أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على هامش المؤتمر الذي استضافته الرياض في أكتوبر/تشرين الأول 2017، الذي جاء تحت عنوان “مبادرة مستقبل الاستثمار” وضم نحو 3000 من كبار المستثمرين والسياسيين، عن مشروع جديد لإنشاء منطقة استثمارية تجارية وصناعية على الساحل الشمالي الغربي من البحر الأحمر يحمل اسم “نيوم”.
المشروع تم تسويقه حينها على أنه يندرج تحت إستراتيجية الأمير الشاب بهدف تنويع الموارد الاقتصادية والخروج شيئًا فشيئًا عن عباءة الاعتماد على عوائد النفط كمصدر اقتصادي وحيد للمملكة، الأمر الذي يحمل في ثناياه تهديدًا كبيرًا لمستقبل السعودية الاقتصادي حال تعرض هذا المورد لأي هزة في الأسعار أو الإنتاج، وهو ما حدث أكثر من مرة.
وبعيدًا عن الموقع الجغرافي لهذا المشروع وسياقه السياسي في إطار صفقة القرن وما يحمله من دلالات فإن الآلة الإعلامية السعودية واصلت عزفها على قيمة تلك الخطوة التي يتوقع معها أن تنقل المملكة إلى آفاق جديدة من النمو الاقتصادي، إذ كان يطمح ولي العهد أن تصل إيرادات المشروع بعد اكتماله 100 مليار دولار سنويًا.
وعلى المستوى الشعبي فإن حالة الانبهار بالنقلة المتوقعة لهذا الإعلان خيمت على الأجواء بصورة شبه كاملة، حيث وجدت شريحة كبيرة من السعوديين لا سيما الشباب في هذا المشروع حلمهم في الارتقاء ببلادهم، حيث تغطي المشروعات المقترحة بداخله (مجالات السياحة الشاطئية والطيران والفنادق والترفيه والألعاب الرياضية والخدمات التكنولوجية المتقدمة) نسبة كبيرة من طموحات الشعب السعودي.
القراءة المتأنية في تفاصيل المشروع وتداعياته تذهب إلى أن “إسرائيل” ستكون الرابح الأكبر منه، فيما يلقي بظلاله السلبية على مستقبل الاستثمارات في مدينتي شرم الشيخ المصرية والعقبة الأردنية، هذا في الوقت الذي سيعيد هذا المشروع حال تنفيذه خريطة التحالفات الإقليمية والدولية، ويعيد تموضع الرباعي (مصر، السعودية، الأردن، “إسرائيل”) الإقليمي مرة أخرى.. فماذا نعرف عن تلك المدينة المثيرة للجدل؟
خريطة توضح موقع مدينة نيوم الإستراتيجي
نيوم .. قيمة جيوسياسية خطيرة
لم تكن نيوم، تلك المنطقة الصغيرة الواقعة على البحر الأحمر، التي استضافت أول لقاء معلن بين ابن سلمان ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، مجرد منتجع على البحر الأحمر فقط، إذ يخطط لها على أن تكون دولة داخل الدولة، ويعد موقعها الجيوسياسي أحد أبرز المواقع الإستراتيجية في المنطقة بأسرها.
فالمدينة التي تقع إلى الغرب من تبوك حتى البحر الأحمر، وتتجاوز مساحتها 28 ألف كيلومتر مربع، وهي مساحة دولة كبلجيكا، أو ولاية أمريكية كبيرة كـ”ماساتشوستس” تتقاطع في حدودها مع مضائق تيران المصرية وحدود كل من الأردن و”إسرائيل” عند خليج العقبة وإيلات.
وشهدت تلك البقعة الإستراتيجية من كوكب الأرض نصف تاريخ البشرية تقريبًا، ففوق ترابها نشأت إمبراطوريات امتدت لما يزيد على 11 قرنًا من الزمان، وهي عصور الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والعبيديين (الفاطميين) ثم العثمانيين، ثم خضعت بعد ذلك لسيطرة القوى البحرية الأوروبية.
الرابح الأكبر من هذا المشروع هو “إسرائيل”، وكأن ابن سلمان قد أقام تلك المدينة خصيصًا لتحقيق حلم دولة الاحتلال في المنطقة، حيث الريادة الاقتصادية والاستثمارية والسيطرة على ملتقى القارات الثلاثة وممر التجارة الأبرز في العالم.
هذا الموقع المحوري يمكن أن يجعل من نيوم بوابة البر والبحر لدول شبه الجزيرة العربية وطريقها من وإلى العالم، فمن الشرق ناحية البحر الأحمر عن طريق المحيط الهندي، ومن الغرب عن طريق البحر المتوسط و”إسرائيل”، كما أنها بعيدة نسبيًا عن النفوذ الإيراني في الخليج العربي، ما يجعلها في مأمن عن المناوشات الإيرانية بين الحين والآخر.
حلم ابن سلمان
يحلم ابن سلمان الطامح في كرسي العرش أن يجعل من نيوم قلعته المحصنة عندما يُتوج ملكًا رسميًا، حيث يراها عنوانه الذي يعيد تعريف نفسه للعالم من خلاله، وأوراقه الثبوتية التي يعيد من خلالها ملامح هويته، بجانب أنها ربما تكون القربان الذي يقدمه للغرب لطي صفحات الماضي الملوثة بدماء خاشقجي وضحايا اليمن من الأطفال والنساء والشيوخ ودموع المعتقلين داخل سجون المملكة.
يُلقي ولي العهد بكل أوراقه في هذا المشروع الذي تبلغ قيمة استثماراته الأولية قرابة 500 مليار دولار، أي ما يعادل ضعف الناتج الإجمالي لدولة بحجم مصر، ويسعى جاهدًا لأن يحولها إلى مدينة عالمية تكتمل فيها كل مقومات الريادة والتقدم والجذب.
وقد أسندت الرياض مهمة الإشراف على هذا المشروع لمكاتب استشارية عالمية، على رأسها “ماكينزي” و”بوسطن” و”أوليفر ويمان” الذين تم الاتفاق معهم لتقديم تفاهمات عن تصميم المدينة، بجانب شركة البحر الأحمر للتنمية المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة السعودي، بحيث تكون محور خريطة الطريق الجديدة للتنمية في السعودية.
ويتم تمويل هذا المشروع عبر حزم تمويلية يشارك فيها بعض الجهات الرسمية في المملكة، في مقدمتها صندوق الاستثمارات العامة السعودي ووزارة البترول والطاقة والمصارف العالمية، إلا أن تراجع أسعار النفط خلال الآونة الأخيرة فرض العديد من التحديات والعقبات أمام الحصول على التمويل اللازم لبدء التنفيذ.
التطور المتوقع في نوعية وطبيعة مشروعات نيوم سيجعلها قبلة الاستثمارات الأجنبية العالمية، وذلك على حساب الجار والحليف المصري في جنوب سيناء
ضربة للحلفاء
حال إتمام هذا المشروع فإنه من المتوقع أن يكون له تداعيات سلبية على حلفاء المملكة، سواء في مصر أم الإمارات، بجانب الأردن، فالخطة المعدة لبناء تلك المدينة ستعطيها قوة تنافسية كبيرة، تجعلها قادرة في وقت قصير على سحب الاستثمارات من منتجع شرم الشيخ المصري، وهو أبرز المناطق السياحية ذات القيمة والعائد الكبير للاقتصاد المصري.
التطور المتوقع في نوعية وطبيعة مشروعات نيوم سيجعلها قبلة الاستثمارات الأجنبية العالمية، وذلك على حساب الجار والحليف المصري في جنوب سيناء، هذا بخلاف سحب البساط من تحت ريادة شرم الشيخ وسيناء (طابا ودهب وراس محمد وغيرها) للسياحة العربية، إذ من المتوقع أن تجذب المدينة الجديدة سائحي العالم فيما تظل السياحة الرخيصة من نصيب المنتجعات المصرية.
وعلى الناحية الأخرى سيكون هناك انعكاسات ضارة على مشروعات تطوير واجهة الأردن على خليج العقبة، ففي الوقت الذي تكثف فيه عمان جهودها لتطوير تلك المنطقة بما يسمح لها بتعزيز عوائدها الاقتصادية لتخفيف المأزق الاقتصادي الذي تواجهه فإن المدينة السعودية الجديدة ستقضي على آمال الأردنيين في هذا المجال.
وفي المستقبل ربما تتحول تلك المدينة المطلة على البحر الأحمر، والقريبة من نوافذ البحر المتوسط، والبعيدة عن تهديدات إيران في الخليج العربي، والمدعومة من الحليف الأكثر وفاءً لأمريكا في المنطقة، “إسرائيل”، إلى قبلة التجارة العالمية، الأمر الذي يُفقد موانئ الإمارات جزء كبير من قيمتها المستمدة من موقعها وخدماتها اللوجستية المقدمة، وستصبح محل تنافس حال الانتهاء من مشروعات نيوم.
“إسرائيل”.. الرابح الأكبر
ورغم التأثير السلبي على حلفاء الرياض فإن الرابح الأكبر من هذا المشروع هو “إسرائيل”، وكأن ابن سلمان قد أقام تلك المدينة خصيصًا لتحقيق حلم دولة الاحتلال في المنطقة، حيث الريادة الاقتصادية والاستثمارية والسيطرة على ملتقى القارات الثلاثة وممر التجارة الأبرز في العالم.
المشروع يصب في المقام الأول في خدمة مستقبل “إسرائيل” الاقتصادي من خلال تنمية صحراء نقب فلسطين، وهي المنطقة التي يعتبرها خبراء رمانة الميزان في استمرارية دولة الاحتلال لعقود طويلة مقبلة، كونها أول خطوة في طريق تحقيق حلم تل أبيب في أن تكون وطن يهود العالم عن طريق استيعاب أعداد كبيرة من المهاجرين في مشروعات التنمية.
ورغم أن النقب من أقل المناطق نموًا في “إسرائيل”، فإن السلطات هناك تخطط لتحويلها إلى قاعدة صناعية وزراعية جديدة تعزز قوة الاقتصاد الإسرائيلي، وتمنحه التفوق النسبي على الاقتصادات المجاورة، لا سيما الخليجية، ما يؤهلها لأن تكون قبلة اليهود من مختلف دول العالم، الطامعين في الاستثمار.
يعد مشروع نيوم أكبر هدية من الممكن أن يقدمها نظام عربي لدولة الاحتلال، يفوق في مكاسبه اتفاقيات التطبيع الرسمية، إذ بات من الواضح أن ابن سلمان ليس له أي حدود في حجم العطايا المقدمة ضمانًا لخلافة والده
وبجانب أن إقامة منطقة تنموية بهذا الحجم في الأراضي المحتلة لتكون بوابة الشرق الأوسط للعالم، يفرض “إسرائيل” كقائد للمنطقة، يندرج تحت قيادته كيانات أخرى كالسعودية ومصر والأردن، إلا أنه في الجهة الأخرى يحقق الأمان النسبي لتل أبيب التي من المتوقع أن تكون الضامن الأمين لمشروعات القوى العالمية المستثمرة في تلك المنطقة، وهو ما يجعلها في مأمن ضد موجات المد والجذر السياسي في المنطقة.
علاوة على ذلك ستضع “إسرائيل” يدها على الفوائض الاقتصادية الخليجية على وجه التحديد التي ستلقي بمعظم استثماراتها في هذا المشروع، إما رضوخًا لضغوط السعودية وإما مغازلة للولايات المتحدة، وهو ما يحقق التفوق الكامل للمحتل الإسرائيلي، بجانب تأكيد سيادته على المنطقة في كل المجالات.
وفي الأخير يعد مشروع نيوم أكبر هدية من الممكن أن يقدمها نظام عربي لدولة الاحتلال، يفوق في مكاسبه اتفاقيات التطبيع الرسمية، إذ بات من الواضح أن ابن سلمان ليس له أي حدود في حجم العطايا المقدمة ضمانًا لخلافة والده، حتى لو كان الثمن تعزيز الفارق بين “إسرائيل” والدول العربية من حيث القدرات الاقتصادية والعلمية والعسكرية.
وكما كانت شرم الشيخ “عاصمة السلام” التي روجت لمبارك غربيًا لسنوات كثيرة، وكانت سببًا في دعم القوى الدولية له في كثير من المحطات، فإن ولي العهد السعودي يأمل أن تؤدي نيوم الدور ذاته، وأن تكون المكان الأكثر أمانًا للقاءات ابن سلمان وقادة “إسرائيل” خلال الفترة المقبلة.