يبدو أن البحر الأبيض المتوسط أصبح منطقة توتر عالٍ بفعل التحركات الأخيرة لعدد من الدول، فإضافة إلى الحروب (ليبيا وسوريا) والأزمات المعقدة (اليونان) التي يتداخل فيها العامل الأمني والاقتصادي وكذلك الإيديولوجي، يشكل سباق ترسيم الحدود البحرية والتنافس المحموم بين الدول على تحديد مجالات جديدة للسيطرة أهم مظاهر الأزمة التي قد تقوض استقرار المنطقة برمتها وتُعيد توزيع أوراق القوى المهيمنة في المتوسط، خاصة في ظل تسابق الشركات النفطية العالمية على استكشاف النفط.
إيطاليا كانت آخر الدول بعد تركيا واليونان ومصر التي كشفت نيتها ترسيم حدودها البحرية واستغلال المناطق البحرية الخاصة، والأهم من ذلك إعادة ترسيم الحدود المشتركة مع جيرانها بما يحفظ، وفق بعض السياسيين، مصالحها الإستراتيجية والحيوية، على اعتبار أن هذه الاتفاقيات كانت ظالمة وغير منصفة لروما التي تحاول جاهدةً استعادة مجدها والوقوف في وجه تحركات بعض القوى المنافسة للسيطرة على المتوسط.
خطوة إيطالية
في وقت سابق، أعلنت كل من إيطاليا والجزائر عن مفاوضات رسمية لترسيم حدودهما المشتركة في البحر الأبيض المتوسط، وذلك بعد سنة ونصف من إصدار الرئاسة الجزائرية مرسومًا (2018) أقرت بموجبه منطقة اقتصادية خالصة (Zee) ملاصقة لبحرها الإقليمي، موظفة حقها الممنوح بموجب المادة 55 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لسنة 1982.
فالمنطقة الاقتصادية الخالصة، حق تضمنه اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وهي عبارة عن منطقة بحرية تمارس عليها دولة حقوقًا خاصةً في الاستغلال واستخدام الموارد البحرية، وتمتد إلى مئتي ميل بحري بحسب اتفاقية 1982، ويرجع القرار الجزائري بإعلانها عن منطقتها البحرية ”الجديدة”، إلى رغبتها في استكشاف واستغلال مواردها الطبيعية غير الحية لا سيما النفط والغاز الحبيسين في جرفها القاري، وهو ما كشفته شركة سوناطراك النفطية في وقت سابق.
الإجراء الجزائري شمل أيضًا الجانب الإسباني وكل الدول التي تشترك معها في حدود ساحلية متلاصقة كتونس وإيطاليا شرقًا والمغرب غربًا، وأخرى متقابلة كفرنسا، وهو ما اعتبره الإيطاليون دافعًا للتحرك للحفاظ على مصالحهم الحيوية.
إحياء المشروع
يبدو أن الخطوة التي اتخذتها الجزائر لم تستسغها إيطاليا القوة التاريخية في المتوسط التي تعتقد أن مياهها الإقليمية لا تتناسب وحجمها الدولي، الأمر الذي دفعها إلى تقديم شكوى للأمم المتحدة تتهم فيها الجزائر بالتوسع على حساب مياهها في سردينيا، وفتح شهيتها لإحياء أمجادها التاريخية في البحر الأبيض المتوسط، فلم تكتف إيطاليا بالدخول في مفاوضات مباشرة مع الطرف الجزائري بل مرت بالتوازي مع ذلك إلى الجانب التشريعي لإقرار خطوات أخرى أهمها إعادة التفاوض على الاتفاقيات السابقة وأساسًا مع تونس.
الخطوة الجزائرية لم تكن الدافع الرئيسي لتحرك الإيطاليين، فاتفاق الحدود البحرية بين اليونان ومصر والاتفاق المماثل بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها من الأمم المتحدة الموقع في نوفمبر/تشرين الثاني، دفع سلطات روما إلى التحرك حفاظًا على مصالحها، خاصة بعد تصاعدت الخلافات في المتوسط بعد اكتشاف احتياطات غاز كبيرة في المنطقة خلال الأعوام الماضية.
ووفقًا لموقع (starmag) الإيطالي أكد في تقرير أصدره في الشأن فإن الأزمة اليونانية التركية سلطت الضوء على حاجة إيطاليا إلى التفاوض مسبقًا بشأن المنطقة الاقتصادية الخالصة مع الدول المجاورة، وذلك تجنبًا للمبادرات التي قد تضر بمصالحها، وأوردت الاتفاقيات التي أعلنتها ليبيا مع مالطا واليونان كمثال على ذلك، مشيرة في الوقت ذاته إلى أن محكمة العدل الدولية اعترفت عام 1985 بوجود حقوق لروما في الربع الجنوبي الشرقي من مالطا.
التحركات والأهداف
مُضي روما في مشروع إعادة رسم حدودها البحرية أكدته الخطوات التشريعية، حيث أشار رئيس الكتلة البرلمانية لحركة ”خمسة نجوم” بينو كابراس إثر تصويت اللجنة البرلمانية على إنشاء المنطقة الاقتصادية الخالصة إلى أن إيطاليا ”ستكون مرة أخرى بطلًا في البحر الأبيض المتوسط”.
تصريحات كابراس دعمها موقف أحد أعمدة مشروع إعادة ترسيم الحدود البحرية مع تونس بموجب اتفاق 1971، الضابط المتقاعد والخبير في القانون البحري الدولي فابيو كافيو الذي أكد في تصريحات إعلامية بهذا الخصوص، أن “إيطاليا هي البحر” وهي إشارة إلى مساعي إحياء قوة روما في البحر المتوسط.
ووفقًا للضابط البحري، فإن اتفاقية ترسيم الحدود الإيطالية التونسية 1971، تمت بقبول مطالب تونس التي استحوذت على المياه الإقليمية بالجرف القاري في ”بانتيليريا” مقابل التنازل وعدم المطالبة بأي مساحة إضافية في لامبيدوزا ولينوسا، مع تمكين إيطاليا من حدود بحرية قريبة جدًا من جزيرة بيلاجي، مشيرًا إلى أن بلاده قبلت لأسباب عرضية بعد أن سمحت لها تونس بالصيد لمدة ثماني سنوات في مياهها الإقليمية.
كافيو قال أيضًا: ”بدلًا من ذلك، كان بإمكاننا اقتسام المنطقة البحرية التي تعلو منطقة الصيد في المياه الإقليمية التونسية، مؤكدًا أن ”الموضوع سيطرح مجددًا عندما يكون من الضروري إنشاء الحدود البحرية للمنطقة الاقتصادية الخالصة”.
وكانت النائب عن الحركة خمس نجوم (Iolanda Di Stasio) قد بثت في 22 من يوليو/تموز الماضي، حوارًا مباشرًا على صفحتها بموقع فيسبوك، شارك فيه بينو كابراس رئيس كتلة حركة خمسة نجوم وفابيو كافيو الذي يُعد أشد المنظرين لمشروع القانون والمدافعين عن التوجه البحري الجديد لإيطاليا، عرضت خلاله خرائط توسعية بحرية منتظرة.
عرض النائبة الإيطالية أشار إلى أن المشروع “سيضمن إنشاء منطقة اقتصادية خالصة ستضفي بدورها على الاقتصاد مميزات مهمة في وقت لاحق، كالاقتصاد الأزرق المتمثل في صيد الأسماك وتنفيذ المبادرات التي تهدف بشكل أكبر إلى سلامة السواحل وحماية البيئة البحرية، وبالتالي حماية مورد ثمين من الاستغلال المفرط من منظور مستدام بشكل متزايد”.
مشروع القانون (عدد 2313) الذي ينتظر إقراره في البرلمان الإيطالي ودراسته في وزارة الخارجية، يمنح روما ممارسة “حقها” ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة والحق في التنقيب عن الموارد الطبيعية واستغلالها وحفظها وإدارتها، بيولوجية كانت أم غير بيولوجية (في البحر وقاع البحر وباطن تربته)، وحقها في الأنشطة الأخرى المرتبطة بالتنقيب والاستغلال الاقتصادي للمنطقة، مثل إنتاج الطاقة المستمدة من المياه والتيارات ومن الرياح.
كما يُمكن روما من تطبيق القانون الإيطالي وقوانين الاتحاد الأوروبي والمعاهدات الدولية السارية في إيطاليا على الأجانب والسفن الأجنبية داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة، إضافة إلى إعطائها مجالًا أوسع لعملياتها العسكرية البحرية كالتفتيش والمراقبة.
عين على تونس
يعود ترسيم الحدود البحرية التونسية الإيطالية إلى معاهدة 20 أوت 1971، حيث اتفق البلدان على ترسيم حدود بحرية بينهما في الجرف القاري، وأرست المعاهدة حدودًا معقدةً في مضيق صقلية تمثل الحدود خطًا متساوي المسافات معدل بين صقلية وتونس، وتنتهي مباشرة قبل الخط متساوي المسافات بين مالطا والجزر الپلاجية الإيطالية (Isole Pelagie).
المعاهدة بين البلدين خلقت شبه جيب بحري حول جزيرة پانتلريا ”Pantelleria” الإيطالية (13 ميلًا بحريًا لمسافة نصف قطرية)، وشبه جيب آخر خُلق يضم أقواس متداخلة تبلغ 13 ميلًا بحريًا حول جزيرتي لينوسا (Linosa) ولامبيدوسا (Lampedusa) الإيطاليتين، ويتقاطعان أيضًا مع منطقة بطول 12 ميلًا بحريًا حول لامبيوني (Lampione)، يتقاطع الجيبان مع المياه الإيطالية عند خط متساوي الأبعاد، لكنها عدا ذلك محاطة بالمياه التونسية، أما النقطة القصوى غربًا لخط الحدود تشكل النقطة الثلاثية البحرية مع الجزائر.
ورغم أن التقارير لم تشر إلى معطيات دقيقة عن المساحة البحرية التي ستوسع فيها إيطاليا أنشطتها قبالة السواحل التونسية، فإن المعلومات التي تم تداولها على صفحات نواب حركة خمسة نجوم الإيطالية صاحبة مشروع القانون، تؤكد أن الخطوات الإيطالية تهدف إلى تقويض الاتفاق السابق لترسيم الحدود لعام 1971 .
فالخرائط التي تم تداولها مؤخرًا تبين بشكل واضح رغبة الإيطاليين في التمدد البحري وتوسيع أنشطتهم داخل مجالات سيطرة تونس، حيث يشير الخط الوردي المتقطع أمام السواحل التونسية، إلى الحدود الجديدة المقترحة لتوسع النشاط الإيطالي في المياه التونسية.
وإذا كانت الخريطة الأولى قد أوضحت الحدود المقترحة للتمدد البحري الإيطالي التي يُمكن التفاوض عليها مع التونسيين، فإن ما يُثير الاهتمام هي الخريطة الثانية التي اقترحها الضابط البحري المتقاعد كافيو، فالسهم داخل الخريطة يشير إلى منطقة قريبة جدًا من السواحل التونسية، ما يعني أنها جزء من أطماع الإيطاليين للسيطرة على مجالات الصيد الحيوي في المياه الإقليمية التونسية.
مخاوف
من المنتظر أن تتجاوز إيطاليا مياهها الإقليمية إثر مصادقة برلمانها على مشروع إعلان المنطقة الاقتصادية الخالصة، ورغم أنها خطوة تتعارض مع قوانين المياه دولية، فإن روما ستكون قادرة على استغلال الموارد البحرية في نطاق أقصى يبلغ 200 ميل بحري، الأمر الذي سيضر بالمصالح التونسية الحيوية في البحر المتوسط، وهو ما دفع التونسيين إلى رفض التحرك الإيطالي والمطالبة بعدم التفاوض على تعديل اتفاق 1971.
من هذا الجانب، يُمكن القول إن الخطوة الإيطالية على خطورتها لا تُمثل تهديدًا رئيسيًا نظرًا لأن إعادة ترسيم الحدود البحرية يتطلب عملية تفاوضية بين الدول تكون في غالب الأحيان معقدة، حيث يسعى كل طرف لتحقيق مصالحه وفق مبدأ رابح رابح، لكن الإشكال الحقيقي يتلخص في قدرة تونس بحكومتها الراهنة ودبلوماسيتها الهشة على الدفاع عن حقوقها البحرية، خاصة بعدما أثبتت سياستها الخارجية عدم جدواها في الملفات الإقليمية الحارقة.
فتونس كانت خارج دائرة الحراك الدولي في المتوسط طيلة السنوات الأخيرة، حيث لم تتفاعل مع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وحكومة الوفاق في 19 من نوفمبر/تشرين الثاني 2019 وإعلانها بأنها في غنى عن اتفاقية مماثلة مع أنقرة، ولم تعلق على إعلان الجزائر منطقتها البحرية الخالصة من جانب واحد في 2018، وكذلك سار الأمر حينما وقعت الجارة الشمالية إيطاليا اتفاقًا لترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة مع اليونان (في البحر الأيوني الذي يفصل البلدين المجاورين).
بالمحصلة، فإن الحياد التونسي المعهود في الملفات الخارجية التي تروج له الحكومات ما بعد ثورة 14 يناير ، وهو في الحقيقة إرث جمهورية ما بعد الاستقلال، سيضر بالمصالح الإستراتيجية الحيوية للبلاد وحقوقها البحرية في المتوسط، غير أنه في هذه الحالة يبدو أن تونس ترى في المشروع الإيطالي مجرد مناورة للرد على خطوة الجارة الجزائر التي تسعى لتوسيع دائرة استكشافاتها النفطية (الهيدروكربون) في المتوسط وخاصة قبالة سواحل سردينيا، لذلك وجب تحجيم طموحاتها.