ترجمة وتحرير: نون بوست
في أغسطس/ آب 2020 وبينما كانت الصحافة الدولية تتداول أخبارًا حول تصعيد التوتر في مياه شرق البحر الأبيض المتوسط بسبب الخلافات حول ترسيم الحدود البحرية بين تركيا من جهة واليونان وقبرص من جهة أخرى، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن اكتشاف حقل غاز طبيعي ضخم في البحر الأسود. يبلغ حجم احتياطي الغاز المعلن عنه 320 مليار متر مكعب، وقد اكتشفت 85 مليار متر مكعب إضافية – وهو أكبر اكتشاف من نوعه في تاريخ تركيا وسيكون له انعكاسات إيجابية حقيقية على اقتصادها. لم تتردد الحكومة التركية في التعبير عن بوادر التفاؤل، لدرجة دفعت البعض إلى تشبيه البحر الأسود ببحر الشمال الجديد.
ماذا يعني هذا الاكتشاف لسياسة الطاقة التركية؟ وإلى أي مدى يمكن لهذه النتائج أن تغير التوازنات الجيوسياسية الإقليمية؟ تحاول هذه الدراسة الإجابة عن هذه الأسئلة. بعد وصف أهمية هذا الاكتشاف، يرد تقييم موجز لوضع سوق الغاز وتأثيره على سياسات الطاقة التركية. وبناءً على هذه الاعتبارات، يتبين إلى أي مدى سوف تغيّر احتياطيات الغاز الجديدة الموقع الجيوسياسي لتركيا.
موقع صقاريا
يقع حقل غاز صقاريا على بعد 160 كيلومترًا من الساحل التركي تقريبًا داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة التركية (الشكل 1). ويبلغ إجمالي الاحتياطي المتوقع لحقل صقاريا المعروف باسم تونا-1 حوالي 405 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي، وهو قادر على تغطية الاستهلاك السنوي كاملا للبلاد – الذي يتراوح بين 40 و45 مليار متر مكعب – طيلة تسع أو عشر سنوات. إن هذا الاحتياطي لا يُستهان به وتبلغ قيمته حسب الأسعار الحالية أكثر من 75 مليار دولار.
موقع حقل غاز صقاريا في البحر الأسود
أعلنت الحكومة أن استغلال هذا الحقل سينطلق بحلول سنة 2023، وهو تاريخ يكتسي دلالة رمزية كبيرة بالنسبة للأتراك حيث يصادف الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية. بحلول ذلك الوقت، سيكون الإنتاج الأولي ما بين خمس وعشرة مليار متر مكعب سنويا، ولن يبلغ طاقة الإنتاج القصوى التي تقدر بـ 15 مليار متر مكعب في السنة إلا في سنة 2026، وهو ما يغطي 30 بالمئة من احتياجات الدولة.
وفقا للحكومة التركية، قد يكون اكتشاف هذا الحقل مجرد البداية بالنسبة لتركيا، حيث تستمر أعمال التنقيب في المنطقة على أمل الوصول إلى المزيد من الاكتشافات. ولا يزال تنقيب في البحر الأسود في مراحله الأولى وهناك دراسات تقدر أن احتياطيات الميثان ككل قد ترتفع إلى أكثر من 70 تريليون متر مكعب.
يمثل هذا الاكتشاف الهام نجاحًا كبيرًا لمؤسسة البترول التركية (TPAO) التي تعتبر المالك الرئيسي للحقل بشكل كامل. وقد بدأت الشركة الحكومية منذ سنة 2004 في تنفيذ عمليات تنقيب مكثفة في مياه البحر الأسود. وتخطط هذه الشركة للتفرد بحقوق استغلال حقل تونا-1 على الرغم من أن افتقارها للخبرة في العمليات العميقة (4775 مترًا) قد أثار العديد من الشكوك بشأن قدراتها الفنية. لذلك، أكدت المصادر الحكومية أنه من المتوقع الاستعانة بالشركات الأجنبية حسب الضرورة.
على أي حال، من شأن الاكتشاف التركي الجديد أن يعطي دفعة حقيقية للسياسة الوطنية للطاقة والتعدين لسنة 2017 ودعم السياسة الخارجية الحازمة بشكل متزايد، التي تهدف للحد من الاعتماد على واردات الطاقة كخطوة أولية لتحقيق الاكتفاء الذاتي، وذلك إدراكا لقصور قطاع الطاقة الوطني في تلبية متطلبات الاقتصاد. تحقيقا لهذه الغاية، تقوم هذه السياسة على استراتيجيات تسعى بشكل عام إلى تعزيز أمن الطاقة وضمان تنمية موارد الطاقة، ودعم إصلاحات أسواق الطاقة من أجل جعلها تنافسية ومتحررة وشفافة وقوية من الناحية المالية. يمثل الغاز الطبيعي حوالي 25 بالمئة من استهلاك الطاقة في تركيا، لذلك لا شك أن تأثيره على سياسة الطاقة الوطنية كبير.
الغاز الطبيعي في سياسة الطاقة التركية
تحاول استراتيجيات السياسة الوطنية التركية تحقيق العديد من الأهداف التي من الممكن تجميعها ضمن خطوط العريضة التالية:
1. الحد من الاعتماد على واردات الطاقة
2. تنويع مصادر الإمداد
3. زيادة قدرة شبكة التوزيع، بما في ذلك تطوير قدرات معالجة الغاز الطبيعي المسال
4. زيادة سعة التخزين
5. تحرير سوق الغاز
في حال نجحت تركيا في تحقيق هذه الأهداف، من المتوقع أن يحدث انخفاض في إنفاق الحكومة على الطاقة، وهو العامل المسؤول إلى حد كبير عن عجز الميزانية الذي وصل في سنة 2019 إلى 21 مليار دولار (أي ما يقرب من 3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي) بينما قدر في النصف الأول من سنة 2020 بنحو 16.7 مليار دولار.
الحد من الاعتماد على واردات الطاقة
مع إنتاج لا يكاد يغطي واحد بالمئة من احتياجات البلاد، تضطر تركيا سنويا لاستيراد معظم الغاز الذي تستهلكه.
تطور استهلاك الغاز الطبيعي
سمح تطوير السياسات التي تشجع على استخدام الموارد الذاتية، بما في ذلك اللجوء إلى الطاقات المتجددة (التي استأثرت بنسبة 48 بالمئة من إنتاج الطاقة الكهربائية في سنة 2019)، وزيادة كفاءة الطاقة في تقليل واردات الغاز بنسبة 10 بالمئة خلال السنة الماضية. وتشير البيانات المتاحة حتى الآن لسنة 2020 إلى أنه بسبب وباء كوفيد-19، عانى الطلب أيضًا من انكماش كبير ومن المحتمل أن يستمر في التراجع.
رغم الإنجازات التي حققتها هذه السياسات، يظل نقص الموارد نقطة الضعف الحقيقية في الاستراتيجية الهادفة للحد من الاعتماد على الواردات. لهذا السبب، تكتسي أعمال التنقيب في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود أهمية خاصة. منذ سنة 2017، قامت مؤسسة البترول التركية بتكثيف أشغال التنقيب، بفضل سفينتي الأبحاث والمسح السيزمي “بربروس خير الدين باشا” و”أوروتش رئيس”، وثلاث سفن للحفر والتنقيب “فاتح” و”يافوز” و”كانوني” (التي تم دمجها في العملية سنة 2020). وقد نجحت سفينة فاتح بالتحديد في اكتشاف حقل تونا-1 وتواصل أنشطتها حاليًا في حقل صقاريا ومن المنتظر أن تنضم إليها سفينة كانوني قريبًا.
نشاط سفن التنقيب والمسح السيزمي ومنصات الحفر المملوكة لشركة مؤسسة البترول التركية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020.
تنويع الإمدادات
اعتمادًا على الواردات الضخمة من روسيا، سمحت سياسات التنويع المطبقة منذ سنة2017 بخفض واردات تركيا من الغاز المتأتية من روسيا بأكثر من 47 بالمئة
أصول إجمالي واردات الغاز الطبيعي
تُظهر البيانات المتاحة للنصف الأول من سنة 2020 أن الحكومة تعمل على تخفيض واردات الطاقة، مع تسجيل تراجع إضافي بنسبة 44.8 بالمئة مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. وقد اتبعت الدولة هذه الخطة بعد زيادة واردات الغاز الأذربيجاني، وقبل كل شيء، من خلال الزيادة المفاجئة في واردات الغاز الطبيعي المسال خاصة من الولايات المتحدة وقطر (144 و124 بالمئة على التوالي في النصف الأول من سنة 2020).
كان تطوير البنى التحتية لإعادة تغويز الغاز الطبيعي المسال بالتزامن مع نمو الواردات في الأسواق الفورية مدفوعًا بانخفاض الأسعار في جميع أنحاء العالم. أصبحت تركيا ثاني مستورد أوروبي للغاز الطبيعي المسال في سنة 2019، موازنة بذلك وارداتها من الغاز الطبيعي المسال مع تلك القادمة من خط الأنابيب. حتى سنة 2020، وصلت واردات تركيا من الغاز الطبيعي المسال إلى 46 بالمئة من إجمالي الواردات.
نسبة الواردات عن طريق أنابيب الغاز والغاز الطبيعي المسال
تعتبر 2021 سنة حاسمة بالنسبة لتركيا، حيث تنتهي العقود طويلة الأجل لتوريد ما يقرب من 16 مليار متر مكعب في السنة من الغاز (حوالي 35 بالمئة من الطلب لسنة 2019) التي تم إبرامها في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.
عقود توريد الغاز الطبيعي طويلة الأجل (خطوط أنابيب الغاز والغاز الطبيعي المسال)
تستورد تركيا الغاز الطبيعي المسال بفضل عقود طويلة الأجل مع الجزائر عبر شركة سوناطراك، ونيجيريا من خلال شركة نيجيريا للغاز الطبيعي المسال (NLNG)، وعقود فورية مع قطر والولايات المتحدة الأمريكية ونيجيريا ومصر وترينيداد وتوباغو وفرنسا والنرويج وغينيا الاستوائية (الشكل 5).
الدول المصدرة للغاز الطبيعي المسال في الأسواق الفورية
زيادة قدرة شبكة التوزيع
تمتلك تركيا شبكة كافية لاستيراد وتوزيع الغاز الطبيعي عمليا في جميع أنحاء أراضيها. وحاليا، تقترب قدرتها على استيراد الغاز الطبيعي عبر خط أنابيب الغاز من حاجز 80 مليار متر مكعب في السنة، وهي أعلى بكثير من الحد الأقصى البالغ 55 مليار متر مكعب المسجلة في سنة 2017.
شبكة خطوط أنابيب الغاز ومحطات الغاز الطبيعي المسال لواردات الغاز
تكتمل هذه الشبكة بمحطتين بريّتين لإعادة تغويز الغاز الطبيعي المسال ومحطتين عائمتين بطاقة استيعاب وصلت حتى الآن لـ 33.8 مليار متر مكعب في السنة، مع توقعات بتوسيع محطة ألياغا في سنة 2021، لتبلغ بذلك طاقة الاستيعاب الإجمالية 49 مليار متر مكعب في سنة، والتي تفوق بشكل واضح الطلب المسجل في سنة 2019.
سيتم إضافة محطة عائمة ووحدة تخزين جديدة “أرطغل الغازي” قريبًا في خليج ساروس، شمال شبه جزيرة جاليبولي. بطبيعة الحال، من الواضح أن تطوير هذه البنية التحتية قد منح السلطات التركية مرونة كبيرة لتقليل التأثير الجيوسياسي للاعتماد على واردات الطاقة، الذي يلعب دورا كبيرا في تحديد سياستها الخارجية.
تحسين قدرة التخزين
بفضل الاستثمارات في هذا المجال، تحسنت قدرة تخزين الغاز الطبيعي المسال وتخزين الغاز تحت الأرض بشكل كبير في السنوات الأخيرة. لشركة بوتاس الحكومية، التي تملك البنية التحتية، منشأتان لتخزين الغاز تحت الأرض، سلوري وتوز جولو، بسعة 3.4 مليار متر مكعب. وباعتبار سعة التخزين في منشآت الغاز الطبيعي المسال (المحطات البرية والعائمة)، فإن إجمالي قدرة التخزين يقترب من خمسة مليارات متر مكعب.
يكمن الهدف الاستراتيجي في التمكن من تخزين ما يقرب من 20 بالمئة من الاستهلاك السنوي، أي حوالي 10 مليارات متر مكعب، لذلك يجري العمل على تنفيذ مشروع توسيع قدرة التخزين الجوفية لمحطة توز جولو إلى 5.4 مليار متر مكعب بحلول سنة 2023. هذا المشروع ممول من قبل بنك آسيا للاستثمار في البنية التحتية، ويتم تنفيذه بالتعاون مع شركة كامك للهندسة الحكومية الصينية.
تحرير السوق
تحاول تركيا المضي قدما في خصخصة قطاع الطاقة من خلال القضاء على احتكار الدولة لعمليات استيراد وتصدير وتوزيع وتسويق الغاز الطبيعي، وهي عملية بدأت نظريا مع دخول قانون سوق الغاز الطبيعي عدد 4646 حيز التنفيذ في سنة 2001 – أي منذ ما يقارب 20 عاما. وقد تم إحراز بعض التقدم، فمنذ سنة 2018 أنشأت بورصة الطاقة في إسطنبول منصة تداول الغاز التي تسمح لتركيا بأن تحقق طموحها بأن تصبح مركزا حقيقيا للطاقة. ورغم حقيقة أن الحكومة أصدرت تراخيص استيراد لأكثر من 50 شركة، إلا أن معظمها لم يستغل هذه الإمكانية ولا تزال شركة بوتاس المملوكة للدولة مسؤولة عن ما يقرب من 97 بالمئة من واردات الغاز لسنة 2019.
من شأن الموارد الذاتية أن تدعم تطلعات تركيا بأن تصبح مركزا للطاقة، التي قطعت شوطا جيدا بالفعل قبل بدء عمليات التنقيب
في حال تحققت توقعات الحكومة، فإن استغلال احتياطيات الغاز المكتشفة حديثًا سيحقق فوائد كبيرة للاقتصاد التركي المتعثر، علما بأن الـ 12 مليار دولار التي تنفقها الدولة سنويا على واردات الغاز تمثل ثلاثة أرباع عجز الميزانية. في أفضل الحالات، لن تكون الفوائد الاقتصادية ملموسة إلا بعد خمس سنوات أخرى وذلك في حال سمحت الصعوبات التقنية والاعتبارات الجيوسياسية الأخرى باستخراج الغاز بأسعار تنافسية. مع ذلك، يظل سيناريو هبوط أسعار الغاز الطبيعي المسال، الذي لا يمكن استبعاده على الإطلاق في الوقت الحالي، قائما ومن شأنه أن يضر بجهود تطوير حقل تونا-1.
عموما، لا شك أن هذه الاكتشافات من العوامل الحاسمة لضمان تحقيق أهداف سياسة الطاقة التركية، خاصة في الجوانب المتعلقة بتقليل الاعتماد على الواردات وتنويع الإمدادات. على هذا النحو، سوف تعزز تركيا موقفها التفاوضي بشكل واضح بشأن تجديد العقود طويلة الأجل التي تنتهي في السنوات القادمة مع الموردين الرئيسيين (روسيا وأذربيجان وإيران ونيجيريا والجزائر)، مع العلم أن عملية تنويع العرض كانت تجري بالفعل قبل هذا الاكتشاف وتم تبينها بشكل ملحوظ في النصف الأول من سنة 2020.
من شأن الموارد الذاتية أن تدعم تطلعات تركيا بأن تصبح مركزا للطاقة، التي قطعت شوطا جيدا بالفعل قبل بدء عمليات التنقيب. وفي سنة 2019، صرح فاتح بيرول، المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية، بأنه “إذا أخذنا بعين الاعتبار موقع تركيا الجغرافي وقربها من كل من منتجي الغاز والأسواق الاستهلاكية في أوروبا هذا بالإضافة إلى التقدم الذي أحرزته في تطوير البنية التحتية للغاز الطبيعي المسال، فإن طموحها بأن تصبح مركزا تفاوضيا للغاز ليس بعيدا”. يعتمد هذا الاحتمال على توحيد منصة تداول الغاز الخاصة بشركة إيبياش لإدارة أسواق الطاقة (EPİAŞ)، والتي تعمل بالفعل منذ سنة 2018 والتي وصلت في 2020 إلى متوسط تفاوض يزيد عن 5 ملايين متر مكعب في اليوم للعقد الواحد.
إلى جانب التداعيات المباشرة على الاقتصاد التركي، فإن الاكتشاف الحالي وآفاق الاكتشافات المستقبلية تحدث في وقت حساس من الناحية الجيوسياسية بالنسبة لتركيا، والتي لأسباب مختلفة وجدت نفسها في عزلة دبلوماسية في جميع النزاعات التي تدخلت فيها خلال السنوات القليلة الماضية (التي تشمل ليبيا وسوريا) ومؤخرًا ناغورنو كاراباخ. في هذه الجبهات، تُبقي روسيا وتركيا الحوار مفتوحًا، لكنهما تقفان على جانبين متعارضين وذلك لم يكن صدفة. في الوقت الحالي، يعمل كلا الطرفان على وضع خلافاتهما جانبا من أجل التوصل إلى تفاهم عملي وذلك ممكن، ولكن تظل علاقتهما هشة للغاية رغم كل شيء.
تعد روسيا الدولة الموردة الأكثر تضررا من التطوير المحتمل لحقول الغاز في البحر الأسود، لأن ذلك سيضعف قدرتها على استخدام الطاقة كمصدر للنفوذ. من جانبها، ستحاول تركيا أن تتفاوض مستغلة بلا شك الوضعية لصالحها، وهو ما قد يكون سببا إضافيًا لحدوث مواجهة بينهما. لكن تدهور العلاقات بين روسيا وتركيا من شأنه أن يعيد التوازن إلى علاقات أنقرة المتوترة مع الغرب ومؤسساته، ولا سيما الاتحاد الأوروبي.
في ظل الاستغلال التجاري لاحتياطيات الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، يمكن لروسيا أن ترى أن مكانتها كمُصدر للغاز إلى الأسواق الأوروبية مهدد
لن تكون هذه المهمة سهلة إذا قررت تركيا اتخاذ هذه الخطوة، خاصة بعد اكتشافات الغاز الحديثة. وليس من المستغرب غياب صراعات على ترسيم الحدود البحرية في البحر الأسود مع الدول الساحلية في الاتحاد الأوروبي، ووجود هياكل تعاون إقليمي مثل منظمة التعاون الاقتصادي في البحر الأسود، التي يمكن أن تسهل إقامة علاقات تعاون لاستغلال هذه الموارد مع بلغاريا ورومانيا. ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار أيضا أن لوائح الطاقة التركية منسجمة بشكل كاف مع اللوائح الأوروبية للسماح بتكامل أسواق الغاز دون صعوبات كبيرة. ومن شأن الحاجة إلى الاعتماد على خبرة الشركات الغربية في استخراج الغاز في أعماق البحار أن تكمل هذا السيناريو.
يمكن أن يساعد هذا الأمر في تقليل التوترات في شرق البحر الأبيض المتوسط، حتى لو كان فقط من أجل تسليط الضوء على المزايا الواضحة للتعاون في هذا المجال. لكن الحقيقة هي أن طبيعة المشاكل في هذا الموقع الجغرافي لها علاقة بالقضايا الجيوسياسية الأخرى أكثر من ارتباطها بالطاقة. ولا يمكن أن نستبعد أن تقرر تركيا، بعد أن عززت موقعها الجغراسياسي من خلال اكتشافات البحر الأسود، إعادة تأكيد استراتيجيتها في شرق البحر الأبيض المتوسط.
من الواضح أن الخلافات القديمة حول ترسيم الحدود في مياه المتوسط، التي أثيرت من جديد الآن بسبب وجود احتياطيات ضخمة من الهيدروكربونات، هي السبب الحقيقي وراء التوترات بين الدول الساحلية، لا سيما اليونان وقبرص من جهة وتركيا من ناحية أخرى، إلى جانب القوى الخارجية ذات نطاق إقليمي أو عالمي مثل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا. وقد اشتد التوتر وتكررت الحوادث بين القوات البحرية والجوية في الأشهر الأخيرة.
على الرغم من إنشاء مؤسسات تعاون إقليمية في مجال الطاقة، مثل منتدى غاز شرق المتوسط، إلا أنها بالكاد ساهمت في تخفيف التوترات. على العكس من ذلك، تعتقد تركيا أن هذا المنتدى يتم صياغته ضد مصالحها. وينطبق الأمر ذاته على روسيا، حيث قررت شركات الطاقة منع مشاركتها في استغلال هذه الموارد رغم محاولاتها المتكررة.
في ظل الاستغلال التجاري لاحتياطيات الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، يمكن لروسيا أن ترى أن مكانتها كمُصدر للغاز إلى الأسواق الأوروبية مهدد، الأمر الذي يمكن أن يجعل مصالحها تتوافق مع مصالح تركيا.
الخلاصة
خلال شهر أغسطس/ آب 2020، أعلنت الحكومة التركية أنها حققت أكبر اكتشافات للغاز الطبيعي في تاريخ تركيا وربما أكبر اكتشافات هذا العام على مستوى العالم في مياه البحر الأسود. ولعل هذه النتيجة تشكل بلا شك علامة بارزة ذات أهمية كبيرة لدولة مثل تركيا، التي لديها تطلعات جادة للتأثير على بيئتها والتحول إلى قوة إقليمية، وهي في أمس الحاجة إلى موارد الطاقة التي تفتقر إليها.
من خلال التحرك مع ضمان التوازن الدقيق بين المصالح المتنافسة، ستعتمد علاقات تركيا مع روسيا والدول الغربية إلى حد كبير على التركيز على المناورة
على الرغم من أن الاستغلال التجاري لهذه الاكتشافات وغيرها من المواقع المحتملة سيستغرق بضع سنوات، إلا أن آفاق الإنتاج المحلي لموارد الطاقة تبعث على التفاؤل ليس فقط من حيث تقليل الاعتماد على التوريد، وإنما أيضا فيما يتعلق بطموحها في أن تصبح مركزًا للطاقة لتزويد الأسواق الأوروبية بالغاز الطبيعي. سيساعدها ذلك أيضا على تقليل العجز المزمن في الميزانية نتيجة نفقات الطاقة المرتفعة التي يجب على الدولة دفعها سنويا.
يوفر هذا الاكتشاف دفعة إضافية لجهود تنويع مصادر الإمداد التي انطلقت مع سياسة الطاقة الوطنية لسنة 2017 التي سمحت بخفض واردات الغاز الروسي بنحو 50 بالمئة. في ظل هذه الظروف، باتت تركيا في وضع ملائم لإعادة التفاوض بشأن عقود إمدادات الغاز طويلة الأجل التي ستنتهي في سنة 2021، ليس فقط مع شركة غازبروم الروسية، وإنما أيضا مع شركات الغاز من أذربيجان ونيجيريا.
عززت تركيا موقعها الجيوسياسي في وقت حساس بشكل خاص لسياستها الخارجية. من المؤكد أن هذا الاكتشاف سيفتح خيارات استراتيجية يمكن أن تستفيد منها تركيا إما لتعزيز التعاون في شؤون الطاقة مع الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي قد يساعد في تخفيف التوتر الشديد بين الطرفين، أو تأكيد مطالبها في منطقة البحر الأبيض المتوسط.
في حال تحقق السيناريو الثاني، فقد نشهد حلقات ينتهي فيها الأمر باختيار الأطراف المتنازعة اللجوء إلى استخدام القوة لحل الخلافات نظرا لعدم الاستقرار في هذه المياه الذي لا يرجع إلى المنافسة على موارد الطاقة المحتملة، بل بسبب قضايا جيوسياسية ذات جذور تاريخية عميقة.
من خلال التحرك مع ضمان التوازن الدقيق بين المصالح المتنافسة، ستعتمد علاقات تركيا مع روسيا والدول الغربية إلى حد كبير على التركيز على المناورة. ستوفر الاكتشافات في البحر الأسود لتركيا أداة إضافية للتأثير على سير الأحداث.
المصدر: المركز الإسباني للدراسات الاستراتيجية