مشهد يتكرّر في السجون المصرية هذه الأيام، يسقط أحد المضربين عن الطعام مغشيًا عليه، ويظل زملاؤه يطرقون باب الزنزانة، ويطلقون الاستغاثات، ويبدأ الزملاء في الزنازين المجاورة في التضامن بطرق الأبواب وبالهتاف، إلى أن تأتي استجابة بعد ساعة أو أكثر من التوتر والقلق.
يأتي الشاويش، ومعه مخبرون كثيرون، خوفًا من شغبٍ محتمل، يفتح الزنزانة، ويخرج المضرب محمولاً على أكتاف زملائه، ويذهبون به إلى عيادة السجن، أو هكذا يسمونها، فلا توجد أسرّة، وجهاز قياس الضغط لا يعمل، وشرائط تحليل الأسيتون غير متوفرة، والطبيب غير موجود، وحده (الترمجي) الذي يمارس المهنة بالسليقة (!)
هناك، يفاجأ زملاؤه بأنه ليس وحده ضحية الليلة، فهناك غيره من العنابر الأخرى، وجدوهم مستلقين على أرض الممر، وعلى مكتب الطبيب سقطوا الليلة أيضًا.
بعد شدّ وجذب لإثبات الإضراب بتقرير طبي لا يتم، يأتي دور الضابط المناوب في تهديد المضربين، وكلام كثير من قبيل: “لن تستفيد حاجة، ولن ينفعك الإضراب، ولا أحد سيعبّرك”، لكن السؤال الذي أعجزنا ساذج وأبله: “أنت مضرب ليه يا بني؟”.
عجبًا، ألا يدري هذا الضابط القادم من كوكب بعيد أن السجين الذي أمامه يقبع في هذا المكان منذ نحو عام، لا يدري لماذا؟ وكيف؟ وإلى متى سيبقى على هذه الحال؟ ألا يدري هذا النابه أن السجين ترك خلفه رضيعة لم تتجاوز خمسة أشهر، وفي آخر زيارة وجدها تقف على قدميها، وتنطق: بابا، ماما، فكان لا بد له من التحرك بأي وسيلة، حتى لا يفاجأ بها مرة تسأله: لماذا أنت هنا؟
ألم يفطن، “حبيب والديه”، إلى ما وصلت إليه مصر المكلومة من شرخ مجتمعي وفرقة، ومن كراهية جعلت متسوّقة في مجمع تجاري تريد أن تسلّم زوجة أحد المعتقلين إلى الأمن، لأنها رفعت لافتة تسأل فيها عن مكان زوجها المعتقل؟ ألم يسمع هذا الضابط الألمعي خبر انتحار فرج رزق؟
أُضرب من أجل حريتي التي سُلبت منّي .. من أجل ابنتي وزوجتي التي خرجت تطالب بحقي، فتعرضت إلى الموقف البغيض .. أُضرب، لأن هناك صرخة غضب داخلي مكبوتة تقول: كفى، طفح الكيل.
أُضرب، لأن هناك غصّة في القلب لحال هذا الوطن الذي ملأت أركانه الكراهية والتخوين والاتهام .. أُضرب لأنه ما زال هناك مَن يموت جوعًا على أرصفة الوطن، أملاً في أن يأتي فرج .. أُضرب لأننا – كمصريين – لم تعد لدينا – أحرارًا ومعتقلين – وسيلة نعبّر فيها عن غضبنا، فقد سُدّت أمامنا طرق التعبير .. أُضرب حتى لا يكون مصيرنا مصير المواطن المصري فرج رزق.
مَن منّا لم يشعر أنه فقد حريته؟ مَن منّا لم يجد نفسه حبيس الفكر والحركة؟ مَن منّا لم يستطع التظلّم وأخذ حقوقه التي سُلبت منه؟ ولكن، على الرغم من ذلك، يتقاسم رجال وراء القضبان الأمتار من أجل النوم والحياة!
أزْيَد من 200 يوم، أقبع هنا، في أحد السجون المصرية، بلا تهم موجّهة لي، ولا بُتَّ في قضيةٍ بتهمة لا أصل لها، هي “الانضمام إلى جماعة إرهابية”، وإنْ صحّت، لا دليل ماديًا يثبتها، أكثر من 200 يوم، وأنا بعيد عن زوجتي وابنتي.
فكّرتُ في وسائل أخرى أحتج بواسطتها على منعي من حضور جلسات محاكمتي، وجدت أنه ليس لك، وأنت خلف القضبان، وسيلة لتطلق بها صرخة غضبك، غير جسدك، “طفح الكيل” ويبدو أننا لسنا وحدنا أرباب السجون مَن فقدنا الحيل، فقد نفدت وسائل هذا المجتمع المكلوم، أيضًا، التي يعبّر بها عن سخطه.
أعلن إضرابي جزئيًا عن الطعام منذ اليوم، الخميس 25 سبتمبر/ أيلول 2014، حتى أول أيام العيد، لأبدأ إضرابي الكلي، أُضرب من أجل مستقبل ابنتي المجهول في بلادنا .. من أجل سلامة زوجتي – جزاها الله عني خيرًا – والتي أخشى عليها أن تخرج وحدها مرة أخرى لتطالب بحقها بأن أكون إلى جوارها نربي ابنتنا .. أُضرب من أجل وطن انقلب حاله، فجاع فيه أهله، وهرب منه شبابه، وقتل فيه رجاله.
في زحام الأحداث، قد يتناسى الناس قضية الإضراب، ولكن، على الأقل، أكون قد انضممتُ رقمًا في إضراب مجتمعي عام، ليس تضامنًا مع المعتقلين، وإنما وسيلة لمجتمع نفذت منه وسائله للتعبير عن غضبه.
نُشر هذا المقال لأول مرة في صحيفة العربي الجديد