قبل أقل من 35 يومًا على الذكرى الأولى لاغتيال واشنطن قائد “فيلق القدس” الجنرال قاسم سليماني، في ضربة جوية بالقرب من مطار بغداد الدولي يوم 3 من يناير/كانون الثاني 2020، ها هي طهران تتلقى ضربة موجعة أخرى، لكنها هذه المرة في أحد أبرز عقولها العلمية التي كان لها دور كبير في مسيرتها النووية، العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده (59 عامًا).
تعرض فخري لعملية اغتيال دقيقة استهدفت سيارته وحرسه الشخصي، في أثناء طريق عودته، أمس الجمعة، في منطقة “آبسرد” التابعة لمدينة “دماوند” في طهران، على بعد 45 كيلومترًا عن العاصمة، بحسب رواية وزير الدفاع الإيراني، أمير حاتمي، الذي أشار إلى أنه نُقل إلى المستشفى، لكن الجهود الطبية لم تسعفه ليفارق الحياة فيما أصيب اثنان من مرافقيه.
لا يمكن قراءة اغتيال زادة بعيدًا عن العملية التدميرية التي استهدفت صالة لتجميع أجهزة الطرد المركزي بمنشأة “نطنز” النووية، في الـ2 من يوليو/تموز الماضي، التي تعد أحد أهم المنشآت الخاصة بتخصيب اليورانيوم في البلاد، الأمر الذي يشير إلى استهداف نوعي ممنهج لطهران لا يقل خطورةً ولا أهميةً عن الاستهداف العسكري والاقتصادي الذي يتجاوز حاجز التفوق النووي إلى تقزيم الدور الإقليمي.
العملية أثارت العديد من علامات الاستفهام لا سيما أنها جاءت في وقت يعاد فيه تشكيل خريطة التحالفات، إقليميًا ودوليًا، في ظل المستجدات التي تشهدها الساحة العالمية وعلى رأسها ما يثار بشأن تغير العقلية الأمريكية في تعاملها مع الملفات الخارجية وفي مقدمتها الملف الإيراني بعد فوز جو بايدن، والجدل الذي أحدثه الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب الذي لا يريد مغادرة البيت الأبيض قبل حدث يعيده مرة أخرى تحت دائرة الأضواء التي خفتت عنه بعد مؤشرات خسارته في الانتخابات.
ما قيمة فخري زاده؟
لا تتوافر معلومات كافية عن العالم النووي المغتيل لكن مكانته تعمقت بصورة أكبر حين ورد اسمه على لسان رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في تصريحات بوزارة الحرب الإسرائيلية عن البرنامج النووي الإيراني، يوم 20 من أبريل/نيسان 2018، ليصبح العالم النووي الوحيد الذي فرض نفسه على ألسنة الحكومة الإسرائيلية.
يعمل زادة مدرسًا لمادة الفيزياء بجامعة الإمام الحسين (تابعة للحرس الثوري) في طهران، بجانب أنه رئيس منظمة الأبحاث والإبداع التابعة لوزارة الدفاع الإيرانية التي كان يعمل نائبًا لوزيرها في الوقت نفسه، ويصفه الإعلام الإيراني بأنه “مؤسس البرنامج النووي” و”مدير البرنامج النووي العسكري” الإيراني.
لعب دورًا محوريًا في الارتقاء بالقدرات الدفاعية لبلاده عبر التكنولوجيا النووية التي نجح في الوصول بها إلى مستويات كبيرة، ونتاجًا لذلك أدرجته مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية عام 2013 مع خمسة علماء إيرانيين كبار ضمن أقوى 50 شخصية عالمية.
وصفته أجهزة مخابرات إسرائيلية وغربية بأنه العقل المدبر لبرنامج سري قديم لصناعة قنبلة ذرية إلا أنه توقف عام 2003، فيما يخشى البعض من عودة هذا البرنامج مرة أخرى بصورة سرية، فيما أدرجه مجلس الأمن الدولي على قائمة العقوبات الأممية في 24 من مارس/آذار 2007، كونه أحد رموز البرنامج النووي الإيراني.
القيام بعملية نوعية بهذا الحجم الذي يستهدف العقل النووي الإيراني، يحقق الكثير من الأهداف في نفس الوقت، أولها الإبقاء على منسوب التوتر القائم بين طهران وواشنطن بعد قدوم الإدارة الجديدة وهو ما يصعب المهمة أمام بايدن في التعامل مع هذا الملف.
“إسرائيل”.. المتهم الأول
حتى كتابة تلك السطور لم تتبن أي جهة مسؤوليتها عن الحادث، إلا أن أصابع الاتهام تتجه صوب “إسرائيل” بمباركة أمريكية، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الذي كتب على تويتر يقول إن هناك “مؤشرات خطيرة على دور إسرائيلي”، داعيًا حكومات الغرب أن “تنهي معاييرها المزدوجة المخجلة وأن تدين هذا العمل الذي هو إرهاب دولة”.
وبعيدًا عن تلميحات ظريف بشأن التورط الإسرائيلي في العملية كان اتهام المستشار العسكري للمرشد الإيراني، حسين دهقان، أكثر مباشرةً ووضوحًا، حيث غرد قائلًا: “في الأيام الأخيرة من الحياة السياسية لحليفهم (ترامب) يسعى الصهاينة إلى تكثيف الضغط على إيران وإشعال فتيل حرب شاملة”.
نائب الأمين العام لحزب الله اللبناني نعيم قاسم، أشار هو الآخر إلى أن زاده قُتل “على أيدي من ترعاهم أمريكا و”إسرائيل”، وهذا جزء من الحرب على إيران والمنطقة الحرة وفلسطين”، بحسب وكالة “رويترز” التي أشارت إلى اتهام طهران للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه “بارك عملية القتل”.
الوكالة استندت في تقريرها الذي رجحت فيه مسؤولية الموساد الإسرائيلي عن الواقعة إلى امتناع مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي عن التعليق على الهجوم، وهو الموقف ذاته الذي اتخذته وزارة الدفاع الأمريكية (بنتاغون)، رغم أن نتنياهو كان قد أعلن في كلمة مسجلة له قبل أيام أنه سيستعرض بعض الإنجازات التي قام بها هذا الأسبوع في وقت لاحق، لافتًا إلى أنه لا يستطيع البوح بها كلها.
التوقيت والرسائل
القيام بعملية نوعية بهذا الحجم الذي يستهدف العقل النووي الإيراني قبل أيام قليلة من تولي جو بايدن مقاليد الأمور لا سيما بعد المخاوف الإسرائيلية التي أثارتها احتمالات انتهاج الرئيس الجديد لمسار دبلوماسي مختلف مع طهران عكس التصعيد الترامبي، يحقق الكثير من الأهداف في نفس الوقت.
أول تلك الأهداف الإبقاء على منسوب التوتر القائم بين طهران وواشنطن بعد قدوم الإدارة الجديدة وهو ما يصعب المهمة أمام بايدن في التعامل مع هذا الملف الذي بات محفوفًا بالمخاطر عقب استهداف شخصية بهذا الحجم بعد أقل من عام على تصفية أحد أبرز العقول العسكرية القوية في الجيش الإيراني.
العملية ربما تُبقي على إستراتيجية ترامب الشاملة في مواجهة إيران التي استحدثها الرئيس الأمريكي بعد الانسحاب من الاتفاق النووي في 8 من مايو/آيار 2018، من حيث التصعيد المتواصل في منسوب التوتر، واستمرار حالة الشد والجذب التي يتبعها المزيد من الضغوط والعقوبات الموقعة على الجانب الإيراني.
لا شك أن استهداف عقلية نووية مؤثرة بحجم زاده سيكون له أثر كبير في التأثير على البرنامج النووي الإيراني، وتداعيات ربما تؤجل المشروع القومي للدولة الإسلامية أو الاضطرار لإحداث تغيرات نوعية من شأنها أن تنعكس عليه سلبًا، وهو الهدف الثاني الذي ربما يتحقق من وراء تلك العملية.
كما يحمل الاغتيال رسالة سياسية وعسكرية واضحة مفادها أن الكيان الصهيوني جاد في استهداف البرنامج النووي الإيراني، لا سيما بعد الخطوات التقدمية التي خطتها طهران في هذا المضمار خلال العامين الماضيين تحديدًا، الأمر الذي دفع تل أبيب إلى توجيه رسالة شديدة اللهجة بالتأكيد على استمراره في مناهضة الحلم الإيراني.
هل تنتقم طهران لمقتل عالمها النووي؟ الإجابة جاءت بعد دقائق قليلة من وقوع العملية، حيث صرح قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي إن طهران اتخذت “قرارًا بالانتقام”
جريمة كهذه لا شك أنها ستلقي بظلالها على المشهد الأمريكي المشتعل بموجات المد والجذر بشأن نتائج الانتخابات، فالرئيس المهزوم (وفق المؤشرات غير الرسمية) الذي سُحبت عنه الأضواء، والمتشبث بالبقاء في البيت الأبيض، يسعى بكل الطرق لإحداث حالة من الجدل والفوضى عبر عملية تجذب أنظار الرأي العام بعيدًا عن المعركة الداخلية ضد بايدن التي يبدو أنه على بعد أمتار قليلة من رفع الراية البيضاء (تقارير أمريكية ذهبت إلى انقسام داخل إدارة ترامب بشأن توجيه ضربة عسكرية لطهران قبيل نهاية ولايته).
لم يكن زاده العالم النووي الإيراني الوحيد الذي تم استهدافه لتقويض المشروع النووي، فالبداية كانت في 2010 حين اغتيل العالم مسعود محمدي، أستاذ الفيزياء بجامعة طهران يوم 22 من يناير/كانون الثاني، في أثناء خروجه من بيته عبر تفجير قنبلة عن بعد، شمالي طهران.
وفي العام ذاته اغتيل، أستاذ الفيزياء بجامعة “الشهيد بهشتي” في طهران، مجيد شهرياري، يوم 29 من نوفمبر/تشرين الثاني بعدما ألصق راكب دراجة نارية قنبلة على سيارته في العاصمة طهران، تلاه الباحث المتخصص في الهندسة الكهربائية في جامعة “خواجة نصير الدين الطوسي” الصناعية، داريوش نجاد في 23 من يوليو/تموز 2011.
وكان آخر من تم استهدافهم من علماء إيران ( قبل اغتيال زاده) العالم المعروف مصطفى أحمدي روشن، أحد مديري منشأة “نطنز”، التي تم استهدافها هي الأخرى قبل 5 أشهر، حيث تم زرع قنبلة داخل سيارته، يوم 11 من يناير/كانون الثاني 2012 عقب خروجه من منزله، وكان رفقته أحد زملائه في المنشأة النووية.
هل ترد طهران؟
السؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل تنتقم طهران لمقتل عالمها النووي؟ الإجابة جاءت بعد دقائق قليلة من وقوع العملية، حيث صرح قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي إن طهران اتخذت “قرارًا بالانتقام والعقاب القاسي بحق من خطط ونفّذ ودعم اغتيال محسن فخري زاده”.
وفي هذا السياق تشير بعض الأنباء إلى عقد المجلس الأعلى للأمن القومي وهو أعلى هيئة أمنية في الحرس الثوري، اجتماعًا طارئًا مع كبار القادة العسكريين، لبحث سبل الرد على العملية، فيما ألمح بعض الساسة هناك إلى أن الرد سيكون قاسيًا للغاية.
يمكن فهم تلك التصريحات في سياق مساعي النظام الإيراني لحفظ ماء الوجه إزاء عملية بهذا الحجم، سواء على مستوى الشارع الداخلي أم هيبة الدولة في الخارج، غير أن الأجواء بصورة عامة تستبعد اتخاذ أي إجراء في الوقت الراهن، خاصة أن تداعياته ربما تكون كارثية على الإيرانيين في ظل الأيام المتبقية لترامب.
اغتيال زاده من المرجح أن يلقي بظلاله على المشهد السياسي الداخلي الإيراني، وعليه سيكون البحث عن رد لحفظ ماء الوجه أمرًا في غاية الأهمية والحضور، وتبقى الكيفية والأداة هي الفصل في هذا الشأن
الرئيس الإيراني حسن روحاني أشار إلى أن “اغتيال فخري زاده لن يبقى دون رد وسيكون ردنا على الجريمة في الوقت المناسب”، لكن في الوقت ذاته اعتبر أن “الإيرانيين أذكى من أن يقعوا في فخ مؤامرات “إسرائيل” الخبيثة التي تسعى لإثارة الفتنة وأن المخططات الإسرائيلية مكشوفة والكيان الصهيوني لن ينجح في تحقيق أهدافه”.
تصريحات روحاني يفهم منها أن مبدأ الانتقام موجود – وإن كان رمزيًا -، لكن التوقيت والكيفية خارج النقاش في الظرف الحاليّ، إذ يرى أن الهدف الإسرائيلي من تلك العملية إحداث حالة من الفوضى وتوريط طهران في مواجهات عسكرية أو ردود انتقامية ربما تزيد من تأزم الوضع.
يعلم الإيرانيون أن ترامب في أيامه الأخيرة يسعى لجر المنطقة إلى ساحة حرب واسعة تسحب معها أضواء الانتخابات وتداعياتها، آملين أن تتغير السياسة الخارجية لواشنطن وإستراتيجية التعامل مع الملف الإيراني بعد قدوم بايدن، خاصة أن له تصريحات إيجابية في هذا الشأن، وعليه يتحفظ فريق كبير من النظام الإيراني على اتخاذ أي رد فعل انتقامي يؤثر على العلاقات المستقبلية مع الإدارة الأمريكية الجديدة.
وفي الأخير فإن اغتيال زاده من المرجح أن يلقي بظلاله على المشهد السياسي الداخلي الإيراني، وعليه سيكون البحث عن رد لحفظ ماء الوجه أمرًا في غاية الأهمية والحضور، وتبقى الكيفية والأداة هي الفصل في هذا الشأن، وهو موقف لا يحسد عليه الإصلاحيون، بين مطرقة الرغبة في استعادة الشعبية التي تأثرت بتلك العمليات المتكررة وسندان مخاوف تداعيات أي عمل انتقامي من الممكن أن يعمق من المأساة.