من الخطايا التي ساهمت في تراجع الثقافة العربية، تجاهل الحرف اليدوية، فالعالم حتى اليوم عندما يحاول فهم ثقافة أمة لا يجد وسيلة أفضل من دراسة فنونها وحرفها، إذ إن الأسلوب والطريقة التي يصنع بها الناس ويصممون منتجاتهم تعكس نظرتهم للأشياء، وتقول عنهم ما لا يمكن إخفاؤه.
يشار دائمًا إلى مصطلح الحرف اليدوية للتعبير عن الأعمال والصناعات التي تتم فيها جميع مراحل البناء باليد والأدوات اليدوية المستمدة من الثقافة والفن وبصيرة وتذوق الناس في كل منطقة، ما يبرز بالتبعية ممتلكات الشعوب من المواد الخام المستخدمة في صناعة المنتجات المختلفة، الأمر الذي يعكس الخصائص العرقية والثقافية ليس فقط لكل بلد بل لكل منطقة تملك القدرة على العمل في هذه الفنون.
في القِدم كان يفهم من تبادل مثل هذه المنتجات، بجانب التجارة والربح المادي، خلق نوع من الارتباط الثقافي بين المجتمعات المختلفة، ما أسهم كثيرًا في تحسين العلاقات بينها، ولهذا لم يتجاهل المجتمع الحديث هذه الحقائق، ولم ينس للحرف فضلها، واعترف بعد الحرب العالمية الثانية بما قدمته لدعم الثقافات المختلفة وخلق ترابط بين البشر.
عُقد المؤتمر الدولي الأول للحرف اليدوية عام 1964 بنيويورك، وشارك فيه عدد من أساتذة الجامعات والفنانين والحرفيين من 40 دولة، وأسفر المؤتمر عن إنشاء المجلس العالمي للحرف اليدوية، واستضافت أمانته العامة مدينة أمستردام في هولندا.
أهم ما خرج عن المؤتمر آنذاك، عدة بنود نتجاهلها تمامًا في عالمنا العربي، أهمها تشجيع ومساعدة وتوجيه الحرفيين ورفع مستوى معرفتهم المهنية والمعلوماتية، خاصة ما يتعلق بالخلفيات الثقافية المختلفة في كل دولة عضو، بجانب العمل للحفاظ على الحرف اليدوية وتعزيزها وإظهارها كدعامة أساسية للحياة الثقافية للأمم، وخلق تضامن بين الحرفيين في جميع أنحاء العالم.
الحرف وخصوصية الثقافة
لم يكن غريبًا احتلال الحرف اليدوية مكانة عظيمة عند الأمم المختلفة، بداية من العصور القديمة التي كانت تعبر فيها عن القيم الدينية السائدة باستخدام أفضل خيرات المجتمع وثرواته من المعادن النفيسة وحتى الصلصال والخشب، حيث تمكن العمال المهرة من خلق منحوتات رائعة مصنوعة يدويًا، أشاروا من خلالها إلى الثقافات السائدة وموقف مجتمعاتهم من الحياة.
كان الحرفيون يتمتعون برعاية خاصة وامتيازات من الحكام ورجال الدين ومن كبار المناضلين الذين اعتبروهم أهم ما يعبر عن أمانيهم في الاستقلال، وعلى رأس هؤلاء المهاتما غاندي، فالمنتجات اليدوية التي نراها في المعابد والمنازل والشوارع وحتى منازلنا الخاصة، تعيد إنتاج قيمنا وتعرفنا بوضوح من نحن وأين كنا وما الذي نتطلع إليه.
في المنطقة العربية تسببت أزمة تكلس الثقافة والتخبط في صراع مستمر بين المادي والروحي والمورثات الاجتماعية والتاريخية، وهي عناصر تسهم جميعها في إعادة إنتاج الإرث الثقافي للبلدان وعدم توضيح الخصوصية الثقافية لكل بلد على حدة، الأمر الذي أفقد بعض المبادرات الحكومية لإحياء الحرف أهميتها، بسبب حصرها في الدعاية على اعتبارات اقتصادية، أغلبها تعتبر الحرف مجرد بديل مؤقت للتعامل مع أزمة البطالة.
تقديم الحرف على استحياء للشباب انعكس على مستوى تحفزهم لها، بسبب سوء تقديرها اجتماعيًا وماليًا بالشكل المناسب على مدار الأجيال الماضية، ما خلق دوافع نفسية وتحيزات ضد العمل فيها، ولهذا لم يستجب الشباب للمبادرات الحكومية التي تدفعهم إليها وتعدد منافعها الاقتصادية، إذ يعتبرها الجيل الحاليّ بهذه المواصفات غير مناسبة للعصر، ولن تلبي طموحاتهم أو رغبات الأهل في بلوغ مكانة اجتماعية مرموقة لأبنائهم.
فشل الحكومات في إبراز خصوصية الحرف اليدوية، جعل حتى أصحاب التخصص في التعليم الفني وكليات الفنون وغيرها يستبعدونها من خياراتهم المستقبلية، الأمر الذي يرشحها للانقراض خلال جيلين على الأكثر، كما يهدد بفناء التراث المحلي الذي يجد بعض الإقبال عليه حتى الآن، مثل صناعة السجاد والخزف والأقمشة والحلي التقليدية.
أما من يتحمس لها من الشباب ولديه حالة من الشغف للعمل بها، فيعاني من صعوبات اقتصادية كبرى إذا قرر تطوير العمل فيها، فضلًا عن ندرة الأسواق واضطراره للدخول في منافسة مع منتجات التكنولوجيا الحديثة والمصانع الغربية والآسيوية، بسبب تردي الوعي المجتمعي العربي برمزية الحرف في الثقافة، ما يؤدي في النهاية إلى خسارة الشاب رأس ماله.
ولا ينجو من هذه المهكلة إلا استثناءات بسيطة لديها القدرة على المنافسة، إما بسبب إرث العمل من الأسرة وتراكم الخبرة وإما بسبب الوفرة المالية اللازمة لإنتاج مشروع يدر ربحًا اقتصاديًا مناسبًا.
تراجع الحرف = تراجع الثقافة
خلال العقود الماضية ومع تجريف الثقافة بشكل ممنهج في أغلب البلدان العربية، تراجعت ثقافة الحفاظ على الحرف، باعتبارها جزءًا مهمًا من التراث الثقافي غير المادي، ولهذا لم نعد نرى ممرات هادئة لنقل الحرف اليدوية إلى الأجيال الجديدة دون كل هذه الصعوبات التي نتحدث عنها حاليًّا.
كانت الحرف تزدهر قديمًا وتنقل عبر تعليم غير رسمي، وبشكل خاص في المناطق الشعبية والريف، إذ كانت تزدهر هناك وتكمل دورتها الحياتية، واستمر ذلك خلال العقود الأولى من القرن الماضي، بسبب الحملات المناصرة للحرف التراثية في وسائل الإعلام التقليدية.
اتبعت الأنظمة القومية وخاصة في الستينيات تكتيك ما يسمى في الإعلام بنظرية الغرس الثقافي، حيث تحشد الدولة إمكاناتها للتأكيد على قيم ثقافية معنية باستخدام الآليات الموثوق بها مثل الإذاعة والتلفاز لتمرير تقدير رسمي معنوي للحرفي وما ينتجه من فنون تعتبر جزءًا لا يتجزأ من الإرث الثقافي للبلاد إلى الشارع.
مع الوقت وتطور التكنولوجيا، لم يتطور الوعي الرسمي العربي بالقدر الذي يجعل المسؤولين على وعي كافٍ بمشاكل هذا القطاع، ولهذا غاب عن البلدان العربية امتلاك أي معلومات واقعية عن عدد ومواقع العاملين بالحرف، وخاصة في ظل فتح أبواب الاستيراد على مصراعيه، والدخول مع منتجات غربية في منافسة غير عادلة جعلت من المستحيل بعد كل هذه السنوات من التجاهل تطوير أي وعي يعيد إحياء الاهتمام بها من جديد.
بخلاف ذلك، تسبب التربص بالثقافة والمثقفين في المنطقة العربية، في تراكم أجيال من البيروقراطيين بالمؤسسات الحكومية الذين لا يدركون ولا يعرفون أصلًا جوهر قطاع الحرف وانعكاساته على الثقافة الوطنية، فليس من اهتماماتهم المكلفين بها الشغف بزخرفة أي منتجات ثقافية، قد تتسبب حتى لو دون قصد في إثارة حساسيات للسلطة دون داع.
تسببت العزلة الطويلة للحرف اليدوية العربية عن التطورات العالمية في التخلف عن التطور الذي طال الحرف بعد أن أصبحت تستخدم أحدث صيحات التكنولوجيا والليزر عالي التقنية، لكن دون فقدان الخط الدقيق الفاصل بين الحرف اليدوية التقليدية والإبداع عالي التقنية.
لم تستفد البلدان العربية من اتفاقية اليونسكو لحماية التراث الثقافي غير المادي التي أبرمت عام 2003 للحفاظ على الحرف اليدوية التقليدية، وضمان انتقالها من جيل إلى جيل، وتضمنت المبادرة آنذاك عدة أنشطة للحفاظ على التراث الثقافي ومساعدة من يرغب من الدول بخطط تمويل من المانحين الدوليين، التي وفرت ولا تزال فرصًا مجدية لتطوير الأنشطة التعليمية وريادة الأعمال في قطاع الحرف.
يمكن القول إن ما يهدد مستقبل هذه الصناعات، تخوف الأنظمة العربية من اللجوء للمبادرات الدولية الجادة المعنية بتنميتها، بسبب دسها برامج لدراسات الفنون الحرة، تضع ضمن الأطر التي يتم التدريب عليها، خططًا لتحفيز المهارات العقلية المناسبة لمواطن حر قادر على استلهام التجارب الإنسانية لرواد هذه الحرف الكبار الذين تعرضوا لمحن سياسية وجسدوا ذلك في أعمالهم الحرفية، ما جعل من حرفهم معارض توثيقية تاريخية لحراك الشعوب ومطالبها في الحرية.