لن يكون بإمكان مايك بومبيو، آخر وزير خارجية أمريكي لحقبة هي الأكثر سخونة في تاريخ البلاد والعالم الاستمرار بعد رحيل كبيره الذي علمه السحر دونالد ترامب إثر خسارته في الانتخابات الأمريكية أمام جو بايدن، العجوز الديمقراطي الذي اختار بدوره الليبرالي الناعم توني بلينكين، صاحب العبارات المختلفة والذي يجيد التعامل مع الجميع، لكن هل ستختلف أجندته عن سلفه، أم يكمل كل منهما الآخر؟!
إرث بومبيو
كل ما يمكن تذكره لوزير الخارجية المنتهية ولايته مايك بومبيو، أنه رجل بلا موقف، كان يتحرك دائمًا في ضوء نفسية ترامب، يشير بالعصا الغليظة لإيران عندما يغضب رئيسه، ويفتح ذراعيه لـ”إسرائيل”، ويوفر لها كل ما يمكن إذا انحاز ترامب لذلك.
لعب بومبيو على أزمات ترامب مع ريكس تيلرسون وزير الخارجية الذي سبقه، وكان في حالة صراع دائم معه، غيّر بومبيو روتينه اليومي بذكاء حتى يتمكن من إطلاع الرئيس دون وسيط على معظم أنشطته، وبالتالي أصبح يستحوذ على قدر هائل من وقته.
اصطف بومبيو مع ترامب في رؤيته للشرق الأوسط، جمع وزير الخارجية بين الدبلوماسية والخداع، واستفاد من وظيفته السابقة كمدير لوكالة المخابرات المركزية، لهذا تجاهل تنفيذ أي مهام للأدوار التاريخية للوزارة في دعم حقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية ودعم اللاجئين ومساندة المنظمات الدولية، بل الأغرب أنه تحول للعمل بمنهجية ضد هذه الملفات، حتى يصبح ظل المشروع الترامبي في الحكم، على أمل الانتظار معه حتى آخر لحظة ممكنة.
على مستوى الملفات العربية، اتبع بومبيو منطق ترامب في الولاء المطلق لـ”إسرائيل”، فتفرد لنفسه بلقب أول وزير خارجية أمريكي يزور مستوطنة يهودية في الضفة الغربية تم احتلالها، ووضع بصمته في تبني الرؤى التوسعية لليمين الإسرائيلي، كما رفض العمل برأي الخبراء القانونيين بوزارته الذين أكدوا له أن المستوطنات تتعارض مع القانون الدولي.
شارك بومبيو مع ترامب خلال لحظة إعلانه اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان المحتلة التي استولت عليها “إسرائيل” خلال صراعها ضد البلدان العربية عام 1967 ولم تتركها حتى الآن، كما منح الشرعية للمنتجات التي تصنعها المستوطنات، التي كانت تروج سابقًا في أسواق الولايات المتحدة والعالم الغربي تحت عبارة صنعت في الضفة الغربية، وأصبحت الآن تحمل عبارة صنع في “إسرائيل”، وإن كانت أوروبا ما زالت ترفض ذلك.
بارك الخطط الإسرائيلية التي تسعى إلى ضم جزء كبير من الضفة الغربية، حتى يخلق أزمة لبايدن في أمريكا إذا تراجع عن دعم سياسة الاستيطان التي ينتهجها ترامب، مع أنه حتى الآن لم يقدم أي اعتراف لبايدن بالفوز ويقف خلف ترامب لآخر لحظة، فالمصالح بينهما لن تنتهي عند خروجهما معًا من السلطة.
مقاس واحد بخطاب مختلف
رغم الخلفية المختلفة لوزير الخارجية القادم مع إدارة جو بايدن، توني بلينكين، على مستوى التوجه الأيدولجي والخبرات، فهو ليبرالي وعمل مساعدًا لوزير الخارجية خلال حقبة أوباما، أي يعرف جيدًا ماذا تعني الدبلوماسية بعكس بومبيو القادم من خلفية استخباراتية أمنية، فإنه لن يختلف عنه كثيرًا على مستوى التخطيط طويل الأجل للوزارة وأهدافها.
يؤمن بلينكين بعالمية الولايات المتحدة انطلاقًا من تأمين مستقبل الشعب الأمريكي، فالأصدقاء والشركاء والحلفاء أمر حيوي حسب معتقداته الفكرية، لكنه في الوقت نفسه يؤمن بمنطق ترامب وبومبيو في الولاء المطلق لـ”إسرائيل”، ليس فقط للخلفية الثقافية والالتزام التاريخي بأمن الكيان العبري، لا هو أيضًا لديه جذور يهودية ضاربة ووالداه يهوديان.
يرتبط وزير الخارجية الجديد عاطفيًا وعائليًا بالمحرقة النازية، فمن الذين نجوا منها أحد أقاربه – زوج والدته – صموئيل بيسار الذي كتب مذكرات بعنوان “عن الدم والأمل” بشأن كيف نجا من النازيين، بما في ذلك الوقت الذي قضاه في معسكرات الموت في مايدانيك وأوشفيتز وداشاو.
يعتقد بلينكين أن السفارة الأمريكية يجب أن تكون في القدس وليس في تل أبيب، وسبق أن تهرب من أسئلة صحفية عن إن كان لديه خطط لتغير هذا الوضع أم لا، يعرف الوزير الجديد أن تصرف مثل هذا حتى ولو لم يكن يدعمه فإنه قد يكلفه كثيرًا بخسارة المسيحيين الإنجليين، الأكثر تشددًا في حقوق “إسرائيل” من اليهوديين أنفسهم.
وبالتالي لن يستطع المساهمة بأي شكل في إعادة الحياة لمشروع الدولة الفلسطينية، ولا حتى إدانة المستوطنات الإسرائيلية، ومسيرته خلال الحملة الانتخابية لبايدن تؤكد ذلك، إذ قدم بنفسه وهو الأكثر موثوقية في إدارة بايدن طمأنة للجماهير اليهودية، وأكد لهم أن الرئيس الجديد لن ينشر خلافات بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” ولن يربط أبدًا المساعدة العسكرية لها بأي سياسة إسرائيلية محددة.
زايد بلينكين على إدارة ترامب ورفض قرارها بالموافقة على تمرير مقاتلات إف 35 للإمارات كثمن لصفقة التطبيع معها، واعتبر أن هذا الجيل من المقاتلات يجب أن يكون مخصصًا لـ”إسرائيل” حصرًا في الشرق الأوسط.
لم يتوقف بلينكين هنا عند حد الاعتراض، بل ألمح في تصريحاته لصحف إسرائيلية إلى أهمية إعادة نظر الإدارة التي سيعمل بها في هذا القرار بجدية وربما يساهم في الضغط لإلغائه من أجل الحفاظ على التفوق العسكري لـ”إسرائيل” في المنطقة، على الرغم من ترحيب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه بيني غانتس في بيان رسمي بالصفقة وعدم معارضتهما لها.
الربيع العربي
يسعى وزير الخارجية الجديد إلى تعظيم نفوذ بلاده في الصراع السوري ولا يتردد في إباحة التدخل العسكري، من نفس الأرضية يدعم التدخل العسكري الأمريكي في ليبيا، وهي مواقف ليست جديدة عليه، إذ سبق وأيد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، فالدعم العسكري في عقيدته المهنية جزء مما يسميه تكميل الدبلوماسية بالردع.
يحصن بلينكين نفسه بأجندة بايدن التي يعمل في ضوئها ونشرها موقعه الرسمي، وتكشف عن أهداف ليست بعيدةً عن سلفه، لكن طريقة بلينكين ستراعي الحلفاء العرب ومشاعر الشعوب الإسلامية، وإضافة مساحيق تجميل أخلاقية لسياساته الخارجية بالمساهمة في تقويض القبضة الحديدية لبعض الرؤساء العرب في التعامل مع شعوبهم.
سيولي وزير الخارجية الجديد بعض الأهمية لعدد من الملفات التي لم يعد يسمع العالم بها في الخطاب الأمريكي منذ تولي ترامب مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام الحقوق المدنية، في النهاية هناك مصلحة أيدلوجية لأفكاره، إذ يسعى لإثبات أن الأممية الليبرالية إستراتيجية أفضل من القومية الشعبوية التي عمل عليها ترامب.
ضمن المصالح الأيدلوجية أيضًا لوزير الخارجية الجديد، التأكيد على هيمنة مدارس الفكر الإصلاحية في السياسة الأمريكية التي ينتمي إليها فريقه، فهو يفضل عبارات مثل المنافسة عن الصراع عندما يتحدث عن روسيا والصين، ويفضل التدخل لصالح الطبقات الوسطى ويسعى لإرضاء الشعوب في العالم، عن رعاية كبار الرأسماليين كما كان يفعل ترامب.
لكن هذا لا يعني أن السياسة الخارجية ستكون أخلاقيةً ومبدئيةً فقط، بل هي دائمًا في أعراف الديمقراطيين تخدم في المقام الأول الأهداف الاقتصادية والسياسية المحلية لبلادهم التي يجب أن تتعارض دائمًا مع أي قبضة استبدادية لا تخدم الأيدولوجيا الأمريكية في الحكم.
يؤكد وزير الخارجية الجديد أنه يستطيع العمل في ضوء هذه السياسيات، لكن دون أن يعرض مصالح بلاده مع التحالفات الجديدة في المنطقة للخطر، فهو لا يجد حرجًا في الكشف عن براغماتيته الشديدة وإيمانه بأهمية وجود شبكة علاقات من الأصدقاء والحلفاء الأقوياء حول العالم، لتقويه موقف بلاده في الصراع التنافسي مع الصين وروسيا، فضلًا عن التخديم على أجندة الليبراليين في خفض الإنفاق الدفاعي المرتفع.
استعراض المواقف بين الماضي واللاحق في أجندة الخارجية الأمريكية خلال عهدي ترامب وبايدن، يؤكد أن الخلافات في الرؤى والمواقف لا تعني أن الأجندة بعيدة من هذا إلى ذاك، ففي الغالب لن يقدم بلينكين إلا اختلافات بسيطة في الإدارة، تصحح فقط الفضاء الأيدولوجي الذي هدمه ترامب، والتربح بأقصى قدر ممكن في المستقبل، لا سيما أن شعبية ترامب أصبحت شبحًا أيدلوجيًا مخيفًا لمنهجية الحكم الليبرالية في أمريكا.
بخلاف ذلك، لن يكون هناك اختلافات ملموسة عن أهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة التي دشنها وزير الخارجية الحاليّ للتعامل مع المنطقة العربية وفي القلب منها القضية الفلسطينية.