابقًا، رأسمالية الطابع حاليًّا، إسلامية تميل إلى التشيع اجتماعيًا، علمانية على المستوى السياسي، نفطية من حيث الموارد والدخل، عائلية حُكمًا، فإنه من الواجب التقرب من عائلة الرئيس التي تشاطره حكم البلاد الآن بلا أدنى مبالغة.
عاد الحديث عن استحواذ عائلة علييف على السلطة بشكل أعنف خلال السنوات الأربعة الماضية، وذلك بعد قيام الرئيس إلهام علييف بتمرير تعديل دستوري عام 2016، يسمح له بزيادة الفترة الرئاسية الواحدة لسبعة أعوام بدلًا من خمسة، وعدم التقيد بعدد محدد للفترات الرئاسية، وتعيين نائب للرئيس، جرى بعده اختيار زوجته ماهريبان نائبة له عام 2017.
بات الرئيس أكثر صلابةً في الرد على الاتهامات المتعلقة بالوضع السياسي بشكل عام مؤخرًا
ماهريبان هي طبيبةُ عيون، مثل والدة الرئيس ظريفة، حاصلة على الدكتوراه في حقل بيني (بين) الطب والفلسفة، فلسفة الأخلاق تحديدًا، عن القتل الرحيم والمفاهيم الإنسانية في الطب، تبلغ من العمر 55 عامًا، وهي رفيقةُ درب الرئيس التي تزوجها بمجرد بلوغها السن القانونية للزواج، وتنتمي لعائلة مرموقة، حيث كان عمها أول سفير أذري في أمريكا، ووالدها طيار من مؤسسي الطيران المدني في باكو، ووالدتها فقيهة ولغوية عارفةٌ بالعربية.
وقد أفادت ماهريبان من وصول إلهام إلى السلطة بشكل ملحوظ، حيث تولت رئاسة مؤسسة “حيدر علييف” التي تعمل على إحياء سيرة الأب المؤسس، عبر مشروعات تنموية ضخمة محليًا، ونالت عضوية اللجنة الأولمبية التي كان يرأسها زوجها، وفازت بلقب سفيرة النوايا الحسنة للحفاظ على التراث الثقافي غير المادي لبلادها، كل ذلك بعد عام من وصول إلهام علييف للسلطة رسميًا.
لماهريبان ثلاثة أبناء، اثنتان من الإناث وذكر واحد، أكبرهم ليلى إلهام 36 عامًا، وأرزو إلهام 33 عامًا، وكلتاهما تعملان في مجالات ناعمة، كالبيئة والأدب والفن ومؤسسة جدهما، وإن كانت الكبرى هي الأكثر نشاطًا، وبالأخص من ناحية توطيد العلاقات مع موسكو، بالإضافة إلى حيدر، الذي حمل اسم جده، ويبلغ من العمر 23 عامًا.
اعتاد الرئيس الأذري التعرض إلى هجوم داخلي وخارجي (غربي) كبير، بعد تمريره التعديلات الدستورية الأخيرة منذ أربعة أعوام، وتقريب زوجته من الحكم، مع تكهنات بنية الأب تمرير السلطة إلى الزوجة حال أعاقه أي مانع غير متوقع عن استكمال قيادة البلاد، لتحتفظ بها، وهي ذات باع سياسي قديم، منذ دخولها البرلمان عام 2005، ونفوذ عائلي كبير، إلى أن تسلمها لحيدر الابن، حفيد حيدر الجد، القائد المنتظر للبلاد.
في السابق، كانت تحظى هذه الانتقادات بصدى واسع في العائلة، لكن الملاحظ، أن الرئيس بات أكثر صلابةً في الرد على تلك الاتهامات المتعلقة بالوضع السياسي بشكل عام مؤخرًا، مدفوعًا، على الأرجح، بنشوة تحطيم خصم بلاده اللدود بشكل مذل، أرمينيا، ونجاحه في استعادة جزء كبير من أراضي بلاده المحتلة منذ ثلاثين عامًا.. فهل نجح إلهام علييف، بفضل حرب قره باغ، في تسويق نفسه خارجيًا وتجديد شرعيته داخليًا بعد أن دمر المستقبل السياسي لرئيس الوزراء الأرميني؟