في أعقاب نجاح الثورة الإسلامية عام 1979، خرجت المجتمعات الشيعية في العالم الإسلامي من حالة العزلة السياسية والاجتماعية، وبدت متأثرة بأديولوجيا الثورة وشعاراتها، وأدت هذه التطورات تدريجيًا إلى تكوين أفكار جيوسياسية شيعية تستند للمركزية الإيرانية.
ومنذ أن أنشئت الجمهورية الإسلامية في إيران على مبادئ المذهب الشيعي وولاية الفقيه، وفي مجتمع أغلبية سكانه من الشيعة، تأثرت المجتمعات الشيعية في البلدان الأخرى، وخاصة في الجغرافيا المحيطة بإيران، بأهدافها وتطلعاتها، إذ أدى هذا التأثير أولًا إلى الوعي الذاتي والسياسي والرغبة في تقاسم الحقوق والسلطات، وثانيًا تكوين حزام جيوسياسي شيعي بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، يمتد من جنوب شرق آسيا وحتى شمال إفريقيا، وثالثًا تشكيل جيوبوليتيك شيعي يهدف إلى التأثير في علاقات القوة الدولية.
سعت إيران إلى تسييس الهوية الشيعية وتوحيد التركيبة العرقية للمجتمعات الشيعية تحت سقف الجمهورية الإسلامية، كما سعت إلى دمجها بهوية الدولة الإيرانية القائمة على فلسفة ولاية الفقيه، وتقديم نفسها على أنها أم القرى في العالم الإسلامي، وبدأت في كثير من الأحيان باستخدام الدين كمتغير مؤثر في السياسة الخارجية، إذ أصبحت أنشطة إيران الخارجية تشكل تهديدًا للقوى المنافسة في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، التي قيمت بدورها الجيوبوليتيك الشيعي كمصدر لعدم الاستقرار، الذي يتحكم بمصادر المياه والطاقة، وهو ما جعل إيران تشكل تأثيرًا مباشرًا على المجتمعات الشيعية في دول هذه المناطق، من النواحي الجيوستراتيجية والثقافية والاقتصادية والعسكرية.
إن المحاولات الإيرانية لتقوية الجغرافيا الشيعية في الاتجاه الذي يحقق لها موقع القيادة المذهبية الشيعية في العالم الإسلامي، جعلها من ناحية أخرى في حالة صدام مع الهوية السنية الممثلة بقوى مركزية وهي: السعودية ومصر وتركيا، فإيران وفي إطار سعيها لإقامة المركزية الشيعية، اصطدمت بمقتربات دينية وتاريخية وحضارية، جعلت الجهود الإيرانية لتحقيق السيطرة على العالم الإسلامي أمام تحديات كبيرة، وهو ما جعلها تذهب باتجاه تحقيق حالة من التمايز المذهبي عن القوى الأخرى، والحديث هنا عن تقسيم العالم الإسلامي إلى عالم شيعي وعالم سني، ومن ثم السعي لإبراز وقيادة العالم الشيعي، على نحو يخدم العمق الجيوستراتيجي الإيراني.
وحتى في إطار العالم الشيعي، واجهت إيران تحديات كبيرة، أبرزها تحدي القيادة داخل العالم الشيعي بين مرجعيتي قم والنجف، إضافة إلى تحدٍ آخر متمثل بتمايزات هوياتية داخل هذا العالم، والحديث هنا عن الهوية الشيعية التركية أو الهوية الشيعية العربية، وفيما يتعلق بالهوية الشيعية التركية، وهي محور البحث والتحليل، يمكن القول إنها أصبحت أكثر تمايزًا عن الشيعية الفارسية اليوم، وذلك نتيجة أسباب ذاتية ومعنوية عديدة، أبرزها الإصرار الإيراني على تذويب الهويات الشيعية ضمن وعاء ولاية الفقية والجمهورية الإسلامية، وعدم التعامل مع الهويات الشيعية على أساس حضاري واحد.
أججت التطورات الأخيرة في إقليم ناغورني قره باغ، تغيرات في موقف إيران من الصراع، أبرزها ظهور تحديات هوياتية كبيرة بدأت تعيشها إيران اليوم
تحولات إستراتيجية مهمة
منذ قرون نجحت الشيعية التركية بنموذجيها الصفوي والقاجاري في تأسيس دولة دمجت بين العقيدة والجغرافيا، حيث نجحت هذه الثنائية في توحيد الشعوب الإيرانية، ورسخت هذه القبائل التركية المقاتلة، موقعها بوصفها الحامي للعقيدة والجغرافيا ووحدة التراب الإيراني، وقد تراجع موقعها بعد قيام نظام بهلوي الذي لجأ إلى تكريس الهوية الإيرانية، حيث خاض الأذريون الإيرانيون معركة للحفاظ على نفوذهم داخل مؤسسات الدولة، وفي الحوزة والبازار.
وبعد مجيء الثورة الإسلامية، كان للأذريون المفصل الحقيقي في إسقاط نظام الشاه، بسبب حجم تأثيرهم داخل المجتمع والدولة في إيران، لذلك يتعامل معهم نظام ولاية الفقيه بحساسية عالية، تختلف عن باقي القوميات والعرقيات، حتى يضمن حيادهم خلال الأزمات الداخلية، وهذا ما لم تستطع طهران ضبطه في الأزمة الأخيرة التي اندلعت بين أرمينيا وأذربيجان، بعدما خرجت تظاهرات كبيرة في ثلاث محافظات أذرية في إيران، ورفعت شعارات دعم لأذربيجان، ودعت إلى الانفصال عن إيران.
ورغم أن هناك العديد من الأسباب الإستراتيجية التي دفعت إيران إلى الوقوف بجانب أرمينيا المسيحية بالضد من أذربيجان الشيعية في صراعاتهما المستمرة، ومن أبرزها العلاقات الجيدة التي تربط باكو بكل من تل أبيب وواشنطن، فضلًا عن تأثير باكو الاقتصادي والطاقوي، فإنها من جهة أخرى تنظر إلى الثقل الشيعي في أذربيجان الممزوج بهوية قومية، كمهدد أمني وجيوسياسي لها، خصوصًا أن الأذريين في إيران، يشكلون ثاني أكبر قومية بعد الفرس، حيث تشير الإحصاءات إلى أن عددهم يبلغ نسبة 16-25% من السكان، ويرتبطون بمشتركات مذهبية وقومية مع أذربيجان وتركيا، فضلًا عن طبيعة الانفتاح الذي يعيشه الشيعة في أذربيجان وتركيا، وعدم تأثرهم بالدعاية الدينية التي تبثها القنوات الفضائية الإيرانية تجاه كلا البلدين، وتمسكهم بالنهج الليبرالي القومي.
أججت التطورات الأخيرة في إقليم ناغورني قره باغ، تغيرات في موقف إيران من الصراع، أبرزها ظهور تحديات هوياتية كبيرة بدأت تعيشها إيران اليوم، خصوصًا بعد تصاعد أصوات الأذريين الإيرانيين المنددين بموقف بلادهم من الصراع، إذ شهدت المدن الإيرانية ذات الأغلبية الأذرية احتجاجات بدأت تتوسَّع تضامنًا مع باكو، ما يمكن اعتباره دلالة على دور النزاع بين أذربيجان وأرمينيا في دعم الوعي القومي لدى الأذريين في إيران.
وتتمثل أهمية هذه الاحتجاجات في أنها اتخذت منحى توسعيًا، إذ شهدت الأيام المتتالية توسّعها في المزيد من المدن التي يقطنها الأذريون، ما كان ينذر بتحولها إلى احتجاجات شاملة من منطلقات عرقية يصعب السيطرة عليها، كما أنها اكتسبت أهمية من حيث تركيز شعاراتها على رفض التدخل الإيراني في دعم أرمينيا، والاشتباكات التي دارت بين مُحتجين والشرطة في بعض المناطق، وأظهر مجموع ذلك أن استمرار الموقف الإيراني الداعم لأرمينيا في حربها مع أذربيجان، قد يعمل على توسيع الحرب بين البلدين إلى داخل الأراضي الإيرانية، في شكل احتجاجات من منطلق عرقي، مرشحة للتوسُّع، ومفتوحة على عدة احتمالات لا تُحمد عواقبها لطهران.
بروز الهوية الشيعية التركية في الوقت الحاضر، كهوية ثالثة داخل العالم الشيعي، بعد الهوية الشيعية الفارسية والهوية الشيعية العربية، قد يمثل مدخلًا جديدًا للصراع داخل هذا العالم
ويمكن القول إن التطورات الإستراتيجية التي مر بها المجتمع الشيعي في كل من أذربيجان وتركيا، جعلهما يتمايزان عن النموذج الشيعي الإيراني، فهما يطرحان نفسيهما ضمن حالة حضارية أكثر انفتاحًا عن الحالة الإيرانية، فالشيعة الإثنا عشرية في أذربيجان، يترجمون تجربة العلمانية الشيعية، التي قدمت بدورها الوجه الآخر لليبرالية الشيعية، ونجحت في تقديم الشيعة على أنهم مجتمع قادر على التجاوب مع تطورات القرن الحادي والعشرين، ولا يزال يحتفظ بعلاقات وطيدة مع الشيعة الأذريين داخل إيران، في الوقت الذي قطعت فيه إيران العديد من صلاتها الوثيقة مع الشيعة داخل أذربيجان.
أما الشيعة العلويون في تركيا، فهم أيضًا اندمجوا ضمن الهوية القومية التركية، وقدموا نموذجًا للتعايش مع الهويات الأخرى داخل تركيا، في الوقت الذي أقصت فيه الشيعية الفارسية الهويات المذهبية الأخرى داخل إيران.
لذلك فإن بروز الهوية الشيعية التركية في الوقت الحاضر، كهوية ثالثة داخل العالم الشيعي، بعد الهوية الشيعية الفارسية والهوية الشيعية العربية، قد يمثل مدخلًا جديدًا للصراع داخل هذا العالم الذي تكافح إيران باستمرار لفرض هيمنتها وسلطانها عليه، من أجل إيجاد مبرر شرعي للتنافس على قيادة العالم الإسلامي، في ظل صراع على القيادة في الجانب الآخر من هذا العالم، بين تركيا بعمقها التاريخي ومصر بتأثيرها الحضاري والسعودية برمزيتها الإسلامية.