ترجمة وتحرير: نون بوست
إذا عدت بذاكرتك إلى مرحلة الطفولة، ربما يمكنك تحديد بعض الطرق التي أثرت من خلالها البيئة التي نشأت فيها على شخصيتك. ربما تكون قد نشأت بالقرب من المحيط، وهذا يعني أنك لن تستطيع أبدًا العيش في منطقة غير ساحلية، أو ربما نشأت في الريف، لذلك سيكون العيش في المدينة لفترة طويلة من الوقت مصدرا للتوتر. كل هذا يعني أن المكان الذي نشأت فيه قادر على أن يؤثر كثيرا على شخصيتك أو تفضيلاتك، وحتى على جيناتك.
وجدت دراسة استمرت 18 سنة، شملت ألفي طفل تتراوح أعمارهم بين خمس سنوات و18 سنة، من طرف باحثين في جامعة ديوك ونُشرت في شهر حزيران/ يونيو، أن الأطفال الذين نشأوا في أحياء تتسّم بالحرمان الاقتصادي والخراب المادي والعزلة الاجتماعية عانت أجسامهم من آثار سلبية على مستوى الخلايا – وعلى وجه التحديد – شهدت تغيرات تخلّقية، أي كيفية التعبير عن رمز الحمض النووي في الجسم.
ورد في هذه الدراسة أن “الأطفال الذين نشأوا في أحياء أكثر حرمانا من الناحية الاجتماعية والاقتصادية يدخلون مرحلة الشباب متميزين جينيا عن أقرانهم الأقل حرمانا. وتشير هذه النتيجة إلى أن التنظيم الوراثي اللاجيني قد يشكّل آلية تساهم من خلالها البيئة التي نشأ فيها الأطفال في تغيير صحتهم كبالغين”. وباللغة غير العلمية، هذا يعني أن النشأة في بيئة محرومة اجتماعيا واقتصاديا يمكن أن يؤثر على عمل جيناتك – وبالتالي صحتك – في مرحلة البلوغ.
لم تكن هذه الدراسة الأولى التي وضحت كيفية تأثير بيئة الشخص على جيناته. في الواقع، يركز مجال علم التخلق بأكمله على كيفية تأثير بيئة الشخص على الجينوم (المادة الوراثية للكائن الحي). لكن هذه الدراسة الأخيرة تُظهر أن الفوارق بين المجموعات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة يمكن أن تؤثر على رفاهية الشخص على مستوى الخلايا – وهو ما يشير إلى أن المقومات الاجتماعية للصحة تسترعي المزيد من الاهتمام والحلول.
يشرح آرون روبن، أحد المؤلفين المشاركين في الدراسة، وخبير علم التخلق الطبيب والفيلسوف كينيث بيليتيير، ومؤلف كتاب “غيّر جيناتك، غيّر حياتك” المزيد حول كيفية تأثير البيئة التي نشأت فيها في طفولتك على جيناتك، وكم يبلغ حجم هذا التأثير.
كيف تؤثر البيئة على الجينات؟
قبل أن ندخل في التفاصيل الجوهرية للعوامل البيئية التي تؤثر على الجينات، من المهم أن نفهم أولا علم التخلّق. يوضح الدكتور بيليتيير أن خمسة بالمئة من جينات الشخص البالغ غير قابلة للتغيير بينما تكون الـ 95 في المئة الباقية قابلة للتغيير، ويركز علم التخلق على العوامل المسؤولة عن تغيّر تلك الجينات (نحو الأفضل أو الأسوأ) وإلى متى تدوم هذه التأثيرات.
حسب روبن، يولد كل شخص ببنية حمض نووي محددة. لكن هذا الحمض النووي لا يعمل من فراغ، وإنما يتلقى التعليمات من المركبات الكيميائية والبروتينات في أجسامنا. ومن الممكن أن تعمل التغيرات الطارئة على البيئة على تغيير التعليمات التي يتلقّاها حمض النووي لدينا، مما يؤثر على الجينات. ويمكن أن تسبب التعليمات المتغيرة تغييرات أخرى داخل أجسامنا، بل ويمكن أن تنتقل إلى نسلنا.
قد يكون لدى شخص ما استعداد وراثي لإحدى هذه الحالات الصحية ولكن إذا لم يتعرض لأي أمراض التهابية فقد لا تظهر أبدًا
أضاف الدكتور بيليتيير أن “الجين متأصل في كل خلية، والخلايا موجودة في كامل جسم الإنسان، الذي هو بدوره مندمج في بيئته. وهذا يعني أن ما يحدث في البيئة سيؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على الجينات”. فعلى سبيل المثال، إذا استنشقت مادة كيميائية سامة، فقد يكون لذلك تأثير مدمر على جينات معينة. وحسب بيليتيير “يمكن أن تتسبب المواد الكيميائية الحيوية في فرط تواجد الجين أو قد تتسبب في تراجع تأثير التغييرات الجينية”.
يقول الدكتور بيليتيير أن تأثيرات هذا التغيير يمكن أن تكون عميقة بالفعل. فعلى سبيل المثال، يعد الالتهاب المزمن السبب الجذري للعديد من الحالات الصحية على غرار أمراض القلب والسرطان والتهاب المفاصل ومشاكل الجهاز الهضمي.
قد يكون لدى شخص ما استعداد وراثي لإحدى هذه الحالات الصحية ولكن إذا لم يتعرض لأي أمراض التهابية (مرتبطة أيضًا بعادات نمط الحياة مثل النظام الغذائي) فقد لا تظهر أبدًا. لكن التواجد في بيئة تسبب الإصابة بالالتهابات يمكن أن يؤدي إلى “تفعيل” العلامات الجينية لهذه الحالات، مما يؤدي إلى ظهورها.
العوامل البيئية التي تؤثر على الجينات أكثر
يدرس باحثو علم التخلّق مثل الدكتور بيليتيير وروبن العوامل البيئية التي يمكن أن تؤدي إلى الاستجابات الالتهابية المعدلة للجينات. وقد أبرزت بعض الدراسات على مر السنين بعض الروابط المهمة. كما يقول الخبيران إن هناك مجموعة كبيرة من الأدلة التي تظهر أن تلوث الهواء يمكن أن يكون له آثار سلبية على المستوى الجيني.
في هذا السياق، أشار روبن إلى “أن هناك عددh من الدراسات البشرية التي تظهر أن جينًا يسمى سيتوكروم 1ب1 مسؤول على استقلاب الهيدروكربونات”، مضيفا “أن “دخان السجائر وغازات عوادم السيارات والانبعاثات الشمسية القادمة من منشآت توليد الطاقة ومنشآت حرق النفايات جميعها تولد الهيدروكربونات”. وقد ثُبت أن هذه المصادر المحددة للهيدروكربونات (مركبات الهيدروجين والكربون الموجودة في مواد مثل الفحم والغاز الطبيعي) تغير وظيفة جين سيتوكروم 1 ب1، وهذا سبب سميتها.
أشارت دراسة أخرى نُشرت في مجلة “كلينيكل آبيجيناتكس” إلى أن تغيرات الحمض النووي المرتبطة بتلوث الهواء قد يكون لها تأثيرات سلبية على صحة الجهاز التنفسي على المدى الطويل، بما في ذلك تطور أمراض الرئة”.
أظهرت دراسة روبن للأطفال أن الطفرات الجينية لسيتوكروم 1 ب 1 من المرجح أن تؤثر على أولئك الذين يعيشون في المناطق الحضرية منخفضة الدخل، لأنهم أكثر عرضة لهذه الأنواع المحددة من السموم. يقول روبن إنه “اكتشاف مثير للاهتمام لم نكن نتوقعه…وهذا ليس شيئًا يفكر فيه الأطباء عندما يتعلق الأمر بالأطفال، لكننا نرى أن التعرض [للهيدروكربونات] في سن مبكرة يحدث تغيرات في المستويات الخلوية يمكن أن تكون لها نتائج عكسية وقت لاحق”.
يمكن أن يكون التلوث الضوضائي أحد العوامل البيئية الرئيسية الأخرى التي تؤثر على الخلايا، وهي تُعرف كذلك بالأصوات غير المرغوب فيها والمزعجة مثل أبواق السيارات وعمليات البناء وصفارات الإنذار – وهي مسألة يبحث فيها روبن حاليًا. وجدت دراسة نشرت سنة 2017 (على الفئران) ونُشرت في مجلة البحوث البيئية أن التلوث الضوضائي يغير أنماط مثيلة الحمض النووي، والتي تتحكم في التعبير الجيني.
العامل الآخر الذي يقول الدكتور بيليتيير إن له تأثيرا هائلا على الجينات هو التغذية. فالحصول على العناصر الغذائية غير الكافية في مرحلة الطفولة من شأنه أن يؤثر على نمو الدماغ
وفقا لروبن، من المرجح أن يكون السبب وراء ذلك هو أن التلوث الضوضائي يمكن أن يكون مصدرًا للالتهاب والتوتر، ما ينشط الهرمونات المرتبطة بالتوتر في الجسم، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى التهاب – والذي يمكن أن يغير طريقة تعبير الجينات.
ينطبق ذلك على جميع مصادر الإجهاد المزمن. يوضح الدكتور بيليتيير أن الإجهاد “يغير الكيمياء الحيوية للخلايا ليحولها من خلية متجددة بطبيعتها إلى أخرى مدمرة”. هذا التحويل المدمر للطاقة يسمى بـ “الأيض الهدمي” أي “عندما تحرق الخلية المغذيات المستخدمة لإنتاج طاقة”. يمكن أن ينتج عن ذلك مشاكل صحية بما في ذلك أمراض القلب ومشاكل الجهاز الهضمي والسرطان.
يعتقد الدكتور بيليتيير أن الإجهاد المزمن ينشأ عنه التهاب مزمن. ووجدت ورقة بحثية نُشرت في مجلة “الممارسات الطبية لعلم الأورام” والتي أخذت بعين الاعتبار 165 دراسة علمية أن العوامل النفسية والاجتماعية المرتبطة بالإجهاد متصلة بارتفاع معدل الإصابة بالسرطان بين السكان الذين كانوا أصحاء في البداية.
بناء على ذلك، يشرح الدكتور بيليتيير أنه “إذا كان الطفل يتعرض لأحداث مؤلمة مثل التنمر في المدرسة أو إذا كان يعيش في منزل ظروفه سيئة، فسيظهر ذلك على مستويات الالتهاب لديه.. وهذا يدل على التأثير السلبي الذي يمكن أن يحدثه التوتر على التعبير الجيني”.
أما العامل الآخر الذي يقول الدكتور بيليتيير إن له تأثيرا هائلا على الجينات هو التغذية. فالحصول على العناصر الغذائية غير الكافية في مرحلة الطفولة من شأنه أن يؤثر على نمو الدماغ وكذلك التعبير الجيني، “ففي السنوات الثماني الأولى من العمر، تحدث فترات نمو حرجة ينضج فيها الدماغ في تسلسل زمني معين وإذا تم تعطيل هذا التسلسل، أي إذا كان الشخص محرومًا من التغذية اللازمة، فقد ينتج عن ذلك ضعف إدراكي مستمر“.
أظهرت الأبحاث كذلك أن سوء التغذية يمكن أن يغير الحمض النووي، مما يعرض الشخص لخطر الإصابة بأمراض مثل أمراض القلب والأوعية الدموية أو مرض السكري أو انخفاض الوظيفة الإدراكية في وقت لاحق من الحياة. وكل هذا يشير إلى أنه إذا نشأ الطفل في منطقة يوجد فيها وصول محدود إلى الغذاء الصحي، فقد تتأثر صحته كشخص بالغ.
في حين أن العلاقة بين البيئة وتأثير الجينات واضحة، يرى روبن أن ما هو أقل وضوحًا المدة التي تدوم فيها هذه الآثار: “نحن حقًا في بداية فهم علم التخلّق، ولا بد من إجراء المزيد من الأبحاث”.
المصدر: وال آند غود