فتحت صفقة تبادل الأسرى “الغامضة” التي تمت على حدود الجزائر الجنوبية، المجال للحديث عن دور القوى الغربية بالأخص فرنسا في مواجهة الإرهاب في الساحل الإفريقي.
فقد حرص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على الاحتفال، بعودة آخر رهينة فرنسية في العالم صوفي بترونين إلى بلادها فرنسا قادمة من مالي، في صورة الإنجاز الأمني المشرف، وهو ما برز في بيان صدر عن الإيليزيه، إذ قال ماكرون: “هذا الإفراج جاء بفضل تضافر جهود أجهزة المخابرات وقوات الجيش بالإضافة إلى شركاء ماليين”، حتى إن الحدث حظي بتغطية إعلامية واسعة.
ما لم يكشفه ماكرون
لكن رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون، الذي تحتل قواته شمال مالي تحت غطاء “مكافحة الإرهاب”، لم يكشف للرأي العام “الأسرار” المخفية في صفقة تبادل الأسرى التي جرت في مالي مقابل تحرير “صوفي” الطبيبة المختصة في التغذية التي أرسلت إلى مالي عام 2001 بهدف العمل التطوعي، وهي الحقائق التي فضحها إرهابيي الصفقة الفرنسية اللذان سقطا في قبضة الجيش الجزائري إثر عمليات استخباراتية.
وأعلنت الدفاع الجزائرية، في نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلقاء القبض على الإرهابي مصطفى درار في محافظة تلمسان (غرب الجزائر) بعد متابعة مستمرة له منذ دخوله البلاد، عقب إطلاق سراحه من مالي ضمن صفقة تبادل.
وبحسب التفاصيل التي كشفها درار، في التسجيل المصور الذي بثه التليفزيون الجزائري، فإن صفقة تبادل الأسرى تمت بإشراف فرنسي مع جماعة إياد أغ غالي في شمالي مالي، زعيم جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التي لها ارتباط وثيق بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وتضم أربع مجموعات إرهابية بارزة هي: جماعة “المرابطون” وكتيبة “ماسينا” إضافة إلى جماعة “أنصار الدين” و”إمارة منطقة الصحراء الكبرى”.
وأوضح الإرهابي مصطفى درار أن المبادلة تمت بالإفراج عن 207 إرهابيين، إضافة إلى دفع فدية تتراوح بين 10 ملايين يورو و30 مليون يورو، وعن مساره في هذه الجماعة الإرهابية، قال درار: “انضممت إليها سنة 2012، وأسندت لي مهام تدريب الأطفال على السلاح رفقة عنصر تونسي آخر”.
وبعد ثلاثة أسابيع تقريبًا أعلنت وزارة الدفاع الجزائرية، توقيف إرهابي آخر بمحافظة تمنراست على الحدود مع دولة مالي، كان ضمن المجموعة التي أفرج عنها في إطار صفقة تحرير رهائن مالي، بينهم الفرنسية صوفي بترونين.
وقالت إنه تم إلقاء القبض على المجرم البالغ من العمر 32 سنة، بعد المتابعة الدقيقة لتحركاته المشبوهة مباشرة بعد دخوله إلى البلاد، وعلى إثر استغلال المعلومات الأمنية تمكنت المصالح المختصة في بلدة “تيمياوين” بدائرة برج باجي مختار محافظة أدرار أقصى جنوب الجزائر، من توقيف الإرهابي الحسين ولد عمار ولد مغنية المدعو “مايس”.
أخرجت عملية تبادل الرهائن الجزائر عن صمتها، واستهجنتها وزارة الدفاع الجزائرية
وعن تفاصيل القبض عليه، قال الإرهابي في تسجيل مصور بثه التليفزيون الحكومي: “ذهبت إلى مالي عام 2016، إذ فتحت محلًا لبيع لوازم النوم من أفرشة وأغطية، وكان يتردد عليّ مسلحون لشراء ما يحتاجونه”، وأضاف “حضر إليّ عناصر من الجيش الفرنسي، وبعد التفتيش وجدوا سلاحًا داخل غطاء، فأخذوني في طائرة عسكرية إلى باماكو، وسلموني للسلطات المالية”، وتابع الحسين ولد عمار “حققت معي السلطات المالية وأودعتني السجن، وهناك تعرفت إلى أشخاص لديهم تهم إرهابية على غرار عمي الطاهر ومليك التونسي ومصطفى الجزائري”، مبرزًا “مكثت في السجن من أواخر العام 2018 وحتى أكتوبر/تشرين الأول 2020، حين أطلقونا في مقابل الإفراج عن رهائن”.
خطاب مزدوج
أخرجت عملية تبادل الرهائن التي شكلت انتصارًا كبيرًا لتحالف نصرة الإسلام والمسلمين الذي يضم العشرات من المعتقلين المفرج عنهم، الجزائر عن صمتها، حيث استهجنت وزارة الدفاع الجزائرية الخطوة واعتبرتها “غير مقبولة ومنافية للقرارات الأممية التي تجرم دفع الفدية للجماعات الإرهابية”، وقالت: “مثل هذه التصرفات من شأنها أن تعرقل الجهود المبذولة قصد مكافحة الإرهاب وتجفيف منابع تمويله”.
كذلك انتقد الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون “ضمنيًا” هذه الصفقة، قائلًا: “نشعر بآلام الشعب المالي الشقيق وبخاصة المؤامرة التي مسته على حدودنا، فالتاريخ لا يرحم وهو واضح”، مشيرًا إلى أنه بعد انهيار ليبيا عام 2011 حملت قوافل من الشاحنات السلاح متوجهة نحو الساحل، حتى انتهت الأوضاع إلى انقلاب في مالي.
وتطرح هذه الصفقات العديد من التساؤلات، عن مدى التزام القوى الغربية بالأخص فرنسا بمكافحة المنظمات الإرهابية الناشطة في منطقة الساحل الإفريقي، وحتى مدى التزامها بالقانون الدولي المجرم للفدية، بحيث أصدر قرارًا في سنة 2014 يدين جرائم الاختطاف وأخذ الرهائن من طرف جماعات إرهابية بهدف جمع الأموال ودعا جميع الدول إلى منع الإرهابيين من الاستفادة بشكل مباشر أو غير مباشر من دفع الفدية أو التنازلات السياسية وتأمين إطلاق سراح الرهائن، إضافة إلى اللوائح التي أعلنت مرارًا وتكرارًا رفضها القاطع لدفع الفديات للمجموعات الإجرامية.
وفي عام 2015، انتقد الاتحاد الأوروبي بشدة ضمن لائحة تمت المصادقة عليها في لوكسمبورغ، عقب اجتماع لوزراء الخارجية، اختطاف الأشخاص من جماعات إرهابية وإطلاق سراحهم مقابل فدية، واعتبرت اللائحة أن “الاختطاف مقابل فدية يشكل مصدرًا لتمويل الإرهابيين ويدعم قدراتهم على تهديد مصالح الدول وأمنها، وهي المقاربة التي تتبناها الجزائر، ففي مايو/آيار 2012، أعلنت رفضها القاطع دفع فدية لحركة الوحدة والجهاد المتشددة لإطلاق سراح سبعة دبلوماسيين جزائريين، وقد طالبت هذه الحركة بفدية قيمتها 15 مليون يورو وبإطلاق سراح سجناء من عناصرها لدى السلطات الجزائرية، مقابل الإفراج عن الدبلوماسيين الجزائريين السبع.
وهو ما يؤكده الإعلامي والمحلل السياسي أحسن خلاص، في تصريح لـ”نون بوست” ويقول إن بعض القوى العالمية لديها خطاب مزدوج مع الممارسة الميدانية، بحيث تتغنى بمحاربة الإرهاب في المحافل الدولية وتتعامل معهم في الخفاء في شكل صفقات وهو ما يرفع معنوياتهم ويعزز قدراتهم، وهي الصور التي نشرتها وكالة الأنباء الموريتانية، مباشرة بعد إطلاق سراح الإرهابيين بحيث استقبل آغ غالي بحفاوة من بعض الإرهابيين حتى إنه دعاهم إلى مأدبة أقيمت على شرف هذا الانتصار.
ويشير المحلل الإعلامي والسياسي إلى أن مثل هذه العمليات من شأنها رفع التصعيد ومضاعفة القدرات ودرجة اليقظة لا سيما مع عودة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي إلى النشاط وتعيين قائد جديد له.
يقول الخبير الأمني والعسكري الجزائري، علي زاوي، إن فرنسا داست على قرار الأمم المتحدة بتجريم الفدية وحتى المقايضة بالإرهابيين وهو ما يتعارض مع المقاربة الأمنية للجزائر في منطقة الساحل الإفريقي، فهي ترفض التفاوض مع الجماعات الإرهابية إضافة إلى تجريم الفدية، وقد يدفع هذا الوضع العلاقات الجزائرية الفرنسية إلى مزيد من التوتر.
ويعتقد علي زاوي أن الإفراج عن الإرهابيين سيعزز مكاسب التنظيمات الإرهابية بينها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الذي أعاد تنظيم نفسه وبايع الإرهابي أبو عبيدة يوسف العنابي، أميرًا على التنظيم خلفًا لزعيمه السابق المغتال عبد المالك درودكدال، كما سيعيد ضبط خريطة توزيع الحركات الإرهابية في إفريقيا بداية من مصر مرورًا بالتشاد والسودان وصولًا إلى مالي والنيجر.
ويؤكد علي زاوي لـ”نون بوست” أن هذه الصفقات ستزيد من تعفن الأوضاع في منطقة الساحل الإرهابي، لأن النشاط الإرهابي سيتفاقم في هذه المنطقة الهشة وقد يشمل دولًا أخرى.
ولا يستبعد الخبير الأمني والعسكري الجزائري أن يكون هدف هذه الصفقات جر الجزائر إلى مستنقع الفوضى، فالجزائر اليوم محاصرة في هلال مشتعل من الغرب إلى الشرق والجنوب.
بالمقابل حذرت حركة “البناء الوطني” (إسلامية)، التي يقودها مرشح الرئاسة السابق عبد القادر بن قرينة، من أن إطلاق سراح إرهابيين في مالي مقابل تحرير رهينة فرنسية، قبل أيام، يمثل “تهديدًا” للأمن القومي للجزائر عبر حدودها الجنوبية مع الدولة الإفريقية.
وقالت الحركة: “تم تداول أنباء عن صفقة تم بموجبها الإفراج عن أكثر من 100 سجين من الإرهابيين على الأراضي المالية، مقابل تحرير رهينة فرنسية”، وأضافت “إذا تأكد ما يتم تداوله عن ذلك، فإنه يطرح عدة استفاهمات بشأن ما يترتب على ذلك من تهديد بالنسبة للسلم والأمن الجزائري على حدود البلاد الجنوبية ودول الساحل الإفريقي وجنوب الصحراء”.