تواصل العلاقات التركية القطرية لا سيما على المستوى الاقتصادي نموها بالشكل الذي جعلها نموذجًا فريدًا في المنطقة، حيث شهدت تطورًا كبيرًا في السنوات القليلة الماضية، كان له أثره الكبير في دعم مسار الاستقرار الأمني والسياسي في كلا البلدين خاصة في أعقاب الأزمة الخليجية صيف 2017.
وأصبحت تركيا واحدة من أكثر دول العالم استقطابًا للاستثمارات القطرية خاصة في مجالات العقارات والسياحة، فيما تحولت قطر إلى قبلة رأس المال التركي، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على حجم التجارة بين البلدين، إذ تضاعفت الصادرات التركية إلى قطر 300% خلال السنوات الخمسة الماضية، فيما بلغ إجمالي حجم التجارة بين البلدين خلال 2019 قرابة 2.24 مليار دولار.
واستمرارًا لهذا التنسيق غير المسبوق بين دولتين في الشرق الأوسط، تم توقيع 10 اتفاقيات في المجالات العسكرية والأمنية والاقتصادية، ومنها اتفاقية لإنشاء منطقة تجارية حرة بين البلدين، وذلك على هامش الاجتماع السادس للجنة الإستراتيجية العليا المشتركة، الذي عقد الخميس في أنقرة، بحضور أمير قطر الشيخ تميم بن حمد والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وتضمنت مذكرات التفاهم الموقعة شراء الجانب القطري أحد أكبر المراكز التجارية في إسطنبول (إستينيا بارك) وذلك بنسبة 42%، فضلا عن استحواذ شركة موانئ قطر على الشركة التي تدير ميناء “الشرق الأوسط” بمدينة أنطاليا الواقع على البحر المتوسط.
علاوة على ذلك فقد أبرم صندوق الثروة السيادي التركي مع جهاز قطر للاستثمار (صندوق الثروة السيادي) اتفاقًا لبحث وإتمام صفقة محتملة يشتري الأخير بموجبها 10% من بورصة إسطنبول، بجانب الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة لتعزيز التعاون الاقتصادي بينهما.
وقد تنوعت الاتفاقيات ما بين عسكرية وصناعية واقتصادية، هذا بخلاف اتفاقية أخرى في مجال الشؤون الدينية والإسلامية، وثانية في التجارة الدولية والموارد المائية، بجانب ثالثة تتعلق بإنشاء منطقة حرة تركية في قطر، التي تمثل “نقطة تحوُّل كبيرة في العلاقات التجارية المميزة بين البلدين، وستساهم في جذب مزيد من الاستثمارات، وتخلق مزيدًا من فرص العمل بينهما” وفق السفير التركي لدى قطر مصطفى كوكصو في حوار له مع “الأناضول”.
رأس المال القطري حاضر هو الآخر بقوة في هذا الاجتماع، إذ من المرجح توقيع مشروعين استثماريين جديدين لقطر في تركيا، أحدهما تجاري في أحد مراكز التسوق الكبرى المعروفة بإسطنبول، والآخر في مجال إدارة الموانئ البحرية.
وقد تأسست “اللجنة الإستراتيجية العليا المشتركة بين قطر وتركيا” عام 2014، بهدف تعزيز التعاون بين البلدين في شتى المجالات، واستضافت الدوحة دورتها الأولى في ديسمبر/كانون الأول 2015، فيما عقدت اللجنة 5 اجتماعات بجانب اجتماع اليوم، أسفرت عن 52 اتفاقية في العديد من المجالات بخلاف الاتفاقيات المتوقع إبرامها في الاجتماع السادس بإسطنبول.
ارتفع حجم التبادل بين قطر وتركيا من 340 مليون دولار في 2010 إلى أكثر من ستة أضعاف هذا الرقم العام الماضي
تطور في العلاقات الاقتصادية
منذ تأسيس اللجنة المشتركة قبل 6 سنوات والعلاقات بين أنقرة والدوحة تسير بخطى متوازية، ساعدت في تعميق التقارب بينهما بصورة أثارت انتباه الكثيرين في ظل حالة الفوضى التي تنتاب علاقات الكثير من الدول بسبب المستجدات والتغيرات التي تشدها الخريطة الإقليمية والدولية.
وبحسب متلازمة السياسة والاقتصاد، فإن التقارب السياسي بين البلدين الذي وصل إلى آفاق غير مسبوقة، أسفر عن 28 قمة عقدها زعيما البلدين منذ 2014 وحتى اليوم، ما انعكس بصورة كبيرة على اقتصاديهما، إذ ارتفع حجم التبادل من 340 مليون دولار في 2010 إلى أكثر من ستة أضعاف هذا الرقم العام الماضي.
وفي الوقت الذي كان لوباء كورونا المستجد تداعيات خطيرة على العلاقات الاقتصادية بين الدول لم يكن له سوى أثر محدود على حجم ومستوى التجارة الثنائية بين البلدين، فيما تحولت تركيا إلى ملاذ مغر وآمن للمستثمرين القطريين، وهو ما تترجمه الأرقام والإحصاءات.
فهناك ما يزيد على 179 شركةً قطريةً تعمل في تركيا، فيما بلغ حجم رأس المال المستثمر داخل الأراضي التركية حاجز الـ22 مليار دولار، في مقابل 500 شركة تركية تعمل في قطر، لا سيما في مشروعات البنية التحتية وهي المشروعات التي بلغت قيمتها منذ 2002 وحتى 2019 أكثر من 18 مليار دولار لتضع قطر في المرتبة السابعة كأكبر سوق عقود خلال العام الماضي.
امتحانات صعبة
التطور الملحوظ في منسوب العلاقات بين أنقرة والدوحة لم يأت من فراغ، ولم يرتكن إلى مستوى هش من التعاون قد يفتر بين الحين والآخر بحسب المناخ العام بأجوائه السياسية والأمنية في المنطقة، لكنه تعاون تعرض للعديد من الاختبارات الصعبة التي قوت من شأنه وجعلته قادرًا على مواجهة التحديات، كما دفعته لأن يكون أكثر صمودًا أمام رياح التغيير العاتية.
البلدان خلال الآونة الأخيرة شهدا العديد من المواقف الصعبة التي أثبتت مصداقية تلك العلاقة ومتانتها، فحين تعرضت تركيا لمحاولة انقلاب فاشلة في 2016 كانت قطر حاضرة بقوة منذ الوهلة الأولى، وبينما كانت دول المنطقة تتأرجح بين الانتشاء فرحًا والتلكؤ في التعبير عن رد الفعل كانت الدوحة أكثر وضوحًا واتساقًا مع ذاتها، إذ أعلنت دعمها الكامل والمطلق لأنقرة والرئيس رجب طيب أردغان في مواجهة تلك المحاولة.
وفي السياق ذاته كان لقطر دور مؤثر في أزمة العملة التركية “الليرة” التي تعرضت لهزة عنيفة بسبب عقوبات خارجية وضغوط سياسية أفقدتها الجزء الأكبر من قيمتها، ما دفع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد، لزيارة أنقرة في 15 من أغسطس/آب 2018، وتعهد خلال لقائه بالرئيس رجب طيب أردوغان بتقديم حزمة من الاستثمارات تجاوزت قيمتها 18 مليار دولار، وهو ما كان له تداعيات إيجابية في تعافي الليرة والاقتصاد التركي بصفة عامة.
وفي المقابل حين تعرضت قطر لحصار الرباعي (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) في 5 من يونيو/حزيران 2017، كان الموقف التركي هو الأكثر تأثيرًا في المشهد، حيث انبرت أنقرة دفاعًا عن حليفها الخليجي، الأمر الذي غير موازين المعادلة بالكامل، وهو الموقف الذي لا ينساه القطريون حتى اليوم.
يعد التوافق التركي القطري في السياسات والمبادئ العامة حيال ملفات المنطقة أحد أهم دعائم نمو العلاقات بينهما واستمرارها رغم التقلبات التي تشهدها المنطقة بسبب تغير خريطة المصالح والأجندات
علاقات تقوم على المبادئ
العلاقات بين البلدين لم تكن وليدة اليوم كما يظن البعض، إذ ترجع إلى نهاية القرن التاسع عشر، وتطورت بشكل أكبر بعد تأسيس الجمهورية، لتصل إلى ذروة مجدها في تسعينيات القرن الماضي، وفق ما أشار السفير التركي في قطر الذي قال إن البلدين “تصطفّان مع الحق والعدل الذي يحقق مصالح الشعوب، وهذا عامل مشترك في الآراء والمواقف القطرية التركية، لأننا لا نستهدف إلا دعم الشعوب من منطلق إنساني ينتصر للحق والعدالة”.
ويعد التوافق التركي القطري في السياسات والمبادئ العامة حيال ملفات المنطقة أحد أهم دعائم نمو العلاقات بينهما واستمرارها رغم التقلبات التي تشهدها المنطقة بسبب تغير خريطة المصالح والأجندات، فكلا البلدين على مستوى السياسة الخارجية يتشاركان المبادئ نفسها من حيث جهود الوساطة والدبلوماسية الإنسانية.
هذا التناغم في التوجه والأفكار جعل العلاقات القطرية التركية تجربة مميزة في الشرق الأوسط، كونها استطاعت أن تصمد أمام كل رياح التغيير المفتعلة من هناك وهناك، وعلى العكس من ذلك زادتها تلك التحديات قوةً ومتانةً، عززت معها من قوة البلدين على الصعيدين الإقليمي والدولي، في ظل الظروف الحساسة التي مرَّت بها المنطقة منذ 2011.
وهكذا يواصل قطار التعاون بين البلدين في المجالات كافة سيره نحو تعزيز المصالح المشتركة للشعبين القطري والتركي، متخطيًا بذلك كل التحديات والعراقيل الطبيعية والمفتعلة لتفتيت تلك الشراكة التي نجحت في التصدي للعديد من الأجندات الإقليمية في المنطقة.