يبدو أن الانطباع العام الذي تشكل عن دول الخليج كقبلة للباحثين عن الثراء ورغد العيش على مدار العقود الماضية لن يدوم طويلًا خلال المرحلة المقبلة، فلأول مرة يتم المساس برواتب مواطني تلك الدول في ظل العجز الذي تشهده اقتصادات الخليج بسبب تداعيات جائحة كورونا والهزة العنيفة التي شهدتها أسعار النفط الذي يشكل الغالبية العظمى من موارد تلك البلدان.
اضطرت حكومات الخليج خلال الأعوام الثلاث الماضية إلى تقليص معدلات الإنفاق عبر حزم من الترشيد والتقشف، تضمنت الجور على أجور المواطنين من خلال إلغاء العديد من المنح والامتيازات ووقف العلاوات السنوية، هذا بخلاف زيادة نسب ومعدلات الضرائب المفروضة، في محاولة لتعويض العجز المتفاقم عامًا تلو الآخر.
وفي منتصف أغسطس/آب الماضي، فوجئ الخليجيون بتصريح أثار الجدل لوزير المالية الكويتي براك الشيتان، قال فيه إن بلاده تواجه صعوبة في توفير فاتورة رواتب موظفي الدولة، بسبب شح السيولة التي تعاني منها المالية العامة، ملمحًا إلى احتمالية ألا يجد الكويتيون رواتبهم بعد ثلاثة أو أربعة أشهر قادمة.
التقارير الواردة عن المنظمات الاقتصادية وبيوت الخبرة العالمية تشير إلى أن الكويت ربما لن تكون الدولة الوحيدة التي قد تعاني من عجز في رواتب موظفيها، فضلًا عن المقيمين والوافدين، إذ باتت على بعد أمتار قليلة منها دول خليجية أخرى، – كالسعودية والإمارات – تعتمد بصورة كبيرة على عائدات النفط المتأثرة بأزمة الأسعار وتداعيات كورونا.
الأكثر تضررًا
رغم مظاهر البذخ والإنفاق التي تغلف المشهد السعودي تحت قيادة ولي العهد محمد بن سلمان، فإن لغة الأرقام تشير إلى عكس ذلك تمامًا، إذ إن المملكة باتت الدولة الخليجية الأكثر تضررًا في المنطقة بسبب كورونا، وذلك بحسب التقارير والمؤشرات الصادرة عن العديد من الكيانات الاقتصادية المتخصصة.
المملكة هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي تعاني من عجز متفاقم في ميزانيتها العامة على مدار خمسة أعوام متتالية، بلغ مستويات غير مسبوقة في تاريخها، ووصل إلى الحد الذي باتت فيه عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها المالية ومواصلة الإنفاق العام.
في الـ12 من نوفمبر/تشرين الثاني كشف ابن سلمان أن الإيرادات النفطية لبلاده تراجعت من 137 مليار دولار كما هو مخطط له في الموازنة إلى 109 مليارات دولار خلال السنة المالية الحاليّة، وهو الرقم الذي لا يغطي بند الرواتب فقط، التي تقدر بـ130 مليار دولار.
وكانت الرياض خلال إعلانها عن موازنتها لهذا العام 2020، قد كشفت عن عجز متوقع بقيمة 50 مليار دولار، إلا أن المؤشرات تذهب إلى أن الرقم سيتجاوز ما توقعته بسبب معدلات الإنفاق المفاجئة على الإجراءات الاحترازية لمواجهة الوباء العالمي، في مقابل تراجع الموارد بسبب توقف المشروعات وتأجيل بعضها.
الوضعية الاقتصادية الصعبة التي تواجهها المملكة دفعت وكالة “فيتش” للتصنيفات الائتمانية إلى توقع انكماش الاقتصاد السعودي لأكثر من 4% وزيادة عجز الميزانية إلى 12.8% هذا العام، بجانب تعديلها للنظرة المستقبلية للسعودية إلى سلبية وإن أبقت التصنيف عند “A”.
في الأول من يونيو/حزيران الماضي أعلنت دبي عن نسبة انكماش مُني به اقتصادها بلغت 3.5% على أساس سنوي، في الربع الأول من العام الحاليّ، ما يعني 11% بنهاية العام
كما توقعت أن تنخفض صافي الأصول الأجنبية إلى 60% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2022 من نحو 72% في 2019-2020، بسبب إصدار ديون والسحب من الاحتياطيات، وذلك رغم الحزم التشجيعية التي قدمتها المملكة لدعم المناخ الاقتصادي وتشجيع الاستثمار.
ووفق تلك المؤشرات فإن وزارة المالية ربما تجد صعوبة في الوفاء بالتزاماتها تجاه الشركات والقطاعات الحكومية، الأمر الذي قد ينعكس على رواتب الموظفين والعاملين بالدولة، ومن المتوقع أن يحصلوا على جزء منها أو يخسروها بالكامل، ما لم تتغير الأوضاع والسياسات الحاليّة.
العديد من العاملين في جهات حكومية أشاروا في حديثهم لـ”نون بوست” أن هناك تأرجحًا في مواعيد صرف الرواتب خلال الآونة الأخيرة، ما بين تقليص في إجمالي الرواتب وتأخير صرفها، بجانب إلغاء معظم الحوافز والمكافآت الشهرية والسنوية المتعارف عليها قبل ذلك، إضافة إلى التلويح بين الحين والآخر بتقليص عدد العمالة والاستغناء عن البعض بسبب الظروف الاقتصادية العامة وتراجع حجم الموازنات المخصصة في العديد من الهيئات والشركات.
نزيف متواصل
لم تكن الإمارات بمعزل عما يحدث لجارتها السعودية، حيث تكبد اقتصادها خسائر فادحة بسبب الإغلاق وانهيار أسعار النفط أكبر مورد للميزانية العامة للدولة، وباتت إحدى الاقتصادات المهددة بسبب الأزمة المالية التي تواجهها المنطقة بأسرها، ما دفع الحكومة إلى خفض ميزانيتها الاتحادية للعام القادم إلى 15.8 مليار دولار وبنسبة 5.3% مقارنة بميزانية العام الحاليّ البالغة 16.7 مليار دولار.
وقد تلقت دبي هزات اقتصادية عنيفة أحدثت خللًا كبيرًا في مرتكزات الاقتصاد الوطني وتراجعًا حادًا في معدلات نموه، ربما يتجاوز – بحسب توقعات الخبراء – أربعة أضعاف ما حدث خلال الأزمة المالية العالمية في 2009، وفقًا لتأكيدات وكالة “ستاندرد آند بورز غلوبال” الائتمانية.
في الأول من يونيو/حزيران الماضي أعلنت دبي عن نسبة انكماش مُني به اقتصادها بلغت 3.5% على أساس سنوي، في الربع الأول من العام الحاليّ، ما يعني 11% بنهاية العام، أرجعته إلى الضرر الذي لحق بقطاع السياحة والأعمال في الشرق الأوسط بسبب كورونا، لا سيما القيود التي فُرضت على رحلات الطيران وخطوط الملاحة والنقل.
الاستمرار في السياسات المالية الحاليّة التي تنتهجها السلطات الإماراتية، وتجاهلها لإستراتيجيات الإصلاح، سيؤدي إلى تفاقم الأوضاع ويقود إلى مزيد من الإخفاق الحكومي
كما بلغ حجم الدين المباشر للإمارة 123.45 مليار درهم (33.61 مليار دولار) في 30 من يونيو/حزيران الماضي، منها 10 مليارات دولار في صور تسهيلات ائتمانية جددتهم في ديسمبر/كانون الأول الماضي لمدة خمسة أعوام، بجانب قرض حصلت عليه بقيمة 10 آخرين من المصرف المركزي في مارس/آذار 2019.
ولمواجهة تلك التحديات اعتمدت دبي حزم تحفيزية لتشجيع الاقتصاد بلغت قرابة 6.3 مليارات درهم (1.71 مليار دولار)، لكنها لم تؤت ثمارها، إذ لا تزال الأوضاع تسير من سيئ إلى أسوأ، الأمر الذي انعكس بطبيعة الحال على حجم ومعدلات الاستثمارات الخارجية في الإمارة التي كانت حتى وقت قصير قبلة مستثمري العالم.
العديد من خبراء الاقتصاد يحذرون من أن الاستمرار في السياسات المالية الحاليّة التي تنتهجها السلطات الإماراتية، وتجاهلها لإستراتيجيات الإصلاح، سيؤدي إلى تفاقم الأوضاع ويقود إلى مزيد من الإخفاق الحكومي في الوفاء بالتزاماتها وعلى رأسها سداد رواتب العاملين في الحكومة، هذا بخلاف المأزق الذي يعاني منه العاملون في القطاع الخاص.
وهكذا يتعرض المواطنون في دول الخليج النفطية في سابقة هي الأولى من نوعها للمساس برواتبهم الأساسية، سواء عبر التقليص أم التأخير أم عدم الحصول عليها من الأساس، بعد عقود من السخاء والرفاهية، بفضل السياسات المالية المتردية التي تنتهجها حكومات تلك الدول والتي أودت بشعوبها إلى ما وصلت إليه الآن.