أزمة سياسية جديدة تلوح في الأفق السوداني بشأن التحديات التي تواجه عملية إعادة تشكيل هياكل السلطة الانتقالية في البلاد، استجابة لبنود اتفاق السلام الموقع بين الحكومة و”الجبهة الثورية” المكونة من حركات مسلحة وأحزاب مدنية، قبل قرابة شهرين.
الاتفاق أقر بعض التعديلات داخل الوثيقة الدستورية المعمول بها منذ الإطاحة بنظام عمر البشير في أبريل/نيسان 2019، التي باتت تشكل الأرضية التي من خلالها ستتم إعادة تشكيل السلطة التي كانت مقصورة في السابق على مكونين فقط، أحدهما عسكري (الجيش السوداني) والآخر مدني (قوى الحرية والتغيير)، لكن اليوم دخل طرف جديد في هذا التشكيل لتصبح “الجبهة الثورية” الضلع الثالث لمثلث الحكم في السودان.
ويقضي هذا الاتفاق بتمثيل الجبهة بثلاثة أعضاء داخل المجلس السيادي، بجانب منحها 5 حقائب وزارية في الحكومة، إضافة إلى 25% من أعضاء المجلس التشريعي (البرلمان)، أي 75 مقعدًا من عدد المقاعد الكلي البالغ 300 مقعد، مع تمثيل نسبي في المفوضيات المستقلة التي ستنشأ بموجب الدستور.
وحرصت الوثيقة بعد تعديلاتها المتضمنة مؤخرًا على فتح الباب أمام القوى المسلحة الأخرى – التي تحفظت على الاتفاق وارتأت لنفسها تأجيل تلك الخطوة – للانضمام إلى قاطرة السلام والمشاركة في إدارة الحكم، وأبرزها الجبهة الشعبية لتحرير السودان، جناح عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان، جناح عبد الواحد نور، جزء أساسي فيها.
تلك التعديلات تصب في المقام الأول في صالح المكون العسكري الذي سيكون على رأس السلطة الانتقالية لمدة عامين ونصف العام، مقارنة بالمدني (الذي يعاني من حالة تفكك) المطالب بالتوافق حول اسم من يتولى منصب رئيس المجلس السيادي خلال آخر عام ونصف من الفترة الانتقالية وفق الوثيقة.
ورغم التفاؤل الذي خيم على الأجواء مع توقيع هذا الاتفاق الذي طوى واحدة من الصفحات المهمة في استكمال مسيرة السلام، فإن هناك معضلة جديدة تتمثل في تحديات تقاسم السلطة عمليًا مع الجبهة الثورية، الأمر الذي دفع تحالف “الحرية والتغيير” الحاكم إلى التفكير في حل المجلس السيادي ومجلس الوزراء وإعادة تشكيلهما مرة أخرى في ظل حالة انسداد الأفق السياسي وتفاقم الأوضاع المعيشية.
التوافق على الأسماء
يعد التوافق على الأسماء المرشحة للكيانات التنفيذية والتشريعية المعضلة الأبرز التي تواجه القوى المدنية والعسكرية على حد سواء في ظل اتساع القاعدة السياسية للتحالف الذي ينضوي تحت لوائه العديد من المكونات وإن كان الكثير منها يعاني من التشرذم كما هو الحال مع “تجمع المهنيين”.
خبراء يرون أن مسألة اختيار مئة شخص لمقاعد المجلس التشريعي (البرلمان) بالتوافق بين المكون العسكري والمدني، بشأن القوى غير الممثلة في التحالف الحكومي، مسألة غاية في الصعوبة وستكون بداية لمرحلة جديدة من التجاذب السياسي والمجتمعي بين المكونين.
ومما يعزز من تلك المعضلة الأزمات المتراكمة لدى السلطة الحاليّة منذ تقلدها الحكم قبل أكثر من عام، إذ لا تزال المشاكل الأساسية الحياتية التي يعاني منها المواطن كما هي دون تغيير، وهو ما يصعب من مهمتها في اختيار أسماء تُحدث الفارق وتغير المياه الراكدة.
“الإبقاء على المجلس السيادي بتشكيله الحاليّ مع إضافة 3 أعضاء جديد تسميهم الجبهة الثورية وفق ما جاء في اتفاق السلام، أو إعادة هيكلته من جديد وتعيين أسماء جدد”.. انقسام في الآراء بشأن كيفية التعامل مع المجلس السيادي في ضوء التطورات الجديدة
الخلافات داخل مكونات التحالف تمثل هي الأخرى تحديًا جديدًا في اختيار الأسماء المرشحة للمقاعد البرلمانية، والأمر لم يقتصر على “الحرية والتغيير” فقط، بل إن الوافد الجديد في مثلث الحكم (الجبهة الثورية) يعاني هو الآخر من خلافات بشأن الأسماء المرشحة للتمثيل في المجلس السيادي، فبعدما كانت التكهنات تشير إلى منح كل من رئيس “الحركة الشعبية قطاع الشمال” مالك عقار و”رئيس حركة تحرير السودان” منى اركو ميناوي، مقعدين في مجلس السيادة، مع شخصية ثالثة من شرق السودان، قاد انقسام “الجبهة” لكتلتين إلى تأجيل الاتفاق على الأعضاء الجدد حتى الآن.
المجلس السيادي.. أزمة إعادة الهيكلة
“الإبقاء على المجلس السيادي بتشكيله الحاليّ مع إضافة 3 أعضاء جدد تسميهم الجبهة الثورية وفق ما جاء في اتفاق السلام، أو إعادة هيكلته من جديد وتعيين أسماء جدد”.. انقسام في الآراء بشأن كيفية التعامل مع المجلس السيادي في ضوء التطورات الجديدة يضع عملية تقاسم السلطة خلال المرحلة المقبلة في مأزق حقيقي.
وبحسب الوثيقة الدستورية وما طرأ عليها من تعديلات يمكن لكل مكون من مكونات الحرية والتغيير، طلب إعفاء العضو السيادي الذي رشحه، وتقديم مرشحين آخرين جدد، وأن هذا المبدأ حق أصيل للتحالف وهو وحده صاحب الكلمة الفصل في البت فيه.
فريق يستبعد اللجوء إلى هذا الحق في الوقت الراهن نظرًا لما ينطوي عليه من مخاطر تتعلق بتأجيج الخلافات داخل التحالف، لا سيما أن عملية الترشيح لعضوية مجلس السيادة، قبل أكثر من عام، تمت بعد مخاض عسير وفي ظل شد وجذب كبير داخل الكيان برمته.
أنصار هذا الفريق يلمحون إلى أن التفكير في شخصيات جديدة لتتبوأ مناصب في المجلس السيادي مغامرة قد ينجم عنها تفجير الخلافات الكامنة داخل التحالف، وعليه يتوقعون الإبقاء على التشكيلة الحاليّة مع إضافة العناصر الثلاث الجدد التي ستختارهم الجبهة.
بخصوص المجلس التشريعي ومسألة تشكيله وفق التعديلات الجديدة، فتشير الأنباء إلى الاتفاق بين الشركاء الثلاث المكون العسكري و”الحرية والتغيير” و”الجبهة الثورية” على تأجيل هذه الخطوة حتى 31 من ديسمبر/كانون الأول المقبل
مجلس الوزراء.. تغييرات جذرية
مستقبل مجلس الوزراء الحاليّ وجدلية الحل أو التغيير الجذري يمثل معضلة جديدة خلال المرحلة الانتقالية، إذ يذهب التوجه العام بحسب مقربين من دوائر صنع القرار هناك إلى حدوث تغيير كبير في هيكل المجلس، لا سيما أن هناك 6 حقائب وزارية من دون وزراء منذ تقديم استقالتهم في يوليو/تموز الماضي، أبرزهم الخارجية والمالية والزراعة والصحة.
السؤال الحرج الآن: ما الحقائب الخمسة المرجح أن تذهب إلى الجبهة تنفيذًا لاتفاق السلام؟ وتحمل الإجابة عنه إرهاصات خلافات من المحتمل أن تنشب بين تحالف “الحرية والتغيير” والوافد الجديد في الحكم، علمًا بأنه لم يتم الاتفاق على نوعية الحقائب وهوية الوزراء الجدد حتى كتابة هذه السطور.
أما بخصوص المجلس التشريعي ومسألة تشكيله وفق التعديلات الجديدة، فتشير الأنباء إلى الاتفاق بين الشركاء الثلاث: المكون العسكري و”الحرية والتغيير” و”الجبهة الثورية” على تأجيل هذه الخطوة حتى 31 من ديسمبر/كانون الأول المقبل، طبقًا لبيان رسمي صادر عن التحالف الحاكم.
ويعود التأجيل إلى العديد من الأسباب أبرزها اعتراض لجان المقاومة السودانية على طريقة التشكيل وهي الجسم الثوري الأبرز الذي يحرك الشارع الذي يطالب بنسبة لا تقل عن 30% من عضويته، كذلك مسألة أحقية التمثيل في البرلمان، فعلى سبيل المثال يطالب حزب “الأمة القومي” وهو أحد مكونات الحرية والتغيير، بمنحه وحده 65 مقعدًا من جملة 165 مقعدًا مخصصة للتحالف بأكمله.
ومن المسائل العالقة التي تعتبر محل خلاف بين شركاء الحكم في السودان، تدشين “مجلس شركاء الحكم” وهو المجلس الذي تضمنته التعديلات الأخيرة، فرغم عدم وجود تصور كامل عن صلاحيات هذا الكيان، فإن مكونات الحرية والتغيير تتخوف من توسيع نطاقها بما يهمش الحاضنة السياسية للحكومة، بجانب القلق من سيطرة المكون العسكري عليه، وهو ما يعني عسكرة معظم أركان السلطة الانتقالية.
وفي الأخير فإن المشهد السوداني بما يعانيه من أزمات معيشية واقتصادية طاحنة، وتصاعد منسوب الخلافات بسبب بعض التوجهات السياسية الخارجية على رأسها ملف التطبيع مع دولة الاحتلال، بجانب التحرش الأمني بين الحين والآخر، ليس في حاجة لتوتر جديد بشأن تقاسم السلطة مع الوافد الجديد، وتبقى الحكمة في إدارة تلك العملية هي الفيصل في الخروج بالبلاد من هذا الفخ الذي قد يهدد أمنها واستقرارها.