ترجمة: عصام واعيس
في بداية العقد الرابع من القرن السابع عشر، توفيت ممتاز محل وهي تضع مولودها. توفيت كما العديد من النساء في ذلك الوقت، لكن ممتاز كانت ملكة وكانت زوجة ملك واحدة من أثرى الإمبراطوريات في العالم حينها. ملك لم يستطع رغم كل ما بين يديه من ثروات ونفوذ إنقاذ حبه الأبدي من الموت.
ظل الملك شاه جيهان، الإمبراطور المغولي الخامس، يتقلب في أوجاعه وطيف مليكة قلبه يتراءى له بالليل والنهار، حتى إذا كان ذات ليلة وقد اشتد عذابه وحزنه أمر بأن يُبنى لها ضريح بديع فسيح محاط بالجنان والكروم، وأن يكون آية من الجمال.
لعل أقصى ما أراده شاه من هذا الضريح الجميل أن يتذكر العالم قصة حبه وحبيبته، وقد كان له ذلك، فها هو الشاعر الهندي الشهير طاغور يصف تحفته المعمارية “تاج محل” بأنها “دمعة رقراقة على وجه الزمان”، وها هي منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة تصنفه تراثًا إنسانيًا، وما زال ما فعله الملك المسلم المغولي يمثل قمة في الوفاء وسقفًا في الهدايا لم يطاوله إلى اليوم العشاق.
غير أن الواقعة أعمق من قصة ملك وحبيبته، إنها تعبر عما كان الإسلام يمثله وما يمكن أن يمثله دائمًا، ذلك البناء الفسيح المنذور للحب، للحب العابر للحدود والأعراق، فشاه جيهان كان سليل أسرة ملكية سنيّة وممتاز محل كانت شيعية، تزوجا وأنجبا ولي العهد وماتا قبل سنين مديدة، ويرقدان اليوم بجوار بعضهما البعض بسلام، فلا حرب طائفية ولا عدواة.
إذا كنت غريبًا عن هذا الدين وتتلقى معلوماتك عنه من الإعلام، فربما يصدمك أن تعرف أن أحد أكثر المباني شهرة في تاريخه هو واحد يؤرخ لقصة حب، قد لا تعلم ذلك، لكن في الحقيقة مر زمان كان المسلمون يقولون عن دينهم “ديننا دين محبة”، مثلما يقول خلفهم اليوم “ديننا دين سلام”.
في هذا المناخ الثقافي والفكري، عايش المسلمون المغول إمبراطوريات تضاهيهم قوة مثل العثمانيين في تركيا والفرس في إيران
كانت محبة صافية، محبة خالصة قوية وصادقة، أعين كانت ترى الله في كل مكان وتتلمس آياته وتفني ذواتها في حبه، لأنها اكتشفت أن الحب أجمل ما في الكون وأن جوهر الإسلام هو الحب. وصل الأمر إلى درجة أن النقاش حينها كان يدور حول هل يمكن أن يتحد المحب مع الله أم لا؟ أيجوز ذلك أم لا يجوز؟ أتدور الفراشة حول لهيب الشمعة أم تحترق فتفنى فيه وتتحد؟
وغلبت تسمية النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلّم) حينها بـ”حبيب الله”، لأن بعثه في نظر المسلمين يدلل على حب الله للإنسانية، كما كانت جنازات المتصوفة تسمى “أعراسًا”، فبعد سفر طويل وشاق في الحياة كان الموت يشكل لحظة طال انتظارها للقاء الله.
في هذا المناخ الثقافي والفكري، عايش المسلمون المغول إمبراطوريات تضاهيهم قوة مثل العثمانيين في تركيا والفرس في إيران، صحيح كانت تنشب بين القوى الثلاثة نزاعات وأحيانًا حروب طاحنة بسبب المصالح وغيرها، تمامًا مثلما كان الأمر في أوروبا العصر الوسيط بين القوى المختلفة، لكنهم كانوا رغم ذلك يقدرون الشعر الفارسي والمعمار الباذخ المغولي والتصوف العثماني، وكانوا لا يرون إشكالًا في زواج سني من شيعية والعكس.
كان العثمانيون والمغول أكثر تقدمًا في فهم الدين من خلفهم الحاليّ من أبناء الملة، طبعا لم يكونوا ديمقراطيات علمانية، لكن لم يسجل التاريخ عليهم إجبار رعاياهم على تغيير ملتهم ولا تدمير الآثار وشواهد التاريخ.
تاج محل ليس فقط ثمرة علاقة حب عادية بين زوج وزوجته، إنه نتاج فكرة تقول إن حب الزوجة والناس من حب الله
وطوروا ثقافة ثرية ومتنوعة عبرت بسرعة حدود الإمبراطوريات لتشكل فيما بعد تراثًا إنسانيًا، وفي قلب هذه الفلسفة في الحياة والحكم كانت المحبة، المحبة التي جعلت أشعار الرومي تظل خالدة وتمثل رؤية إنسانية منقطعة النظير للكون، والمحبة التي جعلت رجلًا مثل شاه جيهان يشعر بجرح كبير في أعماقه لا تصلحه الثروة ولا الأملاك ولا النفوذ، ألم عميق في داخل قلب يخفق بالحب لم يخفف منه إلا تحفة فنية أهداها إلى صفية قلبه تاج محل.
لكن تاج محل ليس فقط ثمرة علاقة حب عادية بين زوج وزوجته، إنه نتاج فكرة تقول إن حب الزوجة والناس من حب الله، بلا انفصال، تاج محل حمّال معانٍ ودلالات، ربما يعني لزوجتي مثلًا مطلبًا لن أحققه لها أبدًا (أتمنى والله لكن ما باليد حيلة)، وهو أيضًا علامة تاريخية على تعايش السنة والشيعة بسلام، وهو ذكرى لفكرة المحبة التي سكنت قلوب المسلمين حتى رأفوا بالناس أجمعين.. إنه أخيرًا علامة على عهد رائع، لا شك سيعود، عندما يصير الإسلام مرة أخرى متقدمًا على عصره، وساعتها سنعيد الجمال للعالم، لأن الله، كما قال النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) “جميل يحب الجمال”!
المصدر: واشنطن بوست