بدأت رقعة الاحتجاجات تتوسع في تونس، لتشمل قطاع الصحافة والقضاء، فضلًا عن الاحتجاجات الشعبية في العديد من المناطق داخل البلاد، تنديدًا بالأوضاع المهنية والاجتماعية الصعبة، ما يجعل حكومة هشام المشيشي في مواجهة موجة احتجاجية كبرى، فهل تقدر الحكومة على مواجهتها؟
احتجاجات قطاعية
نقابة الصحفيين التونسيين، دخلت أمس الإثنين، في سلسلة من التحركات الاحتجاجية، تنديدًا بما وصفته “سياسة المماطلة” التي تمارسها حكومة المشيشي في تفعيل الاتفاقات المشتركة، بهدف تحسين وضعية الصحفيين.
البداية، كانت بحمل الشارات الحمراء في مقرات المؤسسات الإعلامية، على أن يتواصل ذلك 3 أيام، لدفع الحكومة إلى نشر اتفاق يتضمن تطبيق مطالب اقتصادية واجتماعية، بعد ذلك سيتم تنفيذ وقفات احتجاجية أمام مقر الحكومة في القصبة بالعاصمة ومناطق أخرى في البلاد، كما قررت النقابة تنفيذ إضراب عام يوم الـ10 من ديسمبر/كانون الأول المقبل.
شهدت تونس خلال شھر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، 871 تحركًا احتجاجيًا، مسجلة بذلك زيادة تناهز 16%
وتطالب نقابة الصحفيين التونسيين حكومة بلادها بتسوية العديد من الملفات، منها ملف إصلاح الإعلام العمومي وملف المؤسسات المصادرة فضلًا عن تسوية الملف المهني لأغلب الصحفيين في البلاد، حيث يعمل الكثيرون بمرتبات هزيلة ومن دون تغطيات اجتماعية.
قبل ذلك، دخل القضاة في تونس في إضراب عام مفتوح لمدة أسبوع، تنديدًا بتجاهل الحكومة مطالبهم الاجتماعية والمهنية، وظروف العمل “الكارثية” داخل المحاكم، على أن يتخذ القضاة أشكالًا أخرى من التصعيد في حال لم تستجب الحكومة لمطالبهم.
يقول القضاء إنهم يشتغلون في ظروف قاسية، نتيجة عدم استكمال القوانين الأساسية وضعف البنية التحتية في المحاكم التونسية، فضلًا عن وضعهم المادي الصعب، وزاد عليه الوضع الصحي الخطير في المحاكم، حيث أصاب وباء كورونا قرابة 250 قاضيًا توفي عدد منهم، نظرًا لعدم توافر الإجراءات الوقائية في المحاكم.
توسع رقعة الاحتجاجات
أما شعبيًا، فقد توسعت الاحتجاجات حول منابع الثروات الطبيعية في مختلف محافظات البلاد، حيث أصبح إغلاق مضخات الثروات الطبيعية أو ما يطلق عليه محليًا “الفانة” عنوانًا جديدًا للاحتجاج في تونس بعد أن تمكن المحتجون في “الكامور” من انتزاع اتفاق مع الحكومة يقضى بتوفير أكثر من 1500 فرصة عمل عقب إغلاق لمحطة ضخ البترول دامت أكثر من 3 أشهر.
تقريبًا اليوم كل المناطق الصناعية مغلقة بمختلف الولايات بالإضافة إلى المسارعة لغلق آبار النفط المنتشرة في مناطق مختلفة وتهديد جهات بقطع الماء الصالح للشراب على جهات أخرى، كما يعيش البلد اليوم على وقع فقدان الغاز المنزلي وشح المحروقات بصفة عامة.
في محافظة قابس جنوب البلاد، يواصل بعض شباب المنطقة اعتصامهم في مصنع لتعبئة قوارير الغاز المعد للاستعمال المنزلي (يوفر نحو 65% من حاجات البلاد من غاز الطهي)، ما أدى إلى حدوث شلل تام في عمل “المجمع الكيميائي” وتوقف الإنتاج، وهو ما أثر سلبًا على إنتاج الغاز وتسبب في اضطراب على مستوى التوزيع في ولايات الجنوب.
وتواجه أغلب محافظات الجنوب شحًا في قوارير الغاز، حيث ينتظر المواطنون شاحنات التزويد لساعات أمام محطات البنزين ونقاط بيع أسطوانات الغاز، فيما اضطرت العائلات إلى البحث عن بدائل للطهي والتدفئة.
يقول المعتصمون إنهم ذهبوا للحلول القصوى وعطلوا الإنتاج لإجبار الحكومة على التفاوض معهم، ويطالب الشباب المعتصم في قابس منذ أيام، بفتح باب التشغيل وتنفيذ اتفاقات سابقة تعهدت بمقتضاها الحكومة بتوفير مواطن شغل للعاطلين عن العمل صلب الشركات الناشطة في المنطقة الصناعية في المحافظة.
أما في القيروان، فقد أعلن الاتحاد الجهوي للشغل تنفيذ إضراب عام مع بداية شهر ديسمبر/كانون الأول القادم، كشكل من أشكال الاحتجاج ضد تواصل سياسة التهميش وغياب التنمية العادلة، وسيشمل الإضراب كل القطاعات وبمختلف المعتمديات وذلك لما آلت إليه الأوضاع بالجهة مع إمكانية تنفيذ تحركات احتجاجية أخرى تصعيدية، وفق الاتحاد.
وتحتل محافظة القيروان وسط البلاد، المرتبة الأولى في الانتحار والفقر والجريمة والمرتبة الأخيرة في مؤشر التنمية ويخوض عدد كبير من أبناء الجهة تحركات احتجاجية للمطالبة بالتنمية وتحسين ظروف العيش.
محافظة باجة (الشمال الغربي) بدورها أقرت تنفيذ إضراب عام جهوي غدًا الأربعاء بدعوة من تنسيقية المنظمات الوطنية التي تضم كل من اتحاد الشغل ورابطة حقوق الإنسان وفرع هيئة المحامين ومنظمة الأعراف واتحاد الفلاحين والاتحاد الوطني للمرأة، ويطالب الأهالي في باجة، بحق الجهة في التنمية والتشغيل والصحة.
نجح المعتصمون في تطاوين في تحقيق مطالبهم بعد 3 سنوات من توقيع الاتفاق الأول، ما دفع بقية الجهات إلى السير على المنوال ذاته
أما محافظة الكاف (الشمال)، فقد شهدت مؤخرًا احتجاجات شعبية، تنديدًا باستثناء الجهة في برامج التنمية التي تعتزم الحكومة تنفيذها خلال الفترة المقبلة، ورفع المشاركون في الاحتجاجات، شعارات تدعو إلى إسقاط الحكومة ورحيل السلطات الجهوية.
جزيرة قرقنة التابعة لمحافظة صفاقس، عرفت بدورها احتجاجات عمالية، حيث نفذ العاملون في شركة نفطية بالجهة إضرابًا عن العمل للمطالبة بتفعيل بنود اتفاقيات سابقة تعود للعامين 2018 و2019، نفس الشيء في توزر، حيث نظم مجموعة من العاطلين عن العمل والنشطاء في منظمات المجتمع المدني هناك، وقفة احتجاجية للدفاع عن حق الجهة في التنمية.
وشهدت تونس خلال شھر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، 871 تحركًا احتجاجيًا، مسجلة بذلك زيادة تناهز 16%، ومنها 86.6% تتسم بالاتجاه نحو العنف، وفق التقرير الشهري لمنتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
تداعيات الكامور
هذه الاحتجاجات، جاءت بعد أيام قليلة من توصل الحكومة التونسية والمحتجين في محافظة تطاوين بالجنوب الشرقي للبلاد إلى اتفاق نهائي ينهي أزمة الكامور التي تواصلت لأشهر عدة، تم بموجبه إعادة تشغيل منشآت الطاقة، مقابل التعهد بتوفير مئات الوظائف وإنشاء شركات حكومية للاستثمار في المنطقة.
وتزخر محافظة تطاوين التي تعادل مساحتها ربع مساحة البلاد، بمخزون كبير من البترول والغاز، كما تنتشر شركات الطاقة الوطنية والأجنبية في الصحراء التابعة للمحافظة، ووفق أرقام رسمية، تساهم حقول تطاوين بـ40% من إنتاج تونس من النفط، وبـ20% من إنتاج الغاز.
رغم كل هذا تصنف تطاوين ضمن المناطق المهمشة، حيث عانت من الفقر والتهميش خلال الحقبة التي أعقبت استقلال البلاد وحتى بعد ثورة الكرامة، ما جعل سكانها يدخلون في مواجهة مباشرة مع الأنظمة الحاكمة للمطالبة بحقوقهم.
نجح المعتصمون في تطاوين في تحقيق مطالبهم بعد 3 سنوات من توقيع الاتفاق الأول، ما دفع بقية الجهات إلى السير على المنوال ذاته، إذ بدأت الاحتجاجات في العديد من المناطق داخل البلاد كما قلنا في الأعلى للمطالبة بنصيب بلادهم من التنمية والثروة.
أسباب عميقة وأخرى مباشرة
هذه الاحتجاجات الاجتماعية التي تعيش على وقعها البلاد منذ أيام، وبدأت رقعتها تتسع شيئًا فشيئًا في ظل تنامي خطاب جهوي وفئوي وقطاعي خطير جدًا يهدد وحدة البلاد أصلًا، تشكل تحديًا كبيرًا لحكومة هشام المشيشي وفق المحلل السياسي التونسي سعيد عطية.
يرى عطية في حديثه لنون بوست، أن لهذه الاحتجاجات أسبابًا عميقةً وأخرى مباشرة، أما السبب العميق فهو فشل الثورة في تحقيق أهدافها التنموية والاجتماعية والاقتصادية الكبرى، ما أدى إلى تزايد حالة الاحتقان في صفوف التونسيين.
والأسباب المباشرة هي – وفق عطية – تتمثل في “اتفاق الكامور بصيغته الأخيرة وتصريحات رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي فيما يتعلق بحق كل جهة في ثرواتها، فضلًا عن حالة الانفلات النقابي، فكل اتحاد محلي انحاز لمطلب جهته دون تنسيق مع المركزية النقابية”.
إضافة إلى ذلك، يقول سعيد عطية إن عدم الاستقرار السياسي واللجوء لحكومة تكنوقراط غير ممثلة لصندوق الاقتراع، ساهم بشكل كبير في تنامي الحركات الاحتجاجية في البلاد في الفترة الأخيرة، وخاصة منذ تقلد حكومة المشيشي الحكم.
من الصعب وفق سعيد عطية، الحكم على مدى قدرة حكومة المشيشي على استيعاب هذه الاحتجاجات، لكن حكومة دون سياسيين تبقى حكومة ضعيفة أقرب للعجز منها القدرة على الفعل، خاصة في ظل غياب المساندة السياسية من مجلس النواب ورئاسة الجمهورية، وغياب تصور حكومي واضح لحلحلة المشكلات الاجتماعية وتردي وضعية المالية العمومية والمناخ الذي لا يشجع على الاستثمار.