أبعد ما يكون عن إعادة اكتشاف العجلة أو إطلاق صرخة أرخميدس فجأة “وجدتها وجدتها” نرى تخيل شكل جديد لإدارة الشعوب وتحقيق الرفاه داخل العدالة ممكن لمن يرغب في نفض المناول القديمة عن كاهله والبدء في إعادة اكتشاف الاحتمالات الكامنة في الفعل البشري، فما شكل الحكم الحاليّ الذي نصطلح عليه بالدولة إلا حالة من ضمن حالات محتملة وليست القدر الأزلي للإنسان.
لقد كانت هناك قبل الدولة الحاليّة أشكال من الحكم تختلف وتتقارب، وإذا كان هناك فيلسوف قد توهم يومًا أن الوصول إلى الشكل الحاليّ للدولة هو شكل نهائي، فنحن نتذكر هنا أن كل من تكلم بنهاية للفعل البشري قد أخطأ التقدير وما القائل بوهم نهاية التاريخ ونقضه قوله بنفسه بعد زمن قصير إلا آخر الواصلين إلى الحتميات الكافرة بعبقرية الفعل البشري التي لا تتوقف.
وازع يزع الناس بعضهم عن بعض
في مقدمة المقدمة كتب ابن خلدون عن الملك وقال هو وازع من الناس يزع بعضهم عن بعض لأن الميل الغريزي فيهم إلى التسلط كامن ولا بد له من ناموس رادع، لكنه لم يقرر على طريقة الحتميين المغرورين الذين جاؤوا من بعده كيف يكون شكل هذا الوازع، وإنما اكتفى بذكر وظيفته في تحقيق السلام الاجتماعي ليطعم الناس من جوع ويأمنوا من خوف.
هل كان ابن خلدون أناركيًا؟ أبدًا لقد كان وظيفيًا في فهم شكل السلطة أو الملك، فغاية التمدن يجري إليها الجميع ولذلك فإن كل أشكال الحكم هي أشكال عابرة لأنها وظيفية وما لا يمكن نيله بطريقة يمكن نيله بأخرى، من هنا نجد مدخلًا للقول إن شكل الدولة ليس الدولة وإذا تحققت وظيفة الأمان والعدل فإن الملك (الدولة) يصير وسيلته لا غايته.
والكامور في تونس تقترح شكلًا مختلفًا للحكم قد يكون الدولة القادمة على غير منوال معتاد ويمكن تنظير شكل جديد للملك نبع من مكان بعيد ومجهول على كل الخرائط الرسمية لدولة لم تحقق العدل ولم تنشر الأمان بين مواطنيها الذين لم يرتقوا إلى المواطنة إلا على الورق الرسمي.
تنظير الحالة مهمة منهجية
بدأت منطقة جمنة (واحة بالجنوب) في اقتراح نموذج تسيير جديد ذي طابع اجتماعي وقد حققت مكاسب محلية استشعرها الأهالي فدعموها وتحدت التجربة المحلية الدولة بسؤال عن نجاعة التسيير الأهلي للمرفق العام أو المشترك، فلم ترد إلا بالتذكير بعلوية القرار الرسمي وحتى الآن تمارس الدولة أبوة أخلاقية على الحالة المحلية دون إثبات قدرة على تسيير أفضل، لكن جمنة لم تنظر تجربتها، فلم يصدر عنها سرد سياسي يتجاوز مناكفة الدولة رغم وجود مثقفين يسار على رأس التجربة (ورثنا وهمًا قديمًا يضحكنا الآن مفاده أن اليسار هو أب التنظير).
وإلى ذلك لم يلتقط الاحتجاج الشعبي في مناطق أخرى حالة جمنة ويقلدها في وضع اليد على الملك المشترك (الضيعات الفلاحية العمومية) وتسييره بشكل أفضل من الدولة، بل ظل داخل منطق الاحتجاج المعارض الذي يلوي ذراع دولة يؤمن بها لتؤمن له مطلبه دون نقض بنيانها. في جوهر عمل جمنة نقض لبنيان الحكم القائم وإن لم ينظر الحالة وفي الكامور بعض من ذلك أوضح وأقوى ويحتاج تنظيرًا يحول الفعل إلى قاعدة فعل أوسع من مجرد بؤرة يحاصرها خطاب الدولة المركزية ويسلط عليها إعلامه الجاهل.
تنظير حالة الكامور كبدء جديد لأشكال من الحكم المحلي يضع الأهالي أسسها هي الخطوة الأولى في بناء نظرية جديدة للدولة
من يمكنه أن يفعل ذلك؟ نتوقع أن تخرج الكامور نظريتها في الحكم ولو بعد حين لأن ما نعاينه الآن هو وقوف كل المثقفين ضدها وقد ذهبوا إلى أنها معول هدم وليست اقتراح بناء. يتحدثون عن الكومرة واحتجاز المجتمع للدولة ويتناسون أن الدولة قد احتجزت المجتمع وقهرته لذلك لا نراهم يقبلون أن يحرر المجتمع نفسه من الدولة القاهرة، لكن من هؤلاء المثقفين في المجمل؟
هم مثقفون ربتهم الدولة نفسها وأكرمتهم بمقادير، فهم أبناؤها المخلصون والكامور تمثل حالة عقوق لهؤلاء المثقفين تنقض غزل دولتهم الكريمة معهم فتحرمهم من بيع نظرياتهم حول الدولة في كواليس الجامعة وفي منتديات الفكر والسياسة التي تفتحها لهم الدولة ليبرزوا ويؤثروا متناسين أنهم يرددون مقولات هيجلية وماركسية ويخفون عشقهم لنابليون تحت خطاب ديمقراطي، ولا يجرؤون خوف فقد الجزاء أن يراجعوا أشكال الحكم والإدارة رغم ما أظهروه من سعادة بالثورة التي على غير منوال، فكل مراجعة تعني فقدانهم أدوارهم ومنافعهم.
إن الكامور تدفع المثقفين إلى وضع غير مريح، إذ تحولهم إلى أبواق دعاية تردد نصًا أيديولوجيًا واحدًا عن قداسة الدولة، لذلك لن ينظروا الحالة بل سيكتبون عن الكومرة كعملية تفكيك للدولة، ليغطوا عاهة الدولة نفسها حيث الكامور كانت دومًا خارج الدولة.
إن تنظير حالة الكامور كبدء جديد لأشكال من الحكم المحلي يضع الأهالي أسسها هي الخطوة الأولى في بناء نظرية جديدة للدولة، ليس للأهالي معرفة بهيجل لكنهم ينقضون غزله انكاثًا.
الدولة إذا فسدت لا تصلح نفسها
نعتقد أن الدولة التونسية قد فسدت الفساد النهائي ولا يمكنها أن تفعل ما يفعل بالروبوت في بعض أفلام الخيال العلمي التي صورت روبوتًا يصلح نفسه بنفسه ليستمر في أداء مهامه القتالية.
يردد الجمهور والمثقفون النواح على الدولة الضائعة، متناسين جميعهم أن الاحتجاج القطاعي سبق الاحتجاج الجهوي وفرض على الدولة مخالفة تراتيبها الأصلية
كان هناك فساد كثير قبل الثورة، لكن الدكتاتورية حفظت الشكل، بعد الثورة ظهر فساد مختلف عن سرقة المال العام والتحايل والتهريب أسقط الشكل والمضمون وأعني به فساد الطبقة السياسية التي تقدم رشاوى للجمهور من أجل الحفاظ على مواقعها في النظام وقد بدأ الباجي قائد السبسي بذلك قبل غيره، فحول الأمر إلى تقليد لدى كل الحكومات التي تلته، فكلما تورط سياسي في مأزق احتجاجي قدم رشوة للمحتجين حتى وصلت مقدرات الدولة إلى نهايتها فبدأت تسلم الأصول/العقار للجمهور، وقد قادت النقابات ذلك فركعت كل الحكومات لحفنة من النقابيين ولم يجرؤ سياسي واحد في الحكم أو المعارضة على قول كلمة تكشف حقيقة العمل النقابي وغاياته.
إننا نرى النقابات الآن تنشر خطاب (الكامور تخرب الدولة)، ويردد الجمهور والمثقفون النواح على الدولة الضائعة، متناسين جميعهم أن الاحتجاج القطاعي سبق الاحتجاج الجهوي وفرض على الدولة مخالفة تراتيبها الأصلية، فقد كسب النقابيون حق التوريث الوظيفي فسقطت قيمة كل مناظرة تنظمها الدولة لتساوي بين مواطنيها في ضمان حقهم في الشغل، ونذكر بتفصيل مهم أن النقابات هي التي استولت على الاحتجاج الجهوي الأهلي في الكامور عند انطلاقه، لكنها عندما اكتشفت خطورته على وضعها المركزي ومكاسبها من وجود حكومات ضعيفة تخلت عنه ووقفت تحرض عليه نصرة لحكومة خاضعة.
لعل في الشر خير كثير
نقف على باب مظفر النواب كما وقف هو أمام القرن الرابع للهجرة تلميذًا في الصف الأول لنقول إن تخريبًا بالحق هو بناء بالحق، نعم ثمة روح فوضوية قد نسميها مواصلة الثورة وقد نسميها اقتراح دولة جديدة، نعرف أن ثمنها سيكون دمًا وخسارات كثيرة (قد يهرب الجميع من دفعه عاجلًا، لكنه قادم آجلًا بثمن أكبر).
لكن بعض الخسارات ربح، وأول الخاسرين في تغيير شكل الدولة هي زوائده النقابية التي طالما حمته ودافعت عنه حتى وهي تحتج عليه، وكثير من هذه الزوائد أحزاب ومثقفين صنعتهم الدولة على هواها فكانوا بوقها وصحيفتها وصناع وهم قداستها.
في لحظة الانهيار وتحت أنقاض ثقيلة لحكومات دمرتها النقابات نولد حلمًا روائيًا لأجيال قد تلقط الإشارة وتحولها إلى منجز عبقري
من سيدفع الثمن؟ هذا سؤال المثقفين الخائفين على مواقعهم ورواتبهم مثل كاتب المقال لنطرح السؤال المختلف: من سيعيد بناء دولة جديدة على أرض إفريقية قد تقدم للعالم نموذج حكم على غير منوال سابق وتعدل برنامج الفلسفة كي لا يكون هيجل وماركس ونابليون وكولبرت وبورقيبة ضمن المقررات الدراسية؟
في لحظة الانهيار وتحت أنقاض ثقيلة لحكومات دمرتها النقابات نولد حلمًا روائيًا لأجيال قد تلقط الإشارة وتحولها إلى منجز عبقري.