يعد موقف جنوب إفريقيا تجاه القضية الفلسطينية أحد أبرز المواقف الإيجابية في القارة الإفريقية الداعمة لحقوق الفلسطينيين، وبينما تهرول بعض العواصم العربية للتطبيع مع دولة الاحتلال كانت بريتوريا الأكثر اتزانًا في هذا المضمار الذي شهد موجات متتالية من المد والجذر على مدار سنوات طويلة مضت.
يتعامل البلد الإفريقي مع “إسرائيل” بثنائية السياسة والاقتصاد في آن واحد، فالمصالح هي القبلة التي تحدد الأهداف وتبني ملامح السياسة الخارجية وخريطة التحالفات الدولية، وعليه خطت العلاقات في مسارين متوازيين: مسار سياسي وآخر اقتصادي، ورغم التعارض بينهما في كثير من المواقف، فإن كلاهما يقود لنفس النتيجة.
ورغم تخلص جنوب إفريقيا من براثن نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) الذي جثم على صدور الشعب لعقود طويلة، بدايات تسعينيات القرن الماضي، فإنه من الواضح لم يتم التخلص كليًا من تفاصيل حزمة القوانين التمييزية، حيث ورثت البلاد بعض الذيول التي لا تزال آثارها باقية حتى اليوم رغم مرور قرابة 30 عامًا على إلغائها.
ومن أبرز المؤشرات على بقاء آثار تلك الحقبة العنصرية في هذا البلد الإفريقي الازدواجية الواضحة في قضية منح التأشيرات، ففي الوقت الذي تفرض فيه العراقيل والعقبات أمام منح الفلسطينيين تأشيرات الدخول يُفتح الباب على مصراعيه أمام الإسرائيليين للدخول دون تأشيرة.
ازدواجية في التعامل
إن كنت إسرائيلي الجنسية وحاملًا لجواز سفر إسرائيلي يمكنك دخول جنوب إفريقيا في دقائق معدودة، فقط عليك الذهاب إلى المطار وختم الجواز دون الحصول على أي تأشيرة، أما إن كنت من الفلسطينيين حاملي الوثائق، فالأمر ليس سهلًا، فأمامك ماراثون طويل من الإجراءات التي يجب اتباعها أولًا قبل الحصول على تأشيرة الدخول.
وتبدأ الإجراءات بالتقدم أولًا للحصول على التأشيرة، وهو الطلب الذي يستغرق وقتًا طويلًا للرد عليه، وفي حال الموافقة، فعلى الفلسطيني أن يتقدم ببعض الأوراق الثبوتية التي تضمن عدم دخول البلاد إلا للقادرين على تحمل أعباء الإقامة فيها، نفقة وقدرات صحية، كتقديم دليل على التأمين الطبي وإثبات حجز فندق وإثبات أن لديهم أموالًا كافية لإقامتهم.
وفي حال الإخلال بأي من تلك الأوراق يرفض الطلب، هذا في الوقت الذي لا ينطبق فيه ذلك على الإسرائيليين، وهو ما دفع العديد من الكيانات الحقوقية إلى استنكار تلك الازدواجية التي تعكس صورة سلبية عن النظام الذي طالما عانى من تمييز عنصري ضد شعبه لسنوات طويلة.
مدير مركز الدراسات الشرق أوسطية الإفريقية نعيم جينا يرى أن المكاسب التي تحصل عليها دولة الاحتلال من جنوب إفريقيا ومنها الإعفاء من التأشيرات، هي في حقيقتها مخلفات مرحلة الفصل العنصري التي مرت بها البلاد التي يبدو أنها لم تتغير رغم التطورات الديمقراطية والسياسية والفكرية التي شهدتها جنوب إفريقيا
جينا يعتبر أن تلك الازدواجية تتعارض مع روح حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (الحزب الحاكم في البلاد) بجانب أنها تتعارض مع مواد الدستور، خاصة أن التجارب السابقة كشفت تعرض العديد من مواطني جنوب إفريقيا لممارسات عنصرية ومضايقات داخل “إسرائيل”، فيما تم حبس بعضهم، ورُحل آخرون من بينهم مسؤولين في حكومة البلاد حين أرادوا زيارة فلسطين، وذلك وفق تصريحاته للجزيرة.
ما يتحقق على أرض الواقع من تعميق للعلاقات الفلسطينية الجنوب إفريقية لا يتناسب مطلقًا مع التصريحات الإعلامية والمواقف السياسية التي تصدر إما عن سياسيين مسؤولين في الحكومة الإفريقية وإما عن تيارات المعارضة الداعمة للقضية الفلسطينية.
القضية الفلسطينية.. حضور نسبي
تحتل القضية الفلسطينية مكانة بارزة نسبيًا داخل الشارع الجنوب إفريقي، فهناك ميل إلى حد ما مع الشعب الفلسطيني المسلوب حقه على أيدي دولة احتلال، هذا بخلاف ما يتعرض له الفلسطينيون من انتهاكات عنصرية على أيدي المحتل الإسرائيلي وهو ما يعيد الشعب الإفريقي إلى ذكريات أليمة مضت، ومن هنا يأتي التعاطف.
كما كانت جنوب إفريقيا بعد تخلصها من نظام الفصل العنصري من أوائل دول إفريقيا التي اعترفت رسميًّا بدولة فلسطين، ودخلت في علاقات دبلوماسية مع تمثيل على مستوى السفراء بينهما، وقد تعززت تلك العلاقات بشكل كبير مقارنة بالدول الأخرى، ومنها دول عربية.
لكن في المقابل فإن ما يتحقق على أرض الواقع من تعميق للعلاقات الفلسطينية الجنوب إفريقية لا يتناسب مطلقًا مع التصريحات الإعلامية والمواقف السياسية التي تصدر إما عن سياسيين مسؤولين في الحكومة الإفريقية وإما تيارات المعارضة الداعمة للقضية الفلسطينية.
والمتابع الجيد لمواقف حكومة جنوب إفريقيا المعلنة يجد أنها تخالف بشكل أو بآخر الشعارات الإعلامية التي تُرفع بين الحين والآخر، حتى حين سحبت سفيرها من تل أبيب وخفضت حجم التبادل الدبلوماسي بين البلدين، عقب عدوان “إسرائيل” على المتظاهرين في غزة عام 2008 لم يؤثر ذلك على مستوى العلاقات الإسرائيلية الجنوب إفريقية.
سياسيون يرون أن ازدواجية التعامل مع الفلسطينيين والإسرائيليين فيما يتعلق بقضية التأشيرات والإصرار على التفرقة بينهما يضع حكومة بريتوريا في موقف حرج للغاية، كونها مشاركًا نشطًا في الاحتلال الإسرائيلي الظالم للأراضي الفلسطينية وداعم أساسي للسياسات العنصرية المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني.
السفيرة الفلسطينية في جنوب إفريقيا حنان جرار طالبت برفع تأشيرات الدخول للبلد، بحيث يستطيع حامل الوثيقة والجواز الفلسطيني الدبلوماسي أو العادي التنقل من وإلى جنوب إفريقيا بسهولة، لافتة إلى أنها لا ترغب في مقارنة بين الوضع الفلسطيني والإسرائيليين، كون ذلك نظام قائم على احتلال عنصري مستمر، في إشارة للنظام الجنوب إفريقي.
وألمحت إلى أنها كانت قد تقدمت في 2017 بطلب لإعفاء الفلسطينين من تأشيرات الدخول للدولة الإفريقية، ثم أعادت تقديم الطلب مرة أخرى في 2018 وتواصلت مع الحكومة للتأكيد عليه، لكن دون رد يذكر، كما التقت مارس/آذار الماضي بوزير داخلية جنوب إفريقيا ونائبه، ليخبراها بأن الأمر قيد الدراسة، مع الوضع في الاعتبار أن دولًا أخرى تقدمت بذات الطلب في نفس الوقت وحصلت على الإعفاء، وهو ما يثير الشكوك في نوايا حكومة بريتوريا، على حد قولها.
ملف التأشيرات وضع الحكومة الإفريقية في موقف حرج للغاية، ازدواجية تثير الشكوك في المواقف السياسية الإيجابية تجاه القضية الفلسطينية
تأرجح في العلاقات
مرت العلاقات بين البلد الإفريقي و”إسرائيل” بمرحلتين أساسيتين، الأولى قبل الفصل العنصري، حيث كانت من بين الدول الـ33 التي صوتت لصالح خطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين 1947، التي كان من بين وصاياها تأسيس دولة ليهود العالم في قلب فلسطين، كما كانت إحدى دول الكومنولث التي أيدت تلك التوصية.
وفي 24 من مايو/أيار 1948 وبعد 9 أيام فقط من إعلان دولة الاحتلال اعترفت حكومة جان سمتس الجنوب إفريقية، المناصر القديم للصهيونية، بتلك الدولة الناشئة على أنقاض شعب بأكمله، هذا بخلاف العمق الاجتماعي في تلك العلاقات، حيث احتضنت جنوب إفريقيا ما يزيد على 110 آلاف يهودي فوق أراضيها من بينهم 15 ألف إسرائيلي.
أما المرحلة الثانية فكانت بعد سقوط نظام الفصل العنصري بدءًا من 1990، حيث اتسمت العلاقات مع طرفي النزاع في الصراع العربي الإسرائيلي، فلسطين و”إسرائيل”، بالتوازن، وإن كان الخط الأبرز شعبيًا يميل نحو الجانب الفلسطيني، كونه صاحب الحق المظلوم في تلك المعادلة.
وفي الـ5 من أبريل/نيسان 2019 قررت بريتوريا سحب سفيرها من تل أبيب بشكل دائم، كخطوة أولى نحو تخفيض التبادل الدبلوماسي بينهما، تنفيذًا لتوصية من حزب المؤتمر الإفريقي (الحاكم) عقب العدوان الغاشم الذي شنته القوات الإسرائيلية على المتظاهرين الفلسطينيين في غزة عام 2008، لكن ليس لذلك أي تأثير على حجم العلاقات الاقتصادية بين البلدين التي تشهد انتعاشة كبيرة مقارنة بمحدوديتها مع الجانب الفلسطيني.
وفي الأخير فإن ملف التأشيرات وضع الحكومة الإفريقية في موقف حرج للغاية، ازدواجية تثير الشكوك في المواقف السياسية الإيجابية تجاه القضية الفلسطينية، وهي المواقف التي يتهمها البعض بأنها لا تتناسب مطلقًا مع التصريحات الإعلامية الصادرة في هذا الشأن، فهل ينجح البلد الإفريقي في إزالة تلك الشكوك أم يُبقي عليها؟ هذا ما سيجيب عنه التعاطي مع طلب السفيرة الفلسطينية في جنوب إفريقيا بشأن إعفاء الفلسطينيين من تأشيرات الدخول.