في الوقت الذي يتمتع فيه ملايين الناس حول العالم برخاء العيش الناتج عن الطفرة التي أحدثتها التكنولوجيا في كل المجالات الحياتية، قد يكون من الصعب أن يصدق البعض أن ما يقارب عُشر سكان العالم يعيشون في فقر مدقع اليوم. ولأجل التوضيح بين الفقر بشكل عام والفقر الحاد فكل من يعيش بأقل من 1.9 دولار في اليوم فهو في حالة فقر مدقع وذلك يعني أنه لا يملك ما يكفي قوت يومه وقد يضطر في الكثير من الأحوال للتخلي عن وجبة طعامه الرئيسية، وذلك بحسب البنك الدولي.
من المؤكد أن الفقر ليس آفة يعجز الإنسان عن علاجها، فالبيانات تؤكد أن التكنولوجيا وأثرها المهول في كل المجالات أدت إلى خفض معدلات الفقر الحاد بشكل كبير ومتسارع خلال العقود الثلاث الأخيرة، حيث انخفض عدد من يعيشون تحت خط الفقر المدقع من ما يزيد على 40% سنة 1985 إلى ما يقارب 10% عام 2019، وكل هذا يؤكد أن الفقر العالمي لا يمكن أن يعزى لمحدودية الموارد العالمية، لكنه نتيجة لعدة عوامل من صنع الأنظمة السياسية والاقتصادية أو ببساطة نتيجة لعدم وجود قرار صادق من الحكومات بالتغيير.
عندما يصبح الفقر هو المرض
تكاد أن تكون الصحة والفقر مترابطين بشكل لا يمكن تجزئته، ففي معظم الأحوال تلازم المشاكل الصحية الفقراء أكثر من غيرهم، وقد يخفى على البعض أن أول وأهم محدد في تشكيل مستقبل الإنسان ومسار حياته بشكل عام والمالي بشكل خاص، هو شيء ليس للإنسان نفسه حيلة فيه.
إنها صحته الجسدية والعقلية التي – في كثير من الأحوال – يكون للفقر فيها اليد الطولى حتى وقبل أن يلفظ المحكوم بالفقر أول أنفاسه في هذه الدنيا، فمنذ اللحظة التي يتكون فيها الجنين ببطن أمه يبدأ الفقر يلعب ألاعيبه في تهديد مستقبله الذي لم يأت بعد، لأن نقص التغذية الصحية للأم والمتزامن عادة مع قلة الوعي والثقافة الصحية يمثل الضربة الأولى لمستقبل ملايين الأطفال من الطبقات الفقيرة حول العالم.
ثمة أدلة عديدة عن ارتباط الفقر بالولادة المبكرة وعدم اكتمال النمو الطبيعي للجنين داخل الرحم، ففي دراسة بعنوان: ولد مبكرًا وولد فقيرًا، يناقش الباحثون النتائج الفسيولوجية والعصبية والمعرفية والتعليمية المرتبطة بالخدج في سياق الفقر، مع تعريف دور الفقر كضغط سام ومسبب للولادة المبكرة التي يمكن أن تورث إلى الجيل التالي من خلال القوى اللاجينية، وبالإشارة أيضًا إلى ارتباط هذا الواقع بانخفاض الجهوزية للالتحاق بالمدرسة وكنتيجة انخفاض التحصيل العلمي الذي يديم دورة الفقر.
أضف إلى كل ما سبق أن الأسر الفقيرة عادة ما تسكن في المناطق الأسوأ من ضواحي المدن التي تكون عادة قريبة من المصانع والمخلفات الصناعية التي تؤدي بهم إلى التعرض لمستويات أعلى من الهواء الملوث، بما في ذلك الجسيمات مثل أكسيد النيتريك الأنواع وثاني أكسيد الكبريت الذي تم ربطه بشكل متكرر مع الأمهات اللواتي تعرضن للولادة المبكرة.
العائلات من الفئات الاجتماعية والاقتصادية المنخفضة هي أيضا أكثر احتمالا لأن تعيش في مساكن أقدم، مما يزيد من خطر التعرض للرصاص من الغبار أو الطلاء الرديء المتهالك، إذ تشير البيانات إلى أن النساء اللواتي عانين من الولادة المبكرة لديهن مستويات أعلى من الرصاص من أمهات الرضع الناضجين.
وبطبيعة الحال، يمكن أن نضيف أن سكان المناطق الأفقر أكثر عرضة للموارد المائية غير النظيفة مقارنة مع المناطق ذات الدخل المرتفع الذي بدوره يرتبط أيضًا بتزايد عدد حالات الولادة المبكرة.
روابط أخرى
غالبًا ما تكون الفئات المهمشة والأفراد المستضعفون هم الأكثر تضررًا عند الحديث عن غياب الرعاية الصحية، وتبدأ مأساتهم بما هو أبسط من ذلك بدءًا من عدم اهتمام الجهات الحكومية المعنية بتزويدهم حتى بالمعلومات الصحية الأساسية وصولًا إلى غياب الخدمات الصحية المجانية الكافية أو ذات الجودة التي من شأنها أن تساعدهم في الوقاية من الأمراض وعلاجها قبل تفاقمها.
إذ يمكن أن تكون تكلفة أتعاب الأطباء والأدوية ووسائل النقل للوصول إلى مركز صحي كلها أسباب لنتائج مدمرة لا تقتصر على صحة الفقراء بل وعلى مستقبلهم ومستقبل أطفالهم. ففي أسوأ الحالات، قد يؤدي عبء المرض بالعائلات إلى بيع ممتلكاتها أو إخراج الأطفال من المدرسة لكسب لقمة العيش أو حتى الاضطرار للتسول.
غالبًا ما يتحمل أحد الأبناء أو الأقارب عبء رعاية الشخص المريض، وقد يضطر إلى التخلي عن تعليمه نتيجة لذلك
وفي أحيان أخرى، يتحمل أحد الأبناء أو الأقارب عبء رعاية الشخص المريض، مما يضطره إلى التخلي عن تعليمه نتيجة لذلك، أو العمل للمساعدة في تغطية تكاليف الأسرة، وهو الأمر الذي يترتب عليه فقدان التعليم، وإذا كان هذا الشخص امرأةً فبرعايتها للمريض قد تدمر حياتها بالكامل، لأن الفقر والمجتمع سيفرضان عليها التخلي عن كل حقوقها المستقبلية بما فيها الزواج وتكوين عائلة.
الخلاصة
الفقر سبب رئيسي لاعتلال الصحة وعائق أمام الحصول على الرعاية الصحية عند الحاجة. هذه العلاقة مالية بالدرجة الأولى، إذ لا يستطيع الفقراء تحمل كلفتها (مثل الاستشارات الطبية والفحوصات والأدوية)، ولا تكاليف التنقل وأي مدفوعات غير رسمية لمقدمي الرعاية، أو حتى ما يؤدي للحصول عليها من غذاء ومسكن جيدين. ومع ذلك، فإن العلاقة مرتبطة أيضًا بعوامل أخرى، مثل نقص المعلومات والثقافة الصحية الأساسية.
وعليه يجب أن تعمل النظم الصحية على تحسين الوضع الصحي لجميع السكان، لكن بشكل خاص للفقراء والمهمشين بما يقتضي بتقليل التكلفة المباشرة للرعاية الواقعة على كاهلهم، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تخفيض/إلغاء رسوم زيارة الطبيب للفقراء أو توسيع مجال التأمين الصحي للفقراء، وتقليص المسافة (من خلال زيادة عدد الوحدات الطبية في المناطق الأفقر)، ودعم تكاليف التنقل من وإلى مراكز الرعاية، وتعزيز برامج الصحة، والتحويلات النقدية المشروطة لفئات المجتمع الأكثر فقرا.
والهدف الرئيسي من ذلك كله الحد من عدم المساواة في القطاع الصحي أمام الفئات المهمشة التي لا تملك رفاهية العناية بصحتها كلما لزم الأمر.