رغم صعود اليمين الشعبوي الذي يؤمن بالعنصرية والتمييز وخاصة ضد المسلمين في بريطانيا، فإن الكثير من الباحثين ومراكز التفكير متفائلون بشأن علمانية المملكة المتحدة، فهم يعتقدون أن لها خصوصية تختلف عن أغلب النماذج الأوروبية، ويرفض البعض تسمية التجربة المدنية في البلاد بالعلمانية، والسبب يعود إلى المسار التسامحي والرمزية الدينية للتجربة، فإنجلترا ومنذ إصلاحات القرن السادس عشر، أصبح الحاكم فيها هو الزعيم الروحي للأمة وحاكم الكنيسة العليا.
إذ تحترم بريطانيا تراثها الروحي أكثر من أي شيء آخر، لكن القوانين تفصل بشكل واضح بين شؤون الكنيسة والحكومة دون أي تدخل أو تداخل بينهما.
تاريخ العلمانية في بريطانيا
مكن تأسيس المجتمع الإنجليزي والعلمانية بشكلهما الحاليّ منذ انفصال كنيسة إنجلترا عن روما تحت حكم هنري الثامن، الذي بدأ عام 1529، بريطانيا من صنع تجربتها الخاصة في الإصلاح.
تناوب المصلحون على كنيسة إنجلترا، وتأسست بالتدريج حالة من التعاطف بين التقاليد الكاثوليكية والمبادئ الإصلاحية، لكن التاريخ لم يخل بالطبع من صراع بينهما بكل أشكاله، لكن في النهاية لم يؤد ذلك إلى محاربة الدين بحجة العلمانية على النمط الفرنسي، لا سيما أنه كان هناك دائمًا من يطرح الحلول الوسط التي ترضي الجميع.
تؤمن التجربة البريطانية بالمجتمع التعددي المنفتح على الجميع، فيعيش الناس بحرية تامة وتوفر الدولة مساحة محايدة من خلال الانفصال تمامًا عن المؤسسات الدينية، لكنها تحاول أيضًا فيما يتعلق بمسائل الدين أو المعتقد ضمان أقصى قدر من الحرية للجميع، وترفض التمييز والتعاطي مع أي شخص على أساس معتقداته الدينية أو غير الدينية.
يمكن القول إن الهدف الرئيسي لبريطانيا ضمان حقوق الإنسان واتباع نهج أكثر عدلًا يعكس قيم التنوع التي تزداد طوال الوقت، لهذا تقدم الكثير من الامتيازات للأقليات الدينية وتشجعها على الاندماج في المجتمع، وربما هذا هو السبب الرئيسي لنشاط الأقليات من كل الثقافات على أراضيها.
ويتعارض النموذج البريطاني تمامًا مع العلمانية الرديكالية، فالحجاب مثلًا مصرح به في جميع قطاعات التوظيف والأماكن العامة، ويرتدي جميع الناس ما يرغبون من خلاله التعبير عن خصوصيتهم الدينية والإنسانية (العمامة أو الكبّة أو القلنسوة أو تربية اللحى)، دون أن يزعجهم أحد.
ورغم تزايد الإلحاد في المملكة بشكل كبير خلال العقود الأخيرة وارتفاع نسبة عدم المتدينين، فإن معظم الناس متسامحون مع المعتقدات الدينية للآخرين، ولدى الغالبية العظمى من غير المؤمنين والمتدينين وجهات نظر إيجابية أو محايدة تجاه الأفراد الذين ينتمون إلى أي دين.
تاريخ المسلمين
يتمتع المسلمون مع بريطانيا بتاريخ طويل، حيث تظهر الملكة إليزابيث الأولى ملكة إنجلترا في إحدى الصور التي تحتفل بهزيمة الأسطول الإسباني مع الأسطول العثماني الذي تحرك لدعمها ضد إسبانيا، ولهذا ركزت في سياستها الخارجية والاقتصادية على التحالف الوثيق مع العالم الإسلامي.
أما عن الإسلام داخل الإمبراطورية الإنجليزية، يمكن التأريخ له بعد انتهاء الحروب الصليبية، وكان جون نيلسون أول رجل إنجليزي يتحول إلى الإسلام في القرن السادس عشر، بعدها بدأ الإسلام ينتشر بين البريطانيين أنفسهم، لا سيما بعد ظهور أول نسخة إنجليزية من القرآن الكريم عام 1649.
ضمن خصوصية التجربة الإنجليزية مع الإسلام، فإن أكثر الذين اعتنقوه في وقته المبكر بالمملكة المتحدة كانوا من الطبقات العليا للمجتمع بخلاف التجارب الأوروبية الأخرى، وكان على رأسهم هؤلاء إدوارد مونتاجو نجل السفير الإنجليزي في تركيا.
وصلت أول مجموعة كبيرة من المسلمين المهاجرين إلى بريطانيا عن طريق البحر وهو ما يفسر وجود المجتمعات الإسلامية الأولى بإنجلترا في المدن الساحلية، مثل كارديف وليفربول وهال ولندن، أما الموجة التالية فجاءت عقب افتتاح قناة السويس المصرية عام 1869، وبسببها زاد الطلب على العمالة الإسلامية في الموانئ وعلى السفن.
زاد عدد المهاجرين إلى إنجلترا من اليمن عن غيرهم من المسلمين، إذ كانت عدن المحطة الرئيسية للسفن في التزود بالوقود خلال الرحلات بين بريطانيا والشرق الأقصى، ولهذا يعتبر اليمنيون أقدم مجموعة إسلامية في بريطانيا.
تم بناء أول مسجد في إنجلترا بمدينة كارديف عام 1860، وقدر عددهم خلال الربع الأول من القرن العشرين بنحو 10 آلاف نسمة، لكن عدد المسلمين يصل الآن إلى ما يقارب 5.6% من السكان، أي ما يزيد على ثلاثة ملايين مسلم، أكثر من نصفهم ولدوا في بريطانيا، وتؤكد إحصاءات رسمية أن الإسلام أسرع الأديان انتشارًا في إنجلترا مقابل التراجع في أعداد المسيحيين.
وضع مقلق
رغم بنية التسامح في المجتمع الإنجليزي، فإن هناك تصاعدًا في الكراهية ضد المسلمين والأقليات بشكل عام، وإن كان هناك علاقة واضحة بين تزايد جرائم الكراهية ضد المسلمين على وجه التحديد والأحداث الإرهابية الكبرى التي تندلع في البلاد أو حتى في البلدان الأوروبية الأخرى.
وصل المسلمون إلى مناصب رئيسية في البلاد ـ عمدة لندن الحاليّ مسلم ـ لكن رغم ذلك من النادر رؤية المسلمين في مواقع القوة والنفوذ، وقلة فقط هم الذين يتمكنون من كسر السقف الزجاجي وتحقيق المزيد من التقدم.
اندماج مشروط
يلاحظ في الآونة الأخيرة أن تقدم المسلم في المجتمع الإنجليزي أصبح مرتبطًا باتخاذه مواقف متشددة من العقيدة الإسلامية تضامنًا مع المشاعر المعادية للمسلمين، ولهذا أصبح الكثير من طالبي النفوذ لا يظهرون أبدًا هويتهم الدينية.
لا تحمي ترسانة التشريعات التي تؤسس للمساواة وحقوق الإنسان والاحترام المتبادل والتسامح مع الذين لديهم أديان ومعتقدات مختلفة أو ليس لديهم ديانات بالأساس، حرية الضمير للمسلمين على وجه التحديد، فإما أن تكون منتقدًا لما يراه البريطانيون تشددًا في النصوص الإسلامية، وحداثيًا على نفس معاييرهم وإما النبذ والإقصاء والترهيب.
مستقبل أفضل
رغم المحنة التي يعيشها أبناء الإسلام هذه الأيام في المهجر بشكل عام، وبريطانيا بوجه خاص، فإن إنجلترا لا تزال أفضل الخيارات في أوروبا كلها للمسلمين، على المستوى الرسمي.
وفي الوقت الذي يشجع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على إهانة الإسلام باعتباره من ضرائب حرية الرأي والتعبير، يعتذر رئيس الوزراء بوريس جونسون، وكذلك رئيس حزب المحافظين جيمس كليفرلي، عن كل ما يعتبره المسلمون كراهية مؤسسية ومنهجية داخل الحزب وفي البلاد.
أرفع المسؤولين في البلاد يعدون المسلمين بإجراء تحقيق مفتوح وشفاف في كل جرائم الكراهية ضدهم وتدمير أي بنية تؤسس عليها، وهنا الاعتراف بوجود المشكلة الخطوة الأولى لحلها، كما أنه من المعروف أن المحافظين المدفوعين دائمًا بالقيم المحافظة، هم الأكثر صراحةً في التعبير عن قضايا الهوية البريطانية والمواطنة والاندماج، ومع ذلك هم دائمًا ما يؤكدون أن المسلمين جزء لا يتجزأ من ثقافتهم السياسية من أجل بلد خالٍ من الكراهية.
المنغصات الغربية ومحاصرة خصوصية الشرعية الإسلامية ما زالت بعيدة عن بريطانيا، حيث الذبح الحلال والحجاب والصلاة في ساحات أحيانًا من المباحات في بريطانيا للمسلمين، فضلًا عن تزايد الانتقادات من المفكرين والساسة المعتدلين لبوريس جونسون حتى يكون أكثر جدية في مواجهة الإسلاموفوبيا.
المسلمون وحماية العقيدة
يعرف ملايين المسلمين في المملكة المتحدة، أنهم قوة سياسية واجتماعية كبيرة لا يستهان بها، وأغلبهم يمثل قوة للبلاد بسبب تفوقهم على أنفسهم في العمل الجاد وريادة الأعمال، وحتى في القيم العائلية التقليدية التي تتشابه مع تقاليد المجتمع الإنجليزي.
يساهم المسلمون في اقتصاد البلاد، ويضخون ما يقدر بنحو 31 مليار جنيه إسترليني وأكثر، وفوق كل ذلك هويتهم تتشابه مع الهوية الإنجليزية التي تسمح بهامش من الروحانيات في المجال العام، ولهذا يضغطون من أجل أن تتبنى الحكومة الحاليّة تعريفًا مختلفًا للإسلاموفوبيا.
ولا يتوقف ضغط المسلمين على الحكومة لمجرد الاعتذار عن تصور الإسلاموفوبيا المتطرف، بل هناك من يتحدى التطرف بتسويق الآيات القرآنية التي تتحدث عن الإنسانية والمواطنة المشتركة.
يبعث المسلمون رسائل موجهة للجميع، أن الإسلام لا يتعارض مع القيم الإنجليزية ولا يتخاذلون في الدفاع عن قيمهم والهجوم على التطرف العلماني والفهم المغلوط ضدهم، ولهذا يبقى الأمل في المستقبل قائمًا، بشرط تنازل كل الأطراف والمسارعة نحو فهم مشترك للآخر في إطار عام من الشفافية والحرية والمساواة.