لا تتبع ألمانيا علمانية صارمة مثل فرنسا، حيث الفصل المتشدد بين الدولة والدين، بل توضح في دستورها وخاصة المادة 4 من القانون الأساسي على اتباع الدولة “المبادئ العلمانية” مثل حرية الدين ومتطلبات الحياد، دون أن تلزم نفسها بكل منتجات العلمانية كاملة، لكن تبقى علاقاتها بالمسلمين محل الكثير من الجدل.
ماذا يحكي التاريخ؟
على المستوى النظري، تمنح الدولة الألمانية جميع مواطنيها الحرية الدينية الفردية، ولا يجوز على أراضيها إجبار أي شخص على التخلي عن معتقد معين، ولكل فرد الحق في أن يعيش دينه في إطار نظام الدولة، بالإضافة إلى ذلك يجب أن تكون العلمانية الألمانية محايدةً تجاه جميع الأديان، كما يجب ألا تحابي أو تميز ضد أي دين.
لكن كما هو الحال في أوروبا كلها، ترتبط العلمانية الألمانية بالتضييق على القيم الدينية ومنعها من الوصول إلى شبكة العلاقات السياسية والاجتماعية، حيث تعتمد الدولة على مفاهيم العلمنة، للتحديث الشامل والقدرة على العيش تحت سقف جميع الظروف.
نزعت العلمانية في ألمانيا سلطات الكنيسة كما حدث في أوروبا منذ بداية عصر التنوير، لكن يتراوح رفض الدين في المجال العام من مكان إلى آخر في ألمانيا، ويسمى هنا بفجوة العلمنة بين المناطق الريفية والحضرية والزراعية والصناعية، وبين المناطق الكاثوليكية والبروتستانتية.
هذه الفجوة تنعكس حتى على الحياة السياسية، فألمانيا واحدة من أكبر الدول التي شهدت تأسيس أحزاب مسيحية منذ أوائل القرن التاسع عشر، وهذه الأحزاب تعتمد على الأخلاق والمبادئ المسيحية، وتدعو إلى تسويق المناهج المسيحية في الأسرة والسياسة الاجتماعية والتعليمية والسياسة الخارجية وترفض عمليات الإجهاض، كما تسعى إلى إضفاء طابع مثالي على الزواج والأسرة باعتبارها إرادة الله في العلاقة بين الرجل والمرأة.
ويضاف إلى ما سبق، أنها تنقد التحالفات الدولية المتجاوزة للحدود الوطنية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، والمثير للاهتمام أن شعبية الأحزاب السياسية المسيحية هي الأعلى في البلاد، لا سيما الاتحاد المسيحي الديمقراطي (CDU) – الحزب الحاكم حاليًّا – الذي ترأسه أنجيلا ميركل، وهو أكبر حزب سياسي من حيث عدد العضوية بألمانيا.
الإسلام واختبار الألمان
الإسلام في ألمانيا، هو الدين الثاني في البلاد بعد المسيحية، حيث تشكلت الكتلة المسلمة بشكل رئيسي من خلال هجرات الشرق الأوسط ومنطقة البلقان، وشمال إفريقيا منذ النصف الثاني من القرن العشرين، ويمثل السنة الأغلبية الكاسحة، بخلاف ذلك هناك علويون وصوفية وشيعة.
يقدر عدد المسلمين بنحو 4.7 مليون شخص عام 2015 أي ما يعادل نحو 5.7% من السكان، وتتزايد الأعداد بسرعة كبيرة، حيث لم يكن يوجد عام 2008 في ألمانيا إلا ما يقارب 1.8 مليون مسلم من المواطنين الألمان، وباقي المسلمين كانوا من العمال المهاجرين.
لكن التاريخ الحقيقي للإسلام في البلاد يعود إلى القرنين السابع والثامن عشر، حيث ظهرت آنذاك أول نسخة ألمانية من القرآن، فيما تأسس أول مسجد عام 1739، لكن منذ خمسينيات القرن الماضي أعاد المسلمون تنظيم أنفسهم وأقيمت المساجد في هامبورغ وفرانكفورت منهم مسجد الإمام علي الذي أقامه الشيعة عام 1960 ليكون خامس أقدم مسجد في ألمانيا.
وفي عام 2006 انعقد المؤتمر الإسلامي الألماني الأول في برلين، الذي أسس لإقامة حوار مباشر بين الدولة الألمانية والمسلمين في الجمهورية الاتحادية، كما كشف بشكل واضح أن الإسلام يجب أن يصبح جزءًا من ألمانيا ومن أوروبا ومن حاضرهم ومستقبلهم.
في يونيو 2019 ومع تزايد العنف ضد المسلمين والتمييز بحقهم، سارع المسلمون بملاحقة الحكومة الفيدرالية لمعرفة سر تزايد العنصرية والتمييز ضدهم في كل ربوع البلاد، فلا يكاد يمر يومًا واحدًا دون حدوث اعتداء على مساجد ومواقع ورموز دينية خاصة بهم.
لم يتهاون المسلمون في حقهم أمام حالات الأذى الجسدي والتهديدات بإلحاق الضرر بممتلكاتهم، فوثقوا كل ذلك في قضايا بالمحاكم، وأوضح إصرار المسلمين على انتزاع حقوقهم بالقانون أن هناك أذى لا يصدق يقع عليهم، فضلًا عن الحالات غير المبلغ عنها.
إذ يمكن القول إن التسامح الألماني وخصوصية التجربة العلمانية، لم تقلل من الجرائم ضد المسلمين التي أصبحت في ارتفاع مستمر ــ أكثر من 90% ــ منها جرائم بسبب الإسلاموفوبيا والدوافع السياسية، فقد أصبح الهجوم على الإسلام والمسلمين هو البوابة الرئيسية للتنافس على المواقع التنفيذية والهبات السياسية في البلاد.
ومن أسباب تفاقم التحريض على جرائم كره الأجانب، تزايد سيطرة اليمين المتطرف على وسائل الإعلام، ويساهم في ذلك بطء إجراءات الحكومة الفيدرالية في اتخاذ إجراءات حمائية للمسلمين.
تتجاهل الدولة مناشدات العديد من الجمعيات الإسلامية التي دعت كثيرًا إلى توفير حماية للمساجد خوفًا من التهديدات المستمرة، ومن تكتلات اليمين المتطرف، حيث توحدهم المشاعر المعادية للمسلمين، ويدعون إلى التمييز ضدهم في قطاعات التعليم والرعاية الصحية والإسكان وسوق العمل والأماكن العامة.
مقاومة إسلامية
يقاوم المسلمون في ألمانيا الحصار المفروض عليهم من اليمين، فقد أجبرت الدعاوى القضائية الكثيرة والتجريس على السوشيال ميديا الحكومة على تدشين خطة عمل وطنية لمكافحة العنصرية، واعترفت فيها أن ارتداء الحجاب أصبح يمثل عائقًا متكررًا أمام الوصول إلى السلع والخدمات ورفض حصول المسلمين على أي امتيازات على جميع المستويات.
كشفت المقاومة الإسلامية خلل المنهج العلماني في ألمانيا، وأكدت أنه السبب وليس الإسلام، فرغم السماحة التي يوفرها الدستور، فإن التطبيقات على أرض الواقع لا تحمي إلا الهوية المسيحية في حياة الألمان، التي تفاقم من أزمة التعصب تجاه الأقليات وخاصة المسلمين واليهود. وفي هذا الخصوص، يقدم المسلمون توصيات تدعو إلى تأسيس ثفافة مدنية تحسم أزمات التمييز.
لكن كشفت الجهود الإسلامية عن تناقض الحكومة الألمانية، التي تتخوف من اتخاذ أي خطوة نحو تمديد ثقافة المساواة في البلاد، حتى لا تقف الجمعيات الإسلامية على قدم المساواة مع الطوائف الدينية المسيحية في ألمانيا، وتمنحهم نفس المساحة من رعاية الدولة لا سيما فيما يتعلق بالتعليم الديني والرعاية الرعوية في المؤسسات العامة بما يضرب ما تزعمه من قيم علمانية في مقتل.
حاليًّا تكتفي ألمانيا بأدوار متعاونة مع المجتمعات والمنظمات والجمعيات الإسلامية، بالإضافة إلى تبني المبادرات التثقيفية في مجال مكافحة التمييز ومكافحة العنصرية وحقوق الإنسان والحرية الدينية.
الدولة في نفس الوقت لا تلزم المؤسسات بتنفيذ أحكام الدستور، ولا تلتزم إلا بالتوجيه المعنوي الرافض لأي انتهاك
تستند في مواجهة اليمين ـ اليسار الراديكالي على حكم المحكمة الدستورية الفيدرالية الذي أكد أن الحظر الشامل على ارتداء الحجاب على المدرسات في المدارس العامة يتعارض مع القانون الأساسي، ويتعارض مع الحرية الدينية التي يوفرها قانون البلاد.
لكن الدولة في نفس الوقت لا تلزم المؤسسات بتنفيذ أحكام الدستور، ولا تلتزم إلا بالتوجيه المعنوي الرافض لأي انتهاك، ولا تتدخل في الجدل القائم بين الكثير من المتخصصين والمثقفين الذين يرفضون ما يعتبرونه انتهاكًا لواجب الحياد في المجال العام، سواء للمدرسين أم غيرهم، ما يعني أن المسلمين لا يزال أمامهم الكثير لاقتناص حقوقهم عبر كشف المزيد من زيف المبادئ العلمانية في البلاد.