“إلى أن يحين الأجل، سأبقى محكومًا عليّ، بهذه الوقفة الحائرة على المعبر، ضائعة بين حياة وموت، انتظر دوري في اجتياز الشوط الباقي، وأردد في أثر الراحل المقيم، عليك سلام الله إن تكن عبرت إلى الأخرى فنحن على الجسر..”، بهذه الكلمات اختتمت عائشة عبد الرحمن مقدمة سيرتها الذاتية “على الجسر“.
الأسطر التالية تستعيد حياة الأديبة والمفكرة الإسلامية والمدافعة عن حقوق المرأة، عائشة عبد الرحمن، التي يصادف اليوم الذكرى الـ22 لوفاتها في الأول من ديسمبر عام 1998.
ولدت عائشة في مدينة دمياط شمال دلتا مصر عام 1913 في بيت أزهري أبًا عن جد، فنشأت على مجالس الفقه والأدب، تعلمت عائشة في المدرسة الأميرية للبنات ثم التحقت بالمدرسة الراقية وكلفها هذا التعليم ثمنًا باهظًا للغاية، فقد كان والدها معارضًا بشدة لخروج الفتيات للتعليم، لكن جد والدتها ناقشه وأصر على موقفه وخرج غاضبًا من منزلهم لرفض والدها، فتعثر في طريقه ووقع على الأرض وانكسرت ساقه وأصبح مقعدًا منذ ذلك الحين، حينها تراجع الوالد عن موقفه بسبب تلك الحادثة وتمكنت عائشة من مواصلة تعليمها.
حصلت على شهادة الكفاءة للمعلمات عام 1929 وكان ترتيبها الأول على مستوى مصر، ثم حصلت على الشهادة الثانوية عام 1931، وبدعم من والدتها تمكنت من الالتحاق بكلية الآداب جامعة القاهرة لتحصل على شهادة في قسم اللغة العربية وآدابها عام 1939 ثم درجة الماجستير عام 1941 وبعدها بتسعة أعوام ناقشها عميد الأدب العربي طه حسين في رسالة الدكتوراه لتحصل عليها عام 1950.
كانت عائشة ثاني امرأة تكتب في صحيفة الأهرام بعد مي زيادة، ولأن هذا الأمر لم يمكن شائعًا، فقد كتبت تحت اسم مستعار “بنت الشاطئ” وأصبح هذا اللقب ملازمًا لها بعد ذلك، كما كتبت أيضًا في مجلة النهضة النسائية ورأست تحريرها لفترة، نشرت آخر مقال لها في الأهرام يوم 26 من نوفمبر/تشرين الأول 1998 قبل وفاتها بأربعة أيام.
حصلت عائشة عبد الرحمن على جائزة الملك فيصل للأدب العربي مناصفة مع الدكتورة وداد القاضي
أحبت عائشة النهر كثيرًا في طفولتها، فكانت تهرب من منزل جديّ والدتها لتلعب أمام النهر، كلما ازداد حبها للنهر ازداد خوف والدتها عليها، فقبل ولادة عائشة وحتى قبل زواج أمها غرقت جدتها في هذا النهر أمام عين والدتها التي لم تستطع إنقاذها، لذا لم تكن عائشة تذهب إلى النهر إلا سرًا دون علم والدتها.
تزوجت عائشة من أستاذها في الجامعة المفكر الراحل أمين الخولي وتأثرت كثيرًا في بداية حياتها بتوجهه الفكري قبل أن يصبح لها أسلوبها الخاص بعد وفاته عام 1966، أصبحت عائشة أستاذًا في جامعة عين شمس للغة العربية وآدابها، كما درّست في عدة جامعات عربية من بينها جادمعة أم درمان والخرطوم والجزائر وبيروت والإمارات وكلية التربية للبنات في الرياض.
عملت عائشة لمدة 20 عامًا في جامعة القرويين بالمغرب كأستاذ للتفسير والدراسات العليا، كما شغلت عضوية الكثير من الهيئات والمجالس مثل المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر والمجلس الأعلى للثقافة، وعضوية مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة.
كانت -رحمها الله- أديبة ومفكرة وناقدة تركت وراءها فوق الـ60 كتابًا ومئات الأبحاث والدراسات، كما حققت الكثير من النصوص والوثائق والمخطوطات، ومن أبرز وأهم كتبها: التفسير البياني للقرآن وتراجم سيدات بيت النبوة والإعجاز البياني في القرآن ونساء النبي.
حصدت عائشة الكثير من الجوائز من بينها جائزة الدولة التقديرية في الآداب بمصر وجائزة الحكومة المصرية في الدراسات الاجتماعية والريف المصري ووسام الكفاءة الفكرية من المغرب وجائزة الأدب من الكويت، كما حصلت على جائزة الملك فيصل للأدب العربي مناصفة مع الدكتورة وداد القاضي.
كانت ترى أن التمييز بين الجنسين جذوره جاهلية، فالمجتمع يناقض نفسه في الكثير من الأمور عندما يتعلق الأمر بالمرأة
لم تكن عائشة مفكرة وباحثة فقط بل كانت أديبة وشاعرة مميزة كتبت العديد من النصوص الأدبية الفريدة مثل: الريف المصري وسر الشاطئ وبطلة كربلاء وسيدة العزبة وسيرتها الذاتية التي كتبتها بعد وفاة زوجها بعنوان “على الجسر بين الحياة والموت”.
اشتهرت عائشة بدفاعها عن تعليم المرأة وكانت ترى أن التمييز بين الجنسين جذوره جاهلية، فالمجتمع يناقض نفسه في الكثير من الأمور عندما يتعلق الأمر بالمرأة حيث يسمح لها بالتعليم والخروج لكن يرفض أن يراها خاطبها، أو يسمح لها بالعمل في الملاهي الليلة والحانات لكن ينكر عليها عضوية المجامع الإسلامية والتدريس في الجامعات.
كانت بنت الشاطئ تتبع منهج زوجها الفكري ومدرسته التجديدية، لكنها استطاعت أن تتجنب سقطات هذه المدرسة، اتبعت عائشة منهج النقد والمراجعة والفحص والدراسة وعدم الانصياع لأي رأي قبل المرور على تلك الخطوات، ما منحها مكانة متفردة ومتميزة بين سيدات النهضة العلمية والفكرية في العالم العربي والإسلامي.
خاضت الكثير من معارك العدالة الاجتماعية والوعي السياسي والرجعية والتقدمية والدراسات اللغوية والقرآنية والمرأة والمجتمع والكثير من قضايا العصر الحديث، وسط ذلك كله كانت تحن دائمًا لبيتهم الهادئ في الريف، فلم تكن أضواء المدينة تجتذبها أبدًا مثلما كتبت في مذكراتها.
أمضت بنت الشاطئ حياة حافلة عريضة داخل مصر وخارجها، بذلت فيها كل جهدها ودافعت عن قيمها حتى وافتها المنية بسكتة قلبية عن عمر يناهز 86 عامًا في الأول من ديسمبر/ كانون الأول عام 1998، لتنهي بذلك رحلة سيدة مصرية قلّ أن يجود الزمان بمثلها.