تعيش تونس على وقع احتجاجات شملت عدة محافظات ومرافق عمومية وقطاعات حيوية كالقضاء والصحافة والطب والهندسة، وباتت الأوضاع في الدولة التي تعاني من عسر في انتقالها الديمقراطي، تنذر بخطر حقيقي يهدد استقرارها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، خاصة بعد أن اتخذت التحركات أبعادًا جهوية حيث تطالب كل جهة بحقها في الحصول على نصيبها من مصادر الثروة والإنتاج مستلهمة في تحركاتها نجاح تجربة “الكامور” بمحافظة تطاوين بالجنوب التونسي.
استمرار الاحتجاجات وانتشارها في ربوع البلاد، دفع بعض الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية إلى المطالبة بضرورة عقد حوار وطني يكون منطلقًا لعملية إنقاذ واسعة وشاملة عبر حلول اقتصادية واجتماعية مستدامة وناجعة تكفل التنمية العادلة، والأهم من ذلك تجنب البلاد مخاطر تفكك الدولة ومؤسساتها، خاصة أن نذر الصدامات بين السلطة والشارع بدأت تلوح في الأفق مع اقتراب الذكرى العاشرة لثورة 14 يناير وسقوط ديكتاتورية نظام بن علي.
احتجاجات #تونس تتسع في ظل أزمة اقتصادية تعصف بالبلاد#شبابيك pic.twitter.com/RpJYrMYarX
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) November 26, 2020
دعاة الحوار
إضافة إلى ما تشهده البلاد من احتقان وتوتر اجتماعي ومطالب بالتشغيل والتنمية العادلة وإيجاد فرص عمل في عدة محافظات، تأتي الدعوة لعقد حوار وطني على خلفية وصول البلاد إلى نقطة صفر نجاعة سياسية في ظل استمرار الصراع والتنافر بين الأحزاب الممثلة داخل البرلمان وكذلك إلى الحرب الباردة بين ثالوث الحكم في تونس (رئاسة وحكومة وبرلمان).
اتحاد الشغل (منظمة نقابية) كان من بين الجهات المطالبة بضرورة جلوس الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين إلى طاولة الحوار قصد معالجة الجذور العميقة للأزمة وإيجاد حلول شاملة، وذلك عن طريق مبادرة أعلنها في وقت سابق وقال إنه سيقدمها إلى رئيس الجمهورية قيس سعيد، لكنه لم يكشف إلى الآن الخطوط العريضة لمبادرته ومضامينها السياسية والاجتماعية.
مبادرة اتحاد الشغل وجدت دعمًا من بعض الأحزاب السياسية كحركة الشعب والتيار الديمقراطي ولقيت أيضًا ترحيبًا من رئيس الجمهورية قيس سعيد رغم أن الأخير لم يعلن صراحة موقفه وما إذا كان سيرعى الحوار كما طالبت بذلك منظمة الشغيلة في وقت سابق.
التيار الديمقراطي بدوره طرح خلال شهر أكتوبر الماضي مبادرة لحوار وطني اقتصادي واجتماعي تحت إشراف رئيس الجمهورية قيس سعيد لإيجاد توافق بين مكونات المشهد السياسي والمنظمات الوطنية والخبراء بشأن منوال التنمية الجديد والإصلاحات الاقتصادية التي يجب الشروع فيها والقيام بها في السنوات المقبلة مهما تغيرت الحكومات.
وكان الأمين العام للتيار الديمقراطي غازي الشواشي قد صرح في وقت سابق بأن “الوقت حان للابتعاد عن الصراعات السياسية العقيمة في الداخل، التي ساهمت في تعميق الأزمات، والذهاب إلى إصلاح أوضاع التونسيين الاقتصادية والصحية”، مشيرًا إلى أن التيار الديمقراطي أطلق مبادرة وطنية اقتصادية واجتماعية تحت إشراف رئيس الجمهورية، لأن الأخير هو الجهة الوحيدة القادرة على الجمع، وبالتالي فإن عليه التدخل في فترة الأزمة وفرض الأمن العام، خصوصًا أنه رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي.
من جانبه دعا رئيس البرلمان التونسي، راشد الغنوشي (حركة النهضة)، إلى حوار وطني اقتصادي واجتماعي معمق ومسؤول يجمع الحكومة ومجلس نواب الشعب والمنظمات الاجتماعية والمهنية والأحزاب السياسية تحلل فيه الإشكاليات وتقدم المعالجات العلمية والمستعجلة، مشيرًا إلى أن هذا الحوار كفيل بوقف تدحرج الأوضاع الاقتصادية ووضع البلاد على سكة الإصلاحات الكبرى.
الغنوشي أوضح أيضًا أن “العقل التونسي قادر على إيجاد حلول بإرادة سياسية واضحة يشترك فيها الجميع بعيدًا عن المعارك الجانبية، وتونس أثبتت أنها قادرة على تجاوز كل الصعوبات بالحوار الذي يجمع القوى الوطنية”، مستدركًا القول: “مطالب التنمية المحلية والعدالة الاجتماعية، وتحسين ظروف المعيشة مشروعة لأبناء الشعب التونسي، لكن دون خروج الاحتجاجات عن إطارها لتهدد السلم الأهلي ووحدة الدولة واستقرار مؤسساتها”.
دعوة الغنوشي تزامنت مع صدور البيان الختامي لاجتماع مجلس شورى حركة النهضة الذي جدد الدعوة إلى حوار وطني لا يستثني أي حزب أو جهة بما فيها الحزب الحر الدستوري بقيادة عبير موسي الذي يتهمها خصومها بتلقي تمويلات إماراتية لضرب الثورة، وهي خطوة وصفها كثيرون بأنها تأتي في سياق وصول الأحزاب السياسية في تونس إلى النفق المسدود الذي يتطلب حوارًا يجنب البلاد الانزلاق إلى الفوضى والفراغ الذي يمهد للانقلاب على إرادة الشعب.
رئيس الحكومة هشام المشيشي لم يتخلف عن ركب الداعين للحوار وأكد في كلمة أمام البرلمان أن الحكومة تبسط يدها لكل مبادرات الحوار البناءة وتدعمها، متعهدًا بأن تكون هذه الحكومة حكومة العمل والإنجاز وأن تواصل التعامل “بنفس الجرأة وعزيمة أكبر وأكثر إصرارًا على التغيير، بأكثر إيمان بالانتقال الديمقراطي وبضرورة تكريس كل مبادئ الدستور”.
لم تقف الدعوة لإجراء حوار وطني شامل عند السياسيين، فالعديد من الأطراف كثفت في الأيام الماضية دعواتها إلى استعجال خطوات إنقاذ تونس من أزماتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعصف باستقرارها مع تنامي الاحتجاجات وتعطيل الإنتاج في عدد من المحافظات، لكن هذه الدعوات تواجه العديد من العقبات أبرزها ضرورة تحصيل ضمانات من الأحزاب السياسية بإعلان انخراطها في الحوار دون قيد أو شرط مسبق.
فرص النجاح
إلى حد كتابة هذه الأسطر، تجد فكرة عقد حوار وطني شامل استحسانًا وقبولًا من جميع الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والمجتمع المدني، لكن على ما يبدو فقد اصطدمت وهي في مهدها الأول بالمزايدات والتجاذبات بين الأحزاب التي يمكن أن تكون عائقًا أمام ميلادها، فالقبول بالمبادرة كعنوان بارز لا يعني لزامًا الرضا بمضامينها التي قد تتعارض مع مصالح بعض الأحزاب.
من جهة أخرى، ورغم أن الحوار الوطني يعد فرصة لكل الأطراف الممثلة للمشهد السياسي في تونس للخروج من قمقم الأزمة ومتنفسًا لكل الأحزاب باختلاف مرجعياتها الإيديولوجية ولسلطة القائمة برؤوسها الثلاث (الرئاسة ورئاسة الحكومة والبرلمان) من الضغوط الشعبية المدفوعة بالاحتجاجات على غياب التنمية وتفاقم معضلة البطالة، إضافة إلى تداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد الوطني المنهك، فإن هذه الخطوة غير كافية لإعادة الاستقرار والبناء على قاعدة صلبة ومتينة، على اعتبار أن المشهد السياسي في تونس غير متجانس، فرئيس الدولة مستقل والبرلمان مشتت وأحزاب غير قادرة على تحقيق الأغلبية للحكم.
وفي سياق متصل، يطرح هذا المشهد السياسي التونسي المعقد والمبني على تحالفات براغماتية نفعية بحتة العديد من الفرضيات والعوائق، خاصة أن بعض الأطراف السياسية خاصة تلك الوظيفية التي تعمل بالوكالة للدول المضادة للثورات قد تقبل الانخراط في الحوار الوطني ليس لغاية إيجاد حلول للأزمة الراهنة، لكن من أجل طي صفحة الحكومة الحاليّة وهدم وطمس الانتقال السياسي برمته.
أما بعض الأحزاب السياسية (التيار الديمقراطي وحركة الشعب) ممن رحبت بمبادرة الاتحاد، فإنها تحاول الدفع لتشكيل جبهة سياسية لمواجهة حركة النهضة (الإسلام السياسي) وحليفيها قلب تونس وائتلاف الكرامة، ما يعني أن مبادرة منظمة الشغيلة التي أعلن القائمون عليها وقوفهم على مسافة واحدة من جميع الأحزاب، ستكون موضع احتراز وشك.
من جانب آخر، فإن إجراء الحوار رهين بمدى استعداد الرئيس قيس سعيد لتخليه عن مواقفه القديمة التي يحرص على تقديمها بأنها ثابتة لا تتغير كعدم التعامل مع بعض الأطراف على غرار حزب قلب تونس وائتلاف الكرامة والحزب الحر الدستوري، وبمجازفته في رعاية مبادرة قد تسقط حكومة المشيشي ولا تعيد الاستقرار للبلاد، وبالتالي يتوضح مشروع الرئيس في تغيير نظام الحكم عبر ترذيل العمل السياسي والمنظومة الحزبية التي أعلن سابقًا أنه لا يؤمن بها، ودفع الناس لطرح ثقتهم فيها ثم الخروج إلى الشارع ضمن إستراتيجية الفوضى الثورية.
بطن الزجاجة
يمكن القول إن مبادرات الحوار الوطني في تونس على اختلافها، باتت تقدم على أنها الحل الوحيد لإخراج البلاد من أزمتها غير المسبوقة على أكثر من صعيد، غير أن هذه الطرح قد يبدو نسبيًا لعدة اعتبارات أهمها الهزات والصدمات السياسية التي عانت منها البلاد طيلة العشر سنوات التي أعقبت ثورة 14 يناير.
فتجربة الحوار الوطني في أواخر 2013 التي قادها الرباعي الراعي وحاز على إثرها جائزة نوبل للسلام، جنبت البلاد الانزلاق في أتون الصراع والحرب أهلية وعززت ركائز الانتقال الديمقراطي عن طريق سياسة التوافق التي انتهجها الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، لكنها أنتجت في مقابل ذلك، أنموذجًا لحكم التكنوقراط برئاسة المهدي الجمعة الذي أثبت فشله الذريع في إدارة البلاد، وهو الأمر الذي تكرر مع رئيس الحكومة الحاليّ هشام المشيشي (تكنوقراط) الذي خلف إلياس الفخفاخ.
في غضون ذلك، يبدو أن التخلص من حكم الأحزاب لصالح التكنوقراط خاصة في ظل برلمان لا تحكم في تحالفاته المنطق الإيديولوجي، لم يكن الحل الأمثل لإعادة الاستقرار واستكمال مرحلة البناء الاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي فإن الحوار الذي لا يقرب وجهات نظر الأحزاب السياسية ولا ينتهي بعقد وطني بينهم سيكون ناقصًا ومعلولًا أي أن الأزمة ستنزل من عنق الزجاجة إلى بطنها مؤقتًا إلى حين توافر العوامل الملائمة إلى عودتها للقمة مجددًا.
بالمحصلة، قد يذهب البعض إلى أن الحوار الوطني الموعود هو الحل السحري الذي قد يخرج البلاد من عنق الزجاجة ويعيد قطارها الديمقراطي إلى سكة الاستقرار السياسي والاجتماعي ويدفع رافعات اقتصادها وحركة إنتاجها أو أن يمنح المواطنين الكرامة وهي شعار ثورتهم، فدون إرادة سياسية ورجالات وطنيين وأحزاب لا تنتظر البيان رقم واحد ومجتمع واع، لن تنجح تونس في تجاوز مرحلة العطب السياسي المركب والمستدام بشكل نهائي، وستبقى البلاد رهينة زجاجة تتقاذفها أمواج الأزمات العميقة.