ترجمة وتحرير: نون بوست
تحاول تركيا، صاحبة الحضارة العظيمة والتاريخ الحافل استعادة مكانتها على الساحة الدولية بين القوى العالمية. للقيام بذلك، تسعى لجذب انتباه وسائل الإعلام بواسطة الاعتماد على قوتها الناعمة وتجنب تضارب المصالح مع الجيران، في إطار نفوذها الخارجي، ولكن أيضًا من خلال الاستفزازات المتزايدة بحثا عن فرض صورة تركيا القوية.
“اضطرت الإمبراطورية العثمانية الممتدة من حدود البلقان إلى حدود المجر منذ فترة طويلة إلى إنشاء قنوات تواصل تسمح لها بالحفاظ على سلطتها التي تفرضها على مساحة شاسعة من أراضيها”.
التقليد العثماني في الاتصال داخليا وخارجيا
كانت الإمبراطورية العثمانية، التي أجادت التواصل داخليا وانفتحت على الغرب في الآن ذاته، تتغذى على التبادلات مع جيرانها. كانت تركيا تعرف جيرانها الغرب. فقد تجاورت معهم منذ فترة طويلة وتبادلا الجانبان الاحترام، وتعاونا أحيانًا، وغالبًا ما تطلعا إلى بعضهما البعض. لقد صاغت تركيا هوية على الساحة الدولية، من خلال إتقان سياساتها واتصالاتها. ولكن داخل حدودها أيضًا تعمل على تحسين صورتها.
ما زالت تركيا في قلب إمبراطوريات العصور القديمة
في السياسة الداخلية، يُستخدم التاريخ كأداة سياسية وأيديولوجية لتشكيل الأمة والمواطنين. تعد الكتب المدرسية ووسائل الإعلام الأدوات المثالية لنقل هذا التاريخ التركي الإسلامي، وخاصة العثماني، الذي سرق الأنظار عن الماضي الحثي والسومري أو حتى الأتروسكي، والفارسي، والأخميني (النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد. ) والإغريقي (الإسكندر الأكبر، 323 قبل الميلاد). كانت الإمبراطورية الأخمينية نموذجًا للاستقرار بينما شكلت الإمبراطورية الإغريقية نموذجًا للسرعة وكانت الأكثر توسعا، حيث امتدت من البحر الأبيض المتوسط إلى الهند، ثم الإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية البيزنطية.
باختصار، ما زالت تركيا في قلب إمبراطوريات العصور القديمة. ظهر الأتراك لاحقًا خلال توسع الإسلام، الذي كان شكلا من أشكال الإمبراطورية السياسية والدينية. لكن السياسة كانت هذه المرة في خدمة الدين. يعد هذا المنعطف التاريخي البحت مهما بشكل خاص لفهم التفسيرات المستخدمة اليوم من قبل تركيا في استراتيجياتها المعلوماتية.
الثقافة التركية
إن الوعي بالأداة الثقافية، كعامل تأثير، ليس حديث العهد. على سبيل المثال، في عام 1968، أراد الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة خلال زيارة خاصة التنقل إلى قبر حنبعل، الشخصية العسكرية والسياسية التاريخية العظيمة. ولتجنب اكتشاف الرئيس سوء صيانة المقبرة، نظم الأتراك الذين لم يتوقعوا هذا الطلب زيارة بديلة ودعوا الرئيس بورقيبة لزيارة تل بسيط مهجور. أثارت هذه الزيارة خيبة أمل كبيرة في نفس الرئيس الحبيب بورقيبة الذي رد الفعل بقسوة. فشل الأتراك في هذا الأمر، وتعلموا من هذا الدرس، وبنوا ضريحًا لتكريم هذا البطل، ومن ثم بدأوا تطبيق استراتيجيتهم للتأثير الثقافي.
فضلت تركيا التلفزيون لتأكيد قوتها الثقافية من خلال إنتاج وبث العديد من المسلسلات والأفلام
فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، لطالما حافظت تركيا على علاقات جيدة مع الدول التي تتشارك معها الماضي ذاته، ولا سيما مع المغرب العربي. فالتاريخ والهوية الدينية من النقاط المشتركة التي تساعد في الحفاظ على روابط قوية في هذا السياق التاريخي الذي يربط الثقافة بالدين. إلى حد كبير، تدير وكالة التعاون والتنسيق التركية استراتيجية التموقع الخارجي. لدى هذه الوكالة إدارتين فرعيتين، الأولى مكلفة بجميع الموضوعات المتعلقة بالتنمية الاقتصادية بينما تشرف الثانية على الجانب الاجتماعي والثقافي. وقد أدار رئيس جهاز الاستخبارات الوطنية، هاكان فيدان، الوكالة لمدة أربع سنوات.
في كثير من الأحيان، فضلت تركيا التلفزيون لتأكيد قوتها الثقافية من خلال إنتاج وبث العديد من المسلسلات والأفلام. كما تفوقت على مصر المعروفة بتميزها في هذا المجال. أصبحت تركيا في قائمة أبرز 5 دول مصدرة للمسلسلات التلفزيونية في العالم بعد الولايات المتحدة وتعرض مسلسلاتها في أكثر من 150 دولة.
الوظيف التركي للإيديولوجيا بواسطة الإسلام والحجة الاستعمارية الجديدة
إن الذاكرة في الجزائر معقدة للغاية، فهي الدولة التي اعتمد بناؤها إلى حد كبير على حرب التحرير ضد فرنسا. وتفسر هذه الحرب بمعارضة لفرنسا تأسس عليها التعليم والخطاب الوطني، ما زالت متجذرة في بعض القادة الذين عايشوا أحداث عام 1962. أدى اختفاء هذه المعارضة إلى مواجهة شكل من أشكال الفراغ، استغلته تركيا لتثبت نفوذها على حساب فرنسا.
في الجزائر، شكلت وكالة التعاون والتنسيق التركية هذا التحالف بفضل العديد من المشاريع، لا سيما تلك المتعلقة بترميم الآثار التاريخية من العهد العثماني (المساجد والقصور وما إلى ذلك) التي تمولها بالكامل. ويعتبر ترميم جامع كتشاوة مثالاً على ذلك (بميزانية قدرها 7 ملايين يورو) ولم تتردد زوجة الرئيس التركي في التقاط صورة فيه لتنشر في الصحافة بهدف الترويج له. يتمثل الهدف من وراء ذلك في تعزيز تراث تاريخي يذكرنا بالعصر العثماني العظيم. كما وقع تنفيذ العديد من المشاريع بالقرب من أحياء الطبقة العاملة من أجل استقطاب هذه الشعوب.
في فجر الذكرى الستين لاستقلال الجزائر، المدرجة في الأجندة السياسية لفرنسا والجزائر، لم تتردد تركيا في بث أغنية على الهواء تعود إلى عام 1830 بعنوان “الجزائر”.كلمات الأغنية التي تقول “بذور الحصاد الجزائري انتشرت في الهواء، وتناثرت مع الرياح، الجزائر أمي، الجزائر حبيبتي” يشوبها حنين يعكس الماضي الاستعماري لتركيا الذي يبدو أن الحكام الحاليين يريدون استخدامه لإعادة القسطنطينية إلى مجدها السابق.
ثقل هذه الكلمات، ذات الدلالة الأيديولوجية القوية، هو رسالة مباشرة موجهة إلى القوى الاستعمارية السابقة
في موضوع الماضي التاريخي أيضا، وفي شهر شباط / فبراير 2020، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للصحافة أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أبلغه أن “الفرنسيين ذبحوا أكثر من 5 ملايين جزائري في 130 عامًا”. طلبت تركيا من الجزائر مشاركة الوثائق التاريخية حول الفظائع التي ارتكبها الفرنسيون. كما قال الرئيس التركي إن السنغال، مستعمرة فرنسية سابقة، لا تنظر بإيجابية لفرنسا.
بشكل أكثر مباشرتية، خلال زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون للبنان بعد تفجير الرابع من آب / أغسطس 2020 في بيروت، أعلن رجب طيب أردوغان خلال كلمة ألقاها في أنقرة: “ما يريده ماكرون وفريقه هو إعادة النظام الاستعماري (في لبنان)”. إن ثقل هذه الكلمات، ذات الدلالة الأيديولوجية القوية، هو رسالة مباشرة موجهة إلى القوى الاستعمارية السابقة.
العقيدة الأيديولوجية الدينية؛ استراتيجية التأثير
أدت الخطابات العدوانية المتزايدة تجاه فرنسا إلى رد رئيس إيمانويل ماكرون إعلاميا، لا سيما خلال الخطاب الذي ألقاه في ليه مورو في الثاني من تشرين الأول / أكتوبر 2020. فقد وردت تصريحاته كالآتي: “لا يمكن أن نتبع قوانين تركيا في فرنسا”، “ضرورة تحرير الإسلام في فرنسا من التأثيرات الأجنبية” “سينتهي نظام الأئمة المنتدبين”.
تمثل استراتيجية الاتصال على المستوى الأيديولوجي معركة ضد العلمانية و”الإسلاموفوبيا” التي يمارسها “المستعمرون” ، والتي تصبح حجة مفيدة لإغراء السكان المسلمين وجعلهم يعترفون بالاستعمار العثماني الجديد في البلاد تحت عنوان مناهضة الاستعمار. بالإضافة إلى التوسع العثماني، طورت تركيا أيضًا الطورانية من أجل التأثير على جميع البلدان التي يوجد بها سكان ناطقون بالتركية (من كازاخستان إلى الصين) أو أقليات ناطقة بالتركية (من أوروبا الغربية مع الهجرة التركية إلى ألمانيا وفرنسا والبلقان والشرق الأوسط خاصة). يتعلق الأمر باستراتيجية قوة حقيقية من خلال المعلومات من وضع تركيا تحت حكم أردوغان.
المصدر: أنفو غار