في شمال شرق سوريا، حيث تشيّد معسكرات عائلات مقاتلي تنظيم “داعش” الخاضعة للسيطرة الكردية، فقد طفل، عمره ثلاث سنوات ونصف، والدته، ومنذ ذلك الحين يتجنب الطفل النظر مباشرة في أعين من حوله، حيث يجلس طوال الوقت في الزاوية ويعطي ظهره للآخرين، وفي أثناء الليل إما أن يستيقظ وهو يصرخ وإما يبقى مستيقظًا جالسًا وهو يعض يديه وأصابعه حتى ينزف دمًا. هذا الطفل الذي لا نعرف اسمه كما لا نعرف مصيره، ليس الوحيد، وهذا المشهد المختصر من حياته ليس الأسوأ.
وصفت منظمة الحقوق والأمن الدولية (RSI) في تقرير لها، يستند إلى الشهادات والأدلة التي تم جمعها خلال زيارات في فبراير/شباط، الظروف العنيفة وغير الإنسانية في مخيمي الهول والروج، التي أدت إلى وفاة مئات الأطفال والرضع، معتبرةً استمرار سجن عشرات آلاف النساء والأطفال في المخيمين أشبه بالاعتقال غير القانوني والتعسفي، حيث تضم المعسكرات مواطنين أجانب (غير سوريين أو عراقيين): نحو 4000 امرأة و7000 طفل من ما يصل إلى 50 دولة، وتحيط خيامهم بسياج بارتفاع 2-3 أمتار، مع الدخول والخروج عبر بوابات معدنية يسيطر عليها مسلحون من “قسد”.
مخيم الروج
وبناءً على تلك الظروف والتضييقات المهينة اتهمت المنظمة دول أوروبا الغربية بالتورط في إنشاء “غوانتانامو للأطفال”، وهو الوضع الذي كان من الممكن تجنبه أو إدارته بطريقة أخرى لو لم تتملص الحكومات من مسؤوليتها منذ بداية الأزمة.
يأتي تقرير المنظمة مع تعرض الدول الغربية لضغوط متزايدة من مجموعات دعم الأسرة ونشطاء حقوق الإنسان لإعادة مواطنيها من شمال شرق سوريا وإنقاذهم من العيش في ظروف غير إنسانية على اعتبار أنهم “أبناء الوطن” وليسوا “أبناء التنظيم”، وهو ما أشارت إليه منصة “إنسان” التي أجرت تحقيقًا على مدار خمسة أشهر، توثق فيه حياة أمهات وأطفال تونسيين على وجه الخصوص داخل مخيمات عائلات مقاتلي “داعش”، وتكشف تقاعس السلطات التونسية عن إعادتهم في انتهاك صارخ للقانون الدولي والدستور التونسي.
واقع مرير
تتعرض النساء والأطفال إلى شتى أنواع المهانة، فهن عرضة لاعتداءات عنيفة على أيدي حراس قوات سوريا الديمقراطية ونساء أخريات داخل المخيمات ترقى إلى مستوى التعذيب بموجب القانون الدولي، وذلك يشمل الضرب والإساءات اللفظية والمعاملة القسرية إلى الحد الذي قد يدفع سلطات المخيم إلى حبس الأمهات مع أطفالهن الرضع في زنازين صغيرة بنفس حجم المراحيض لمدة تصل إلى عدة أسابيع، أو فصل الأمهات عن أطفالهن الذين تُركوا ليتولوا أمورهم بأنفسهم، وبعضهم كانوا رضعًا.
بخلاف تمزيق أفراد العائلة الممزقة أصلًا وتشريد المزيد من الأطفال مجهولي المصير، أشار التقرير إلى العنف والاستغلال الجنسيين داخل المخيمات، فمع الإبلاغ عن حالات حمل أثيرت المخاوف بشأن احتمالية استغلال قوات سوريا الديمقراطية النساء جنسيًا، لكن عبد الكريم عمر، المتحدث باسم الشؤون الخارجية للإدارة الكردية، يشير إلى أن المحتجزين المراهقين المختبئين في قسم النساء مسؤولون عن حالات الحمل، خاصة أن قسم النساء يقع تحت مسؤولية حارسات قوات سوريا الديمقراطية.
ووفقًا للتقرير، فإن أحد الأسباب الرئيسية للعنف في المخيمات هو الصراع بين النساء اللائي ما زلن ملتزمات بأيديولوجية تنظيم الدولة وأولئك اللواتي يعتبرن أو يُنظر إليهن على أنهن أقل التزامًا، وفي هذا الخصوص يستشهد التقرير بقضية فتاة أذربيجانية تبلغ من العمر 14 عامًا ذُكر أنها خنقت حتى الموت بعد أن حكمت عليها “محكمة” تابعة للتنظيم داخل المخيم بتهمة عدم تغطية وجهها بشكل صحيح.
موقف الدول الأوروبية
قالت ياسمين أحمد، المديرة التنفيذية للمنظمة، إن استمرار رفض معظم الدول الأوروبية إعادة مواطنيها قد تركهم عالقين في ظروف “يموت فيها الأطفال بشكل روتيني”، فبحسب تقرير المنظمة، هناك 642 طفلًا أوروبيًا محتجز حاليًّا في المخيمات، ولقي ما لا يقل عن 371 طفلًا حتفه في مخيم الهول الرئيسي عام 2019، وتوفي ما لا يقل عن 60 طفلًا بين يناير/كانون الثاني وأغسطس/آب من هذا العام، وفقًا لمنظمة أطباء سان فرونتيرز.
ووجدت المنظمة أن العديد من هذه الوفيات نتجت عن حالات يمكن الوقاية منها وعلاجها مثل الالتهاب الرئوي والجفاف وسوء التغذية، بينما مات أطفال آخرون نتيجة جروح ناجمة عن أعيرة نارية أو التسمم بأول أكسيد الكربون أو نتيجة حرائق الخيام.
معسكر الهول
وذلك يقع بطبيعة الحال على عاتق الحكومات الغربية التي يجب أن تتصرف بشكل عاجل بشأن هذا الوضع أو التوقف عن التظاهر بأن مفهوم حقوق الإنسان له أي مكان في قاموسها للسياسة الدولية في أي مكان في العالم، بحسب قولها، خاصةً أن الولايات المتحدة الأمريكية عرضت مساعدتها في أكثر من مناسبة للدول التي لديها مواطنين محتجزين في شمال شرق سوريا، وأكد ذلك ناثان سيلز، منسق مكافحة الإرهاب بوزارة الخارجية، في مؤتمر الأسبوع الماضي، بقوله: “عرض دائم”.
لكن، على ما يبدو أن جولات المماطلة والتجاهل لم تنته بعد، فمنذ إعلان القضاء على “داعش” في بداية عام 2019، ناشدت قوات سوريا الديمقراطية الدول المعنية لاستعادة رعاياها المحتجزين في سوريا، الذين يُعتقد أنهم قاتلوا مع تنظيم “داعش” الإرهابي، أو انجروا إلى ذلك مُكرهين.
إذ وُلِد الكثير من الأطفال في المناطق التي كانت تخضع لسيطرة التنظيم المتطرف أو أتى بهم أهلهم إلى هذا المأزق، وبحسب إحصاءات التقرير، فإن ما يقرب من نصف الأطفال (من جميع الجنسيات) الذين يعيشون في المخيمات تقل أعمارهم عن 5 سنوات والأغلبية تقل أعمارهم عن 12 عامًا، وأكثر من 500 طفل يتيم أو غير مصحوب بذويه.
وعلى الرغم من ذلك، فإن العديد من الحكومات رفضت استقبالهم، حتى إن كان ذلك تحت شروط قانونية تشمل المحاكمة والتحقيق والمراقبة، وإنما فضلت أن تضع رأسها في الرمال، متأملةً أن تختفي هذه المشكلة بقدرة قادر، وذلك خوفًا من ثلاث نقاط، الأولى: التهديدات الأمنية، فبحسب ما أشار إليه رئيس جهاز المخابرات البريطاني أليكس يونغر: “من المحتمل أن يكونوا (العائدون) اكتسبوا مهارات تجعلهم أكثر خطورةً مما نتوقع”، لكن أشار التقرير إلى أن نسبة عالية من النساء والأطفال لا يشكلون خطرًا أمنيًا يبرر احتجازهم المطول وغير القانوني، فقد أفادت الكثيرات بأن أزواجهن أو مجندي تنظيم الدولة أجبروا أو تم التلاعب بهم للسفر إلى سوريا.
والثانية: الغضب الشعبي الذي يرفض تمامًا فكرة وجودهم على نفس الرقعة الجغرافية، لا سيما إذا لم يبد العائدون أي شعور بالندم أو الأسف، كما فعلت شاميمة بيجوم، المراهقة البريطانية التي انضمت إلى تنظيم داعش الإرهابي في النصف الثاني من شهر فبراير/شباط عام 2015 رفقة صديقاتها، وبعد مضي أربع سنوات وإنجاب طفل من أحد عناصر التنظيم، دعت الشعب البريطاني للتعاطف معها والسماح لها بالعودة إلى وطنها الأم، المملكة المتحدة، بعد أن أمر وزير الداخلية بسحب جنسيتها البريطانية، إلا أنها أخبرت وسائل الإعلام البريطانية سابقًا أنها لا تشعر بالندم لانضمامها للتنظيم، والنقطة الثالثة يمكن تلخيصها بالتوجسات المتعلقة بصعوبة إدماج هؤلاء الجماعة في المجتمع وحمايتهم من محاولات الانتقام.
وبدلًا من التصريح بذلك علانية أو اتخاذ خطوات جدية ومسؤولة في هذا الشأن، ادعت بعض الحكومات أنها رفضت إعادة مواطنيها – باستثناء عدد قليل من الأطفال اليتامى – على أساس عدم وجود قنصليات في سوريا، لكن المنظمة تقول إن أجهزة المخابرات من دول مثل المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وبلجيكا وهولندا كان لها وجود في المعسكرات، وكان هناك “طريقة إعادة محددة ومُختبرة مسبقًا” لإخراج الأشخاص، وذلك يثبت أن المملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي متورطة بشكل مباشر على الأرض في شمال شرق سوريا، ولديها سلطة مباشرة ومحددة لإنهاء معاناة هؤلاء النساء والأطفال.
لا يرسم هذا التقرير الصورة الكاملة لما يجري داخل الخيام، ولا يصور بما يكفي مشاهد العنف والاستغلال والجوع والعجز والمعاناة بكل أشكالها، وإنما يكفي إلى حد ما لوضع خط أحمر تحت فشل المجتمع الدولي في إنقاذ الأطفال والنساء الذين نجوا من تطرف “داعش”، ولكنهم على ما يبدو لم يستطعوا الإفلات من زيف الحكومات الغربية فيما يتعلق بحقوق الإنسان.