بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في تنفيذ تهديداتها تجاه حلفاء حفتر، حيث فرضت عقوبات هي الأولى من نوعها على إحدى أبرز المجموعات المسلحة التابعة له، الأمر الذي اعتبره العديد من المراقبين بداية تحول في الموقف الأمريكي تجاه الأوضاع في ليبيا بعد سنوات اتسم فيها موقفها بالغموض.
عقوبات مهمة
العقوبات الأمريكية على مليشيا “الكانيات” وقائدها محمد الكاني، تأتي في إطار “قانون ماغنيتسكي” الذي يستهدف “الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والفساد في جميع أنحاء العالم”، وفق ما أعلنه وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوتشن.
وأوضح مكتب مراقبة الأصول الأجنبية “أوفاك” التابع لوزارة الخزانة الأمريكية، أن الجماعة مسؤولة عن العديد من المقابر الجماعية في ترهونة بليبيا، قائلة: “محمد الكاني ومليشيا الكانيات عذبوا وقتلوا مدنيين خلال حملة قمع قاسية في ليبيا”.
الخزانة الأمريكية أكدت اكتشاف ما لا يقل عن 11 مقبرة جماعية تحتوي على جثث مدنيين سبق أن احتجزتهم مليشيا الكانيات، بينهم نساء وأطفال وشيوخ “وظهر أن بعض الموتى تعرضوا للتعذيب أو الحرق أو الدفن أحياء”، وأكدت الوزارة أن مليشيا الكانيات مسؤولة أيضًا عن مئات الإعدامات بإجراءات موجزة في سجن ترهونة، وحالات اختفاء قسري عديدة، وتشريد عائلات بأكملها من ترهونة.
فيما قالت الخارجية الأمريكية إن هذه العقوبات تم فرضها لصلة هذه المليشيا بمقتل مئات المدنيين في السنوات الأخيرة، وشنها حملة من أعمال العنف غير القانونية في منطقة طرابلس عندما كانت متحالفة مع حفتر، قبل الهدنة الفعلية التي تم التوصل إليها في ليبيا في يونيو/حزيران 2020.
يقين حفتر التام بعدم وجود مستقبل سياسي له في ليبيا، جعله يسعى بما أتى من جهد لعرقلة فرص السلام، حتى إن كلفه ذلك الإقدام على القيام بأي عمل متهور
إدراج الخزانة الأمريكية للمليشيا وقائدها محمد الكاني، في قائمة العقوبات، جاء بعد أقل من أسبوع من إحباط روسيا مساعي أمريكية وألمانية على مستوى “لجنة عقوبات ليبيا”، لوضع هذه المليشيا ضمن قائمة العقوبات الأممية، نتيجة لانتهاكها حقوق الإنسان في ليبيا.
وبموجب هذه العقوبات الأمريكية، يتوجب حظر كل ممتلكات مليشيا “الكانيات” وقائدها، وتشمل ما لديهم في الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مباشر أو غير مباشر، أو في حوزة أو سيطرة مواطنين أمريكيين يعملون معها.
وفي يونيو الماضي، اكتشفت قوات حكومة الوفاق المعترف بها من الأمم المتحدة وجود مقابر جماعية في مدينة ترهونة، تسببت فيها قوات حفتر قبل مغادرتها المدينة، كما كشفت الوفاق، عن مجموعة جثث محروقة وأخرى متحللة في مناطق عدة كانت تسيطر عليها قوات حفتر قبل فرارها منها.
ما هي الكانيات؟
تنتمي مليشيا الكانيات للسلفية المدخلية، ضمت إليها العديد من جنود نظام القذافي السابق، وتحالفت في البداية مع حكومة الوفاق، لكن كان لديها مشروعها الخاص وبسبب عدم انضباطها تم حلها، لكنها تحالفت فيما بعد مع قوات حفتر، ولعبت دورًا أساسيًا في سقوط عدة أحياء جنوبي العاصمة طرابلس لمعرفتها الجيدة بميدان المعركة.
كانت “الكانيات” في البداية تحمل اسم “اللواء الثامن”، مدعية انتماءها لحكومة الوفاق الوطني، لكنها انضمت فيما بعد إلى حفتر في حربه ضد العاصمة طرابلس، فتغير مسماها إلى مسمى “اللواء السابع”، وضمت إليها بقايا اللواء “المعزز” التابع لنظام القذافي سابقًا، ومنحت قائدها محسن الكاني رتبة “رائد”.
اشتهرت هذه المليشيا عام 2017 بأعمال قتل واسعة واختطاف للمعارضين لها وإبادة عائلات بأكملها وحرمان الأهالي من إتمام إجراءات الدفن، وتتهم أيضًا بتهجير عدد كبير من أهالي مدينة ترهونة وهدم مساكنهم ونهب ممتلكاتهم ومنعهم من العودة إبان سيطرة تلك المليشيات على المدينة.
خلال فترة سيطرتهم على مدينة ترهونة التي استمرت لسنوات عدة، عاش الأهالي هناك معاناة كبيرة، ولم يتحرروا منها إلا مع هروب هذه العصابة مطلع يونيو/حزيران الماضي إثر دخول قوات الوفاق الوطني إلى المدينة وتحريرها.
ارتكابها لجرائم بشعة، جعلت حفتر يثق بها ويوكل لها مهمة القيام بالعديد من الأعمال العدوانية، ما يؤكد أنه المسؤول الأول والمباشر عن جرائمها المتكررة وانتهاكاتها لحقوق المدنيين في مدن ليبية عديدة خاصة ترهونة.
تقليص هامش المناورة أمام حفتر
إدراج مليشيا الكانيات وقائدها في القائمة السوداء الأمريكية، من شأنه أن يقلص هامش المناورة أمام حفتر وأن يضيق عليه الخناق، حتى لا يتهور مجددًا ويقوم بأعمال تسقط الجهود الدولية الرامية لإيجاد حل سلمي للأزمة الليبية المتواصلة منذ أشهر.
هذا القرار الأمريكي يعتبر تحذيرًا لحفتر، خاصة أن العديد من العائلات الليبية الأمريكية، سبق لها رفع دعوى قضائية ضد خليفة حفتر أمام محاكم بولاية فرجينيا على مقربة من العاصمة واشنطن، باعتباره مواطنًا يحمل الجواز الأمريكي.
من مصلحة الإدارة الأمريكية القادمة، أن ترى ليبيا مستقرة، ما سيسهل عملها في جنوب البحر الأبيض المتوسط ومنطقة الساحل والصحراء الإفريقية الغنية بالموارد الطبيعية
يعني ذلك، أن على حفتر أن يتريث ويفكر مليًا عند اتخاذ أي خطوة قادمة في ليبيا، فالمحاكم الأمريكية تنظر في قضايا رُفعت ضده، وسبق أن قالت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا إنها لن تتهاون في مقاضاة الأفراد المتهمين بجرائم حرب بسبب الهجوم الذي شنته قوات حفتر على العاصمة الليبية طرابلس.
ويعتبر حفتر حجر عثرة أمام جهود المصالحة في البلاد، ليقينه التام بعدم وجود مستقبل سياسي له في ليبيا، ما جعله يسعى بما أتى من جهد لعرقلة فرص السلام، حتى إن كلفه ذلك الإقدام على فعل أي عمل متهور وإزهاق المزيد من الأرواح البشرية البريئة وارتكاب جرائم حرب، ففي كل مراحل المفاوضات السياسية كان حفتر المعرقل الأول، فيستخدم مليشياته لزعزعة أمن واستقرار ليبيا.
تغير في السياسة الأمريكية
يُفهم من هذا القرار، وجود تغيير في السياسة الأمريكية تجاه الأزمة الليبية، خاصة مع اقتراب تسلم جو بايدن مقاليد الحكم في البيت الأبيض خلفًا لدونالد ترامب الذي عُرف بدعمه للديكتاتوريات في الشرق الأوسط، فقد ثمن ترامب في اتصال هاتفي مع حفتر بداية حملته العسكرية على العاصمة الليبية دور الأخير في “مكافحة الإرهاب وتأمين موارد النفط”، ما فهم وقتها أنه ضوء أخضر أمريكي لحفتر لاجتياح طرابلس.
رحيل ترامب وقدوم بايدن إلى البيت الأبيض، من شأنه أن يعطي الضوء الأخضر للمؤسسات الأمريكية للتحرك ضد مصالح حفتر سواء في الولايات المتحدة أم ليبيا لمنع عرقلته لجهود السلام المتواصلة لحل الأزمة الليبية الخانقة.
من الصعب أن يولي بايدن في بداية حكمه اهتمامًا كبيرًا بالأزمة الليبية، لكن رغم ذلك فمن المنتظر أن تتجه إدارته إلى كبح جموح حفتر، فضلًا عن تقليصها لنفوذ الدول الداعمة له على غرار روسيا والإمارات ومصر.
كما من المتوقع أن تتجه الإدارة الجديدة إلى دعم حكومة الوفاق الوطني بقيادة فائز السراج – المعترف بها دوليا – ومن المتوقع في هذا الشأن أن تفرض الولايات المتحدة بعض العقوبات على اللواء المتقاعد خليفة حفتر والمقربين منه، ولا سيما أن المصلحة الأمريكية تكمن في رؤية ليبيا مستقرة، ما سيسهل عملها في جنوب البحر الأبيض المتوسط ومنطقة الساحل والصحراء الإفريقية الغنية بالموارد الطبيعية التي تهددها الجماعات الإرهابية المنتشرة هناك، لذلك ستعمل على تقليص دور حفتر والدول الداعمة له كونه أثبت همجيته وعدوانيته.