يبدو أن إبرام اتفاق التطبيع بين السودان و”إسرائيل” وإدخاله حيز التنفيذ لم يكن أمرًا هينًا كما تخيله الكثير من المراقبين، وليس بالصورة المبسطة التي قدمها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حين أعلن عنه قبل أكثر من شهر تقريبًا، وذلك مقارنة بالأريحية التي تمت بها مع الإمارات والبحرين.
تعقيدات المشهد السوداني، الداخلي والخارجي، والكواليس المحيطة بتلك الخطوة التي تأمل منها السلطات الحاليّة تحقيق أكبر قدر من الاستفادة، جعلت عملية التوقيع الرسمي مسألة محفوفة بالشكوك في ظل الأجواء غير المبشرة التي ربما تصدم الشارع السوداني بمجانية هذا التنازل والفشل في الحصول على المكاسب التي سعى جنرالات الحكم لدغدغة مشاعر الشعب بها لتمرير وتبرير هذا التحرك المثير للجدل والصادم لفئة كبيرة من السودانيين.
وبعد 42 يومًا تقريبًا على الإعلان عن اتفاق البلدين على تطبيع العلاقات، أفادت صحيفة “نيويورك تايمز” أن الاتفاق يواجه خطر الانهيار، بسبب عدم وفاء واشنطن بالمطالب السودانية التي كانت قد تقدمت بها شريطة التطبيع وعلى رأسها رفع اسم البلاد من قوائم الإرهاب وتدشين قانون يحصن السودانيين من أي دعاوى قضائية يقدمها عائلات ضحايا تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001.
يتزامن ذلك مع ضغوط سياسية شعبية وحزبية تطالب السلطات الانتقالية بإعادة النظر في هذا الاتفاق والتراجع عنه في أقرب وقت، كونه يتعارض مع مرتكزات السودان العروبية والقومية وعلى رأسها الدعم الكامل للقضية الفلسطينية ورفض أي مساعٍ للتقارب مع دولة الاحتلال قبيل حصول الفلسطينيين على كامل حقوقهم.
الشرط والضمانة
الصحيفة نقلًا عن مصادر مسؤولة أشارت إلى إجراء رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، اتصالًا هاتفيًا مع وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، أول أمس الإثنين، أكد خلاله أن موافقة الكونغرس، نهاية الشهر الحاليّ، على القانون الذي يمنح السودان حصانة من الدعاوى القضائية التي يقدمها عائلات ضحايا تفجيرات 2001، هو شرط المضي قدمًا في تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”.
وبحسب المصدر الذي نقلت عنه الصحيفة وقالت إنه مطلع على المكالمة الهاتفية فإن وزير الخارجية الأمريكي طمأن رئيس مجلس السيادة السوداني بأن خطة الحصانة سيتم الموافقة عليها خلال الأسابيع المقبلة، دون تحديد موعد محدد لذلك.
يرى مراقبون أن انتهاء ولاية ترامب وخروجه من الحكم دون إتمام هذا الاتفاق سيمثل عقبة كبيرة لدى الجانب السوداني الذي تعامل مع هذا العرض كونه مبادرة ترامبية بحتة
وفي المقابل ترى “نيويورك تايمز” أن مناقشة هذا القانون داخل الكونغرس وصلت إلى طريق مسدود، وهو ما يمكن أن يعقد إجراءات إبرام الاتفاق، غير أن مسؤولًا في مجلس الشيوخ الأمريكي أشار إلى أن خطة الحصانة السودانية يمكن إدراجها ضمن مشروع قانون كبير للإنفاق العسكري، وعليه لا يجد الكونغرس أي حرج في الموافقة عليه.
ويسعى ترامب خلال الأيام المقبلة وقبل رحيله رسميًا عن البيت الأبيض الشهر المقبل أن ينهي هذا الملف في أقرب وقت، ووفقًا للصحيفة فإن إدارة الرئيس تخطط لعقد حفل توقيع رسمي، خلال هذا الشهر، للاتفاق السوداني الإسرائيلي في البيت الأبيض على غرار الموقع مع الإمارات والبحرين منتصف سبتمبر/أيلول الماضي.
ويرى مراقبون أن انتهاء ولاية ترامب وخروجه من الحكم دون إتمام هذا الاتفاق سيمثل عقبة كبيرة لدى الجانب السوداني الذي تعامل مع هذا العرض كونه مبادرة ترامبية بحتة، بهدف توظيفها دعائيًا خلال الماراثون الرئاسي الذي خسره مؤخرًا، الأمر الذي ربما يضع العملية برمتها في مهب الريح إن لم يتم إنجازها خلال الأيام المتبقية للرئيس في الحكم.
ضغوط شعبية
لم يكن عدم وفاء الأمريكان بتعهداتهم حتى الآن التحدي الوحيد أمام إبرام اتفاق التطبيع، فالضغوط الشعبية الداخلية تتصاعد يومًا تلو الآخر، لتتسع رقعتها شيئًا فشيئًا بعد انضمام المزيد من القوى والكيانات السياسية والمدنية التي ترى في هذا الاتفاق وصمة عار في جبين الدولة السودانية.
فمنذ اللقاء الأول الذي جمع بين البرهان ونتنياهو في أوغندا فبراير/شباط الماضي، والزخم الشعبي الرافض للتطبيع يتزايد، وصل إلى ذروته في الـ23 من أكتوبر/تشرين الثاني الماضي حين تم الإعلان رسميًا عن اتفاق السودان و”إسرائيل” على تطبيع كامل للعلاقات بينهما، وذلك عقب اتصال مشترك مع رئيسي الوزراء السوداني عبد الله حمدوك ونظيره الإسرائيلي.
وأمام هذا التموضع الجديد للبلاد ومساعي الانضمام إلى حظيرة التطبيع تم تدشين جبهة سياسية عريضة رافضة للتطبيع، هدفها مناهضة التحركات كافة التي من شأنها تسريع هذا الاتفاق، والعمل على وأده والحيلولة دون إتمامه، وقد انضم لتلك الجبهة ما يزيد على 30 حزبًا وجماعةً ومنظمة مجتمع مدني بعضها من داخل قوى الائتلاف الحاكم.
إن خسارة ترامب وتباطؤ إدارته في الوفاء بالتزاماتها تجاه البلد الإفريقي، قلبت الموازين رأسًا على عقب
وقد أحدث الإعلان عن التطبيع مع دولة الاحتلال انقسامًا داخل المكون السياسي الحاكم في البلاد، وعلى رأسه قوى “الحرية والتغيير” حيث نددت أحزاب “الشيوعي” و”البعث العربي الاشتراكي” و”الناصري” المكونة لـ”تحالف الإجماع الوطني” بتلك الخطوة، بجانب أحزاب “الأمة القومي” و”المؤتمر السوداني” و”البعث السوداني” و”الجبهة الثورية” المنضوية تحت تحالف “نداء السودان”.
الأمور تصاعدت إلى حد القيام بالعديد من الاحتجاجات في بعض المدن الرئيسية رفضًا للتطبيع، الأمر الذي وضع السلطة الانتقالية في مأزق حقيقي، وباتت أمام تحد كبير يتعلق بالحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب لتبرير تلك الخطوة وهو ما لم يتحقق حتى اليوم.
وقد لاقى الرفض الشعبي تأييدًا عروبيًا على نطاق واسع، كما جاء في النداء الذي وجهته “المجموعة الأكاديمية لفلسطين” (مجموعة تضم عددًا من الأكاديميين العرب الداعمين للقضية الفلسطينية) وأكثر من 200 أكاديمي عربي وفلسطيني، ثمنوا من خلاله الموقف الشعبي من الاتفاق المزعم، لافتين إلى أن الحراك بزخمه الحاليّ “يؤكد أن الغالبية الكاسحة من الشعب بكل قواه الشعبية وشرائحه تقف إلى جانب فلسطين وعدالة قضيتها والحق الفلسطيني الذي لا يتغير مع تغيُّر السياسة والمصالح”.
رغم الخطوات المتسارعة في الإعلان عن اتفاق التطبيع بين السودان ودولة الاحتلال والاحتفاء الذي قوبل به في الداخل والخارج والآمال التي عقدت على هذه الخطوة لتذليل العقبات الاقتصادية أمام الحكومة الانتقالية، فإن خسارة ترامب وتباطؤ إدارته في الوفاء بالتزاماتها تجاه البلد الإفريقي، قلبت الموازين رأسًا على عقب، فهل يسابق الرئيس الخاسر في الانتخابات الزمن لإبرام هذه الخطوة قبل الرحيل؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.