يعد قطاع الأدوية في مصر من أكثر القطاعات التي تُسيل لعاب المستثمرين الأجانب نظرًا لما يتضمنه من فرص واعدة في ظل سوق مفتوح على مصراعيه أمام رؤوس الأموال الخارجية التي تضخ فيه حزم مليارية متعددة بما تحقق عوائد شبه مضمونة، الأمر الذي جعل هذا المجال قبلة الكثير من الشركات ورجال الأعمال.
وفي ظل التحريك المستمر في خريطة أسعار الأدوية خلال الأعوام الماضية، لا سيما منذ قرار تعويم العملة المحلية المصرية (الجنيه) عام 2016، وما نجم عنه من تضخم في منسوب أرباح الشركات العاملة في هذا القطاع، هرولت العديد من الكيانات الاستثمارية للحصول على نصيب من تلك التورتة.
وكانت الشركات السعودية والإماراتية على وجه التحديد في مقدمة الاستثمارات الأجنبية التي حرصت على غزو هذا السوق، أملًا في تحقيق أرباح إضافية تعوض تراجع مؤشراتها في الأسواق الأخرى التي توجد بها، سواء في الدول العربية أم الأوروبية.
وآخر حزم الاستثمار المقدمة في هذا المجال، اقتراب تحالف سعودي إماراتي من الاستحواذ على واحدة من أكبر شركات الأدوية في مصر، الأمر الذي أثار مخاوف المراقبين لهذا القطاع بشأن الاستحواذ الخليجي على السوق الدوائي بما ينعكس سلبًا على مستقبل الشركات المصرية العاملة في هذا المجال وخريطة التسعير العلاجية التي من الممكن أن يكون لها تداعياتها السلبية على المواطن المصري.
شركة آمون.. أحدث الصفقات
بحسب تقرير لوكالة “بلومبيرج” فإن صندوق الاستثمارات السعودي وشركة الاستثمار الإماراتية القابضة “إيه دي كيو” باتا على بعد خطوات قليلة من الاستحواذ على شركة “آمون للأدوية” المملوكة لشركة بوش هيلث كوز العالمية (فاليانت سابقًا)، التي اشترت الشركة المصرية عام 2015، في صفقة تقدر قيمتها بـ800 مليون دولار.
الوكالة أشارت إلى أن الشركة الإماراتية كانت تسعى لإنهاء الصفقة بطريقة منفردة مقابل 700 مليون دولار، في أكتوبر/تشرين الأول 2020 قبل أن يدخل الصندوق السعودي شريكًا فيها، ليرفع قيمتها في محاولة لإقناع إدارة الشركة بالموافقة وتسهيل إجراءات البيع.
شهدت الاستثمارات السعودية والإماراتية في قطاع الدواء والصحة في مصر خلال السنوات الأخيرة تطورًا كبيرًا، سواء من حيث حجم الاستثمارات أم الحصة المملوكة في الشركات المصرية
التقرير لفت إلى أن المفاوضات الجارية الآن لإنهاء الصفقة يغلب عليها طابع السرية، فيما امتنعت الشركة الإماراتية والصندوق السعودي عن التعليق على الأنباء المتداولة بشأن قرب انتهاء عملية البيع، فيما لم يرد المتحدثون الرسميون باسم الجهتين على مكالمتين للوكالة ورسالة نصية ثالثة.
وخلال العامين الماضيين سعت الصناديق السيادية في البلدين الخليجيين إلى تعزيز استثماراتها في الخارج تحسبًا لأي تداعيات سلبية لخريطة أسواق النفط العالمية، ما دفعهما إلى البحث عن أسواق جديدة للحضور من خلالها بما يحقق العائد القادر على تعويض أي هزات محتملة في المورد النفطي الذي تعتمد عليها الاقتصادات الخليجية بصورة رئيسية.
وتعد “آمون للادوية” التي تأسست عام 1991 إحدى أكبر الشركات العاملة في سوق الدواء المصري، وتتصدر قائمة تلك الشركات في عدد المستحضرات البشرية والبيطرية والمكملات الغذائية، فيما تجاوز حجم مبياعتها خلال العام الماضي، 2019، حاجز الـ3.7 مليار جنيه.
الدواء يثير شهية المستثمرين الخليجيين
لم يكن صندوق الاستثمارات السعودي وشركة الاستثمار الإماراتية القابضة وحدهما الساعين إلى الاستثمار في سوق الدواء المصري، فهناك العديد من المحاولات السابقة لإبرام صفقات في هذا المجال، وذلك بعد التسهيلات التي منحها المشرع المصري لجذب الاستثمارات الخارجية.
ومن أبرز تلك المحاولات إعلان شركة الخليج للصناعات الدوائية “جلفار”، الإماراتية في مارس/آذار 2018 ضخ استثمارات في سوق الدواء المصري تقدر بـ250 مليون درهم (مليار و200 ألف جنيه تقريبا)، وذلك عبر إنشاء مصنع دواء في مصر يخصص لإنتاج الأنسولين والمضادات الحيوية وأدوية الضغط.
وشهدت الاستثمارات السعودية والإماراتية في قطاع الدواء والصحة في مصر خلال السنوات الأخيرة تطورًا كبيرًا، سواء من حيث حجم الاستثمارات أم الحصة المملوكة في الشركات المصرية، إذ تستحوذ “أبراج كابيتال” الإماراتية على معامل “البرج” و”المختبر”، بجانب 15 مستشفى خاص.
أما على الجانب السعودي فتستحوذ مجموعة “علاج السعودية”، Egypt – Elaj Group، على 9 مستشفيات خاصة مصرية، بجانب استثماراتها المتعددة في بعض معامل التحاليل الشهيرة، أبرزها معامل “كايرو لاب”، وحصة تقدر بـ75% من مراكز “تكنوسكان” للأشعة.
ويقدر حجم سوق الدواء في مصر بنحو 400 مليار جنيه مشكلًا ما نسبته 1.3% من الناتج المحلى الإجمالى خلال 2016-2017، فيما تبلغ حجم الاستثمارات في هذا القطاع نحو 80 مليار جنيه (8.6% من إجمالى الاستثمارات في 2018 -2019) أي ما يعادل إنتاج 2.5 مليار علبة دواء سنويًا.
ويعتمد السوق في مجمله على الواردات التي بلغت نحو 2.61 مليار دولار، مقارنة بـ271.85 مليون دولار فقط للصادرات خلال عام 2019، ما يعني أن ما يستورده هذا القطاع يمثل 9 أضعاف ما يصدره، وهو الأمر الذي يجعل الاستثمار في هذا القطاع مكلفًا للغاية لكن عائداته مضمونه حال التخطيط والإدارة الجيدة.
ما الذي يضمن ألا تتحول ملكية تلك الشركات التي تتسارع على شرائها الصناديق السيادية والشركات السعودية الإماراتية إلى ملكية إسرائيلية فيما بعد عن طريق صفقات جديدة؟
مخاوف الاحتكار
العديد من المخاوف أثارتها المساعي الإماراتية السعودية للتوغل داخل سوق العلاج المصري، لا سيما أنهما يستهدفان الشركات الناجحة بطبيعة الحال، الأمر الذي يفند مبررات الحكومة بشأن النتائج الإيجابية لهذا الوجود الخليجي على مستقبل الصناعة الدوائية في مصر.
الخبراء يشيرون إلى أن تلك الاستثمارات لو وجهت لبناء مصانع جديدة لكان الأمر مقبولًا، غير أن استهداف شركة بحجم آمون ومن قبلها مصانع أخرى ومستشفيات ومعامل لها ثقلها المحلي، يحمل في مضمونه خطورة بالغة على مستقبل هذا المجال الذي يتدحرج يومًا تلو الآخر نحو الرضوخ في قبضة المستثمر الخليجي.
الاستمرار في تلك الإستراتيجية التي تهدف إلى إنعاش السوق مؤقتًا ببعض المليارات في الوقت الحاليّ، وهو التوجه العام للدولة في السنوات الأخيرة، سيكون لها ارتداداته السلبية مستقبلًا، إذ يهدد صناعة الدواء في مصر التي تعد أول دولة بهذا المجال في المنطقة منذ عام 1938.
الدكتور مجدي شحاتة، صاحب مجموعة صيدليات في مصر، يشير إلى أن فكرة الاستثمار في القطاع الدوائي المصري فكرة رابحة للغاية، فالسوق مغري للجميع في ظل حالة السيولة التي يعاني منها، كون مصر واحدة من أكثر دول المنطقة استهلاكًا للأدوية نظرًا لارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض المزمنة.
وفي حديثه لـ”نون بوست” كشف أن الاستثمار السعودي الإماراتي بصيغته الحاليّة (الاستحواذ على شركات ناجحة بالفعل) لا يمثل أي إضافة لصناعة الدواء ولا سوق العلاج في البلاد، فالدولتان، السعودية والإمارات، ليس لديهما أي تميز يذكر في مجال صناعة الدواء، متسائلًا: ما القيمة التي يمكن أن يضيفاها إلى القطاع الصيدلي المصري؟
وألمح إلى أن العملية في حقيقتها ليست إلا صفقة بيع وشراء، نقل ملكية شركة آمون من ملاكها القدماء إلى ملاك جدد بسعر أكثر إغراءً، دون إضافة منتجات جديدة أو استحداث آليات لتطوير الأصناف الحاليّة، وهو ما يثير مخاوف الكثيرين في هذا المجال، إذ إنه لو استمر الحال على ما هو عليه، وهو المتوقع، فربما تجد الشركات المصرية نفسها في مأزق، بين مطرقة الرضوخ لشروط المستثمرين الجدد للاستمرار في السوق الذي بات على مشارف الاحتكار أو الإغلاق والبيع لنفس المستثمرين.
بعد آخر أثار حفيظة المراقبين وهو ما يتعلق بمستقبل هوية مصانع الأدوية المصرية، فما الذي يضمن ألا تتحول ملكية تلك الشركات التي تتسارع على شرائها الصناديق السيادية والشركات السعودية الإماراتية إلى ملكية إسرائيلية فيما بعد عن طريق صفقات جديدة؟ لا سيما بعد الهرولة الخليجية نحو التطبيع مع دولة الاحتلال.