لا يسلم المجتمع الأمريكي من نقيصة الجهل بالإسلام ومبادئه الأساسية، يحدث ذلك دون إعطاء المسلمين حق الرد لتوضيح الأحداث العنيفة أو المشينة التي تربط بالإسلام أو المسلمين، ولماذا “الإرهاب” أبعد ما يكون عن المسلمين، وكيف تساهم القيم العلمانية أحيانًا وربما غالبًا في هذا اللبس.
أبعاد تاريخية
تبنت أمريكا العلمانية بشكل صريح في نهاية القرن الـ19، جاء ذلك بعد فترة من التوترات والانقسام بسبب صعود التطرف في هياكل الدولة، لكن في النهاية نجح الأمريكان في إعادة تنظيم أنفسهم، وتأسس الاتحاد العلماني الأمريكي الذي كرس لتطبيق الفكر الحر في البلاد وفصل الكنيسة عن الدولة ووضع لذلك قيودًا واضحة سُميت بالـ9 شروط الليبرالية.
نصت الشروط على عدم إعفاء الكنائس والممتلكات الكنسية الأخرى من الضرائب ووقف توظيف القساوسة في الكونغرس وفي المجالس التشريعية وفي البحرية والمليشيات وفي السجون والمصحات وكل المؤسسات الأخرى المدعومة بالمال العام.
تضمنت أيضًا وقف جميع الاعتمادات العامة للمؤسسات التعليمية والخيرية ذات الطابع الطائفي وإلغاء جميع الخدمات الدينية التي تدعمها الحكومة، وحظرت استخدام الكتاب المقدس في المدارس العامة، سواء كان ظاهريًا ككتاب مدرسي أم ككتاب للعبادة الدينية.
ألغت الوصايا الليبرالية أيضًا القسم القضائي الديني في المحاكم وفي جميع دوائر الدولة، وبدلًا من ذلك وضعت تأكيدات على البعد المسيحي المتجذر في هوية أغلب السكان.
ألغت الوصايا جميع القوانين التي تطبق بشكل مباشر أو غير مباشر لتطبيق الأخلاق المسيحية على بنية القوانين، وبدلًا منها أسست لما يتوافق مع متطلبات الأخلاق الطبيعية والمساواة في الحقوق والحرية غير المتحيزة.
الدين والعلمانية
رغم هذا الفصل الواضح والتأسيس لعلمانية المؤسسات، فإن كلمة علمانية في أمريكا تعني أشياء كثيرة متناقضة ومتعارضة، فالفصل بين الكنيسة والدولة، الذي تقر به قوانين البلاد لا يعني بالضرورة فصل الدين عن الحياة العامة، على عكس النموذج الأوروبي.
تحضن الثقافة الأمريكية المعتقد الديني وفق علاقة قائمة على التنافس والصراع، والدستور نفسه يوضح أن المجتمع يتكون من مجموعات تعبر عن مصالح متنافسة وتلعب بشكل منهجي ضد بعضها البعض، حتى تصبح في المستقبل قوى موازنة تمسك بعضها البعض.
الخلطة الأمريكية نظريًا حاولت الاستفادة من حروب دينية مدمرة خاضها الغرب في القرن السادس عشر، ولهذا وُضع التسامح ضمن أهم أضلاع بناء الدول الحديثة، إذ لا يكفي الاعتماد على الدين وحده في تأسيس النظام وتشكيل الثقافة العامة، وبالتالي تستفيد البلاد من قوة الدين وليس من ضعفه.
لكن الالتباس في فهم معنى التنافس وتهميش صلاحية الدولة في التدخل لضبط الموازين، أدخل البلاد في منحنيات كبرى، تشهد على ذلك حركة الحقوق المدنية التي دخلت في صراع مع تفاصيل مأزومة في الواقع، من أجل إقرار عدالة اجتماعية والحصول على حقوق متساوية للجميع بموجب القانون، لا سيما أن الحرب الأهلية الأمريكية أنهت العبودية رسميًا، لكنها لم تضع حدًا للتمييز ضد السود.
كان مارتن لوثر كينج أحد أهم الشخصيات التي ناضلت في سبيل الحرية وحقوق الإنسان في التاريخ الإنساني وليس الأمريكي فقط، وكان يؤكد أنهم بالحركة المدنية في مهمة مقدسة لإنقاذ أمريكا، لكنه ودون أن يقصد كشف في الوقت نفسه جنوح المجتمع للتمييز ضد المختلف وهي منغصات ضاربة في عمق تاريخ البلاد، ولم توفر لهم العلمانية الحماية بالعكس استخدمت كثيرًا في التمييز ضد الأقليات وقمع حريتهم.
أمريكا والإسلام
يعتبر الإسلام ثالث أكبر ديانة في الولايات المتحدة بعد المسيحية واليهودية، وبحسب إحصاءات عام 2017 يوجد على أرض الولايات المتحدة نحو 3.45 مليون مسلم 1.1% من إجمالي سكان البلاد.
مركز بيو للأبحاث، وجود ثلاث مجموعات فرعية، هي السنة 65% والشيعة 11% ومسلمون لم يصنفوا أنفسهم مذهبيًا بنحو 24%، نصف هذا العدد من مواليد البلاد بينما النصف الآخر ولدوا في الخارج، وتبلغ نسبة الأمريكيين الأفارقة الذين يدينون بالإسلام نحو ربع إجمالي السكان المسلمين، منهم من اعتنق الإسلام خلال السبعة عقود الماضية.
يعود تاريخ المسلمين في أمريكا إلى القرن التاسع عشر، معظمهم كانوا من التجار والمسافرين والبحارة، لكن ازداد عددهم بشكل كبير في القرن العشرين، بسبب معدل المواليد المرتفع نسبيًا والهجرة من الشرق الأوسط وإفريقيا وجنوب شرق آسيا.
يعيش المسلمون في أمريكا حياة ليست صعبة إلى حد كبير، ومن السهل رؤية الملابس المحتشمة والحجاب في مناطق مختلفة من الولايات المتحدة وكذلك المنتجات الحلال، كما توجد كلية فنون ليبرالية إسلامية في بيركلي وكاليفورنيا، ومدرسة دراسات عليا في كليرمونت وكاليفورنيا، ويزدهر النشاط المجتمعي ويقيم النشطاء المسلمون تحالفات مع المجتمعات المهمشة الأخرى.
صعد العديد منهم إلى مراتب متقدمة من الحياة العامة، منهم من وصل للبرلمان مثل الصومالية الأمريكية إلهان عمر التي ترتدي الحجاب في مجلس النواب الأمريكي عن ولاية مينيسوتا، وهناك مسلمان غيرها في الكونغرس.
خاض البعض الآخر انتخابات الكونغرس للعام الحاليّ، وتعتبر مدينة كاليفورنيا أفضل واحات التعددية في البلاد التي تكافح دائمًا لخلق بيئة تتمتع بترحيب غير متحفظ للجميع، بما يمكنهم من تحقيق طموحاتهم وبشروطهم الخاصة.
علاقة مهتزة
لكن هذه الطفرة في حياة المسلمين بأمريكا لا تقول إن كل شيء على ما يرام، فالعلاقة مهتزة للغاية منذ أحداث 11 سبتمبر، حيث ينظر للمسلمين من وقتها بريبة كبيرة، وزاد من هذه الأزمة لعب الساسة على إزكاء المخاوف من الإسلام في محاولة للاستفادة من الصدمة الكبرى للجمهور مما حدث، وهو ما ساعد على تنامي المواقف السلبية تجاه الإسلام والمسلمين.
يساعد في نمو هذه الإشكالية عقلية العناد المعروفة عن الشخصية الأمريكية، التي تجعلهم يتمسكون بما لديهم من صور نمطية سلبية عن المسلمين دون إعطائهم حق الرد أو إعادة النظر في التفسيرات التي تطرح من المسلمين لتوضيح ما يحدث من إرهاب، ولماذا هو أبعد ما يكون عن المسلمين.
يخلط الكثير من الأمريكين بين المسلمين والإرهاب، ظاهرة الهوس باستغلال هذه الظاهرة لزيادة الشعبية السياسية والاجتماعية تتنامى بسرعة، والكثير يتربح من الإيحاء بأن الأقليات على شاكلة المسلمين في حاجة ماسة لمراقبة صارمة.
هذه الاضطرابات التي تهدم أسس العلمانية ومزاعمها، كانت الأساس الذي صنع عليه قانون باتريوت، وهو تشريع قاسٍ يزعم توحيد وتقوية أمريكا عبر توفير الأدوات المناسبة لاعتراض الإرهاب وعرقلته من خلال توسيع قواعد الاشتباه وتكبيل الحريات.
لا يتخلى الجيل الثاني من المسلمين عن التمسك بدينهم ويلاحظ أنهم الأكثر دفاعًا عن قيمهم الإسلامية
يوفر القانون الحماية التشريعية لمراقبة المسلمين والمساجد والمدارس الإسلامية والمنازل الخاصة دون غيرهم، مما يفتح أبواب محاكم التفتيش على مصراعيها للتنقيب في النوايا والضمائر، وهو ما أدى تلقائيًا إلى زيادة حادة في جرائم الكراهية ضد المسلمين.
ويمكن القول إن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش، كان صاحب المبادرة في هذه الهستيريا من خلال تبنيه ضرب بلدان إسلامية لمحاصرة “الإرهاب” ومن يوفر له المأوى، ولم يكتف بذلك بل هدد بشكل واضح الدول ذات الأغلبية المسلمة التي خيرّها إما بالتعاون مع واشنطن وإما التعرض للقصف وإعادتها إلى العصر الحجري.
الإسلام أقوى
رغم كل هذه التعقيدات، لا يتخلى الجيل الثاني من المسلمين عن التمسك بدينهم ويلاحظ أنهم الأكثر دفاعًا عن قيمهم الإسلامية حتى من آبائهم الذين هاجروا إلى أمريكا، حيث يجد الجيل الأصغر نفسه أقوى وأكثر حجة بحكم تربيته المنفتحة على شرح مفردات الإسلام والدفاع عنه.
يرفض شباب المسلمين الاستسلام إلى بيئة علمانية تتزايد فيها حدة العداء له، ويتبنون إستراتيجية دفاعية تجعل من التمسك بالدين رأس حربة عدالة قضيتهم، ولا يتنازلون أمام أي انتهاك، ويثبت ذلك تعدد القضايا المرفوعة أمام القضاء من أجل حق بناء المساجد ودور العبادة.
يقاتل المسلمون الأمريكيون من أجل تمكينهم في المجتمع على أسس الحرية والمساواة الكاملة، وخاصة الذين ولدوا بأمريكا ولا يعرفون وطنًا غيرها، ويدفعهم إيمانهم الواسع بالحريات للجميع، غلى الإصرار على مبادئ عقيدتهم، ولهذا يرفضون التنازل عن حقهم مهما كانت الضغوط العالمية والداخلية.