منذ قيام الثورة الإيرانية في 1979، وفي المشرق العربي صراع إقليمي محتدم على النفوذ والامتدادات وصنع الولاءات واكتساب الحلفاء، تقف الجمهورية الإيرانية على أحد طرفي هذا الصراع، فيما تقف دول عربية إقليمية كبرى على الطرف الآخر، وبعد مرور أكثر من عقدٍ على هذا الصراع، سُمي الطرفان المتصارعان سياسيًا بمحوري الممانعة والاعتدال.
يستطيع المراقب للمشهد السياسي أن يلمس، بوضوح، كيف يصنع كل طرف حلفاءه، وطبيعة المعايير التي يرتكز عليها هذان الطرفان في تكوين مساحات النفوذ والولاء في الدول الإقليمية المحيطة، ومدى خدمة الجماعات والأحزاب الحليفة لسياسات الدول الداعمة لها.
وفي حال أردنا أن نقرّب العدسة أكثر لبعضٍ من أهم مناطق التجاذب والاستقطاب في المنطقة، وأخذنا العراق، بعد الاحتلال الأميركي، ولبنان واليمن، نماذج للدول الهشة التي يحاول كل طرفٍ أن يصنع له فيها امتدادات وكتلاً سياسية موالية، وحاولنا أن نستخلص منها كيف يصنع كل طرفٍ حلفاءه في هذه الدول؛ فيمكننا أن نُسجل أن حلفاء إيران، غالبًا، هم مجموعات عقائدية، إما منتمون إلى المذهب الإثنى عشري نفسه، أو إلى التشيع بالمعنى الواسع، فيما حلفاء الآخرين، غالبًا، مجموعات سياسية علمانية، لا تنطلق من أيديولوجيا، ومعظمها انتهازي، تم شراؤه بالمال، ومستعدٌ للتخلي عن حليفه متى توقف الدعم المالي والسياسي، وربما هو مستعد أيضًا للانحياز إلى الخصم متى أبدى استعدادًا للدفع.
كما أن معظم حلفاء إيران من الأقليات التي تشعر بقلق وجودي، وتملك شعورًا متناميًا بالمظلومية، وتشعر أن ارتباطها بإيران عضوي، وأنها الظهير الوحيد لها في المنطقة، خصوصًا مع وجود خصوم، كالقاعدة وداعش، لا يتوانون في تقديم كل الأدلة والبراهين، برغبتهم في تصفية هذه الأقليات وتحجيمها، فيما حلفاء الآخرين ينتمون، غالبًا، إلى الأكثرية المذهبية التي لا تشعر أن وجودها مهدد، كما أنهم ليسوا من الجماعات والأحزاب التي لها عقيدة سياسية صلبة ومشروع واضح وجمهور واسع، بل هم غالبًا، زعامات عشائرية تقليدية، أو شخصيات سياسية براجماتية.
وبناءً على ما سبق، فإن لحلفاء إيران، غالبًا، حيثية شعبية، وجمهورًا مؤمنًا ومتماسكًا، يشعر بأن وجوده ومصالحه مرتبطة بدعمه وولائه لهذا الحزب الموالي لإيران، فيما حلفاء الآخرين لا يجدون وسيلة لكسب جمهورهم سوى بالمال، وبالمشروعات التنموية، وبالمنح التعليمية، وربما بشراء الأصوات الانتخابية، التي متى توقفت، توقف ولاء الجمهور لها.
وترفع إيران وحلفاؤها، دائمًا، لافتات قادرة على الحشد وكسب الولاءات والمزايدة الأخلاقية على الخصوم، كشعار فلسطين والمقاومة وخصومة الغرب و”الموت لأمريكا” الذي ترفعه حتى الأحزاب الموجودة في دولٍ ليست على خطوط التماس مع فلسطين المحتلة، فيما حلفاء الآخرين هم، غالبًا، أصدقاء أمريكا، أو لا يرفعون راية الخصومة معها، وقضية فلسطين غير حاضرة في خطابهم، وحلفاء إيران مؤمنون حقيقيون بالمشروع التوسعي الإيراني، ويشعرون أنهم جزءٌ صميمٌ منه، وفيهم من هم مستعدون للتضحية، وحتى الموت في سبيله، فيما حلفاء الآخرين أشبه بلوبي مصالح، متى توفرت مصالحهم كانوا معك، ومتى بدأت المعركة ولاحت رايات الخسارة انسحبوا من الميدان.
إذا كان ما سبق يعد بعضًا من أهم الملامح والفروق بين “حلفاء إيران” و”حلفاء الآخرين”، فلن يكون ذا معنى التساؤل: لماذا ينتصر حلفاء إيران ويتمددون، ويخسر حلفاء الآخرين في كل مرة يخوضون فيها صراعًا سياسيًا أو عسكريًا؟ فقبل أن تتساءل: لماذا خسرت؟ فتش عن: من هم حُلفاؤك؟
لكن، وسط هذا المشرق العربي المحتدم بالصراعات والطوائف والأزمات، ثمة دولة عربية صغيرة أدركت طبيعة المشكلة، وعرفت أنها لا تملك أيديولوجيا صلبة “قابلة للتصدير”، يمكن عن طريقها أن تصنع لها امتدادات عضوية، وفي الوقت نفسه، هي تريد أن تصنع تحالفات مع “حلفاء” لهم وجود حقيقي وحيثية شعبية وأيديولوجيا، لا مجرد “أذرع” أو مجموعات انتهازية، مستعدة للتخلي عن حليفها في أول مواجهة؛ لذلك، سعت للتلاقي مع “حلفاء” يتوافقون معها في معظم الملفات السياسية الإقليمية، لكنهم غير مستعدين لتلقي “أوامر” و”تعليمات”، تقلّص من مساحة استقلالهم، وهي، بدورها، كانت مستعدة لبناء تحالفات قائمة على التوافق السياسي والاحترام والتنسيق، لا الولاء والانتفاع، وتلقي الأوامر؛ لذلك، لا تجد مشكلة في أن ينتقدها حلفاؤها متى اختلفوا في بعض المواقف السياسية.
وبهذه الطريقة في تكوين التحالفات، يبدو أنها هي الطرف العربي الوحيد الذي يمكن له أن ينجح.
نُشر هذا المقال لأول مرة في صحيفة العربي الجديد