يقول الأسقف أندون مرداني من الكنيسة الألبانية الأرثوذكسية إن رئيس الوزراء الألباني إيدي راما، دعا رجال الدين في البلاد لمرافقته إلى باريس للتعبير عن تعازيهم لضحايا هجوم شارلي إيبدو والمشاركة في مسيرة ضد التطرف، ومشوا حينها جنبًا إلى جنب في الشوارع، مسلم وأرثوذكسي وكاثوليكي وبكتاشي، وهم يرتدون ملابسهم وإكسسواراتهم الدينية.
ويتابع “سادت حالة من التوتر في ذلك الوقت، لكن عندما رآنا السكان المحليون معًا، بدأوا في التصفيق والصراخ والصياح بكلمات مثل “برافو”، بالنسبة لنا، فمن الطبيعي جدًا أن نسير معًا، لكن في باريس كان شيئًا مميزًا للغاية، فقد واصل الناس الهتاف والتصفيق، وابتهجت الأجواء ونحن نسير في الشوارع”.
انعكاس هذا المشهد في شارع كافاجيس بالعاصمة الألبانية تيرانا، مختلفًا تمامًا، حيث يصعب على الناظر أن يميز بين المارة المسرعين وأولئك الذين يذهبون إلى المسجد للصلاة أو أولئك الذين يحضرون القداس في الكنيسة الكاثوليكية أو الأرثوذكسية. هذا الطريق – كافاجيس – هو ممر المؤمنين وغير المؤمنين، من جميع الأطياف، ومثال على التسامح الديني في ألبانيا، مع أن الوضع لم يكن سلميًا هكذا دائمًا، وما زال يشوبه بعض التوترات والاحتكاكات المقلقة من وقت لآخر.
هوية مختصرة
وفقًا لأحدث أرقام التعداد السكاني، فإن أكثر من نصف سكان ألبانيا البالغ عددهم 2.8 مليون نسمة (56.7%) مسلمون، والبقية موزعة كالتالي: 10% كاثوليك ونحو 7% أرثوذكس، وأقليات أخرى ملحدة أو لا تتبع دينًا محددًا.
وبصفة عامة، ينقسم مسلمو ألبانيا إلى مجموعتين رئيسيتين: سنة وبكتاشية شيعية وهي طريقة صوفية جاءت إلى ألبانيا خلال الفترة العثمانية، خاصةً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهي تشترك في بعض الأمور مع الطائفة العلوية بتركيا، وتوجد بشكل أساسي في أراضي توسك في الجنوب.
وهي منتشرة أيضًا في كوسوفو ومقدونيا الغربية، وتوصف أحيانًا بكونها دين المناطق الريفية والقروية، على عكس الإسلام السني الذي عزز وجوده في البلدات والمدن، ويضاف إليهما، أخويات صوفية أخرى من الدراويش كانت موجودة في ألبانيا منذ قرون، مثل Halvets وKadiris وRifais وSadis وTidjanis.
أول دولة ملحدة في العالم
جاء الإسلام إلى ألبانيا عبر الإمبراطورية العثمانية في القرن الرابع عشر، وانتشر سريعًا في الوسط والجنوب، وتحديدًا في المراكز الحضرية، لكنه تباطأ في المناطق الشمالية بسبب مقاومة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والتضاريس الجبلية التي ساهمت في كبح التأثير الإسلامي.
مع انهيار الدولة العثمانية وانسحابها بالكامل من الأراضي البلقانية كافة، اتبعت الأنظمة الديمقراطية والملكية ثم الشيوعية لاحقًا إهمالًا منهجيًا للأمة والثقافة الوطنية، ونتيجة لهذه السياسة، مثل جميع الأديان الأخرى في البلاد، خضع الإسلام لتغييرات جذرية.
تم إنشاء النصب التذكاري الذي يبلغ طوله 11 مترًا في عام 1968 في الذكرى 500 لوفاة سكانديربيغ (بطل قومي ألباني).
وقصة هذا التحول الذي نتج عنه فراغ ديني، تبدأ من اتفاقية لندن عام 1912-1913 التي وزعت أوروبا بموجبها أجزاءً من ألبانيا بما عليها من مواطنين على الدول المجاورة مثل صربيا واليونان والجبل الأسود ومقدونيا، ولم يبق إلا ألبانيا المعروفة بحدودها السياسية اليوم، وهذا كله أدى إلى إضعاف وحدة الشعب الألباني، وتحديدًا المسلمين منهم.
السبب في ذلك، تحول الأكثرية من المسلمين الألبان إلى أقليات مضطهدة ومهمشة في البلدان التي وزعوا فيها من جانب وارتفاع نسب الأقليات مقابل المسلمين في الأراضي الألبانية من جانب آخر، وهي الواقعة التي جعلت ألبانيا دولة أقليات بدلًا من أن تكون دولة إسلامية فيها أقليات، خاصةً أن الدول الأوروبية فرضت عليها أن تكون إمارة محايدة خاضعة للرقابة الدولية الجماعية وأن تؤخر الإسلام عن أولوياتها وتقطع علاقاتها الثقافية بالعالم الإسلامي وتستبدل أبجديتها العربية بحروف لاتينية وأن يتبنى دستورها القيم العلمانية وفقًا للمعايير الأوروبية.
عام 1976، أصبحت ألبانيا الدولة الملحدة الوحيدة المعلنة رسميًا في العالم والتاريخ، واحتفاءً بهذا التحول أنشأ خوجا متحف الإلحاد في مدينة شكودرا
وعقب نهاية الحرب العالمية الأولى، تمتعت البلاد ببعض المرونة الدينية، فقد اعترفت عصبة الأمم بألبانيا دولة مستقلة ذات سيادة، برئاسة 4 شخصيات تمثل أبرز الطوائف الألبانية، وهي: المسلمون السنة والبكتاشية والأرثوذكس والكاثوليك، وذلك تحت مسمى “المجلس الأعلى للدولة”، وفي عام 1924، ترأس أحمد زوغو ألبانيا، وعلى يده صُبِغت البلاد بأفكار ومبادئ التغريب، وكل ما قد يجعل ألبانيا – التي نصب نفسه ملكًا عليها عام 1928 – بلدًا أوروبيًا.
وخلال الحرب العالمية الثانية، وقعت ألبانيا تحت سيطرة إيطاليا الفاشية وحكمت بمبادئ الديكتاتورية الماركسية اللينينية، وحكمها آنذاك البكتاشي الشيوعي أنور خوجا لأكثر من 40 عامًا (1944-1985) بصلاحيات مطلقة وعداء علني لجميع مظاهر التدين، فأمر بحظر الدين واغتيال القساوسة والشيوخ وتدمير غالبية المساجد البالغ عددها 1200 مسجد و400 كنيسة أو تحويلها إلى مقرات حكومية وعسكرية أو مستودعات أو قاعات رياضية ودور سينما، كما منع تداول اللغة العربية وسجن أكثر من 200 رجل دين من جميع الأديان.
وفي عهده، وتحديدًا عام 1976، أصبحت ألبانيا الدولة الملحدة الوحيدة المعلنة رسميًا في العالم والتاريخ، واحتفاءً بهذا التحول أنشأ خوجا متحف الإلحاد في مدينة شكودرا الشمالية، ووضع على مدخله بيتًا من الشعر لكاتب ألباني يقول: الألبانوية هي دين الألبان.
احتفالًا بمرور 100 عام على ميلاد أنور خوجا، تم نصب تمثال له في الساحة الرئيسية بالعاصمة تيرانا.
يصف البعض تلك المرحلة بكونها “صراعًا فعليًا ضد الله” على جميع الجبهات الدينية، فعلى حد قول أرتان راما، الصحفي والمسيحي الأرثوذكسي الذي يعيش في تيرانا: “خلال عيد الفصح الأرثوذكسي، كانت جدتي تغلي بيضة واحدة فقط، وتصبغها باللون الأحمر، وتعطيني إياها دون أي تفسير”، كانت تخشى شرح التقليد لحفيدها، كما علم لاحقًا، لأن معلمي المدارس استجوبوا الأطفال الصغار بحثًا عن علامات التدين غير القانوني في أسرهم.
وهي التجربة ذاتها التي مر بها والد طاهر زين الحساني، وهو الآن معلم للدين الإسلامي في ألبانيا، حيث يتذكر كيف تم فحص ثلاثة مديرين تنفيذيين في الحزب والده خلال شهر رمضان في أواخر السبعينيات لمعرفة ما إذا كان صائمًا، ووضعوا القهوة والسجائر أمامه ليشربها، لكن أحد أولئك الذين من المفترض أن يكتشفوا ما إذا كان يمارس الشعائر الدينية دخل مكتب والده بهدوء، وشرب القهوة وأطفأ سيجارته في المنفضة، وبدا الأمر كأن والد زين الحساني غير صائم.
التوجه نحو الإسلام أو أوروبا؟
استمر الاضطهاد الديني حتى سقوط الشيوعية عام 1990 وانتهاء دولة الحزب الواحد في مارس/آذار 1992، ووصول الحزب الديمقراطي ذي الخلفية العلمانية القوية إلى السلطة برئاسة صالح بريشا الذي تزعم البلاد حتى عام 1996، وخلال هذه الفترة أجرت حكومته مجموعة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية، بهدف الانتقال من الحكم الشيوعي الشمولي إلى نظام الحكم الديمقراطي، ومن حالة العزلة (كان ممنوعًا على المواطنين السفر، ولم تملك ألبانيا علاقات دبلوماسية إلا مع الصين لكنها انقطعت لاحقًا) إلى حالة الانفتاح.
وخلال هذه الفترة، بدأ النقاش بشأن مسار البلاد ما إذا كان سيكون باتجاه أوروبا أو الإسلام، لا سيما أن عدة دول ومنظمات سعت إلى كسب النفوذ في بلد خرج لتوه من 45 عامًا من الديكتاتورية الشيوعية، إذ أبدت دول عربية اهتمامها بفرص التنمية في ألبانيا، بالتزامن مع توقع الألبان اندفاعًا فوريًا للاستثمارات الأمريكية والأوروبية في بلادهم، لكن الغرب أدار ظهره لألبانيا، وما كان أمام الرئيس المنتخب حديثًا إلا الانضمام إلى منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1992، خاصةً أن البلاد تعاني من ضائقة اقتصادية ويلزمها مصادر استثمارية لتجاوز الأزمة.
وهكذا بدأت المنظمات الإسلامية في إنشاء مدارس وإعادة ترميم الأماكن المقدسة التي تضررت أو تدمرت خلال فترة الحظر الكامل المفروض عام 1967 على جميع أشكال العبادة الدينية، والحال ينطبق أيضًا على المجتمع المسيحي الذي أعاد إحياء هويته الدينية بتأسيس المدارس والكنائس.
عام 1997 انقلبت الأوضاع رأسًا على عقب مجددًا، فقد استغل حزب المعارضة الاشتراكي، وريث الحزب الشيوعي الذي حكم البلاد منذ 1944، والخاضع لسيطرة الأرثوذكس، حالة الفوضى التي غرقت بها البلاد على إثر انهيار شركات توظيف الأموال التي دمرت عشرات آلاف العائلات التي شاركت فيها، الواقعة التي أدت إلى طرد بريشا وأتباعه من مناصبهم وإخلاء الساحة بالكامل للحزب الاشتراكي تحت قيادة فاتوس نانو الذي بذل جهودًا واسعةً لإنهاء الوجود الإسلامي في ألبانيا وكل ما يتعلق به، بما في ذلك الانسحاب من منظمة المؤتمر الإسلامي.
ومن المفارقات، أن الحزب ذاته الذي حارب مظاهر التدين، استغل البعد الديني في إحدى الجولات الانتخابية، وتحديدًا الانتخابات البرلمانية لعام 2009، لاستقطاب الناخبين المسلمين، إذ وعدهم إدي راما المرشح الرئاسي آنذاك المسلمين ببناء جامع كبير في العاصمة التي تشكو من قلة المساجد، قبل ثلاثة أيام فقط من اليوم المرتقب لإعلان النتائج.
خرافة التسامح الديني
ينتشر الحديث عن التسامح الديني والانسجام التام بين الأديان المختلفة في ألبانيا، وقد تكون واقعة عام 1992 شاهدًا على ذلك، ففي هذا العام ساعد المسلمون الكاثوليك على إعادة افتتاح الكاتدرائية الكاثوليكية في مدينة شكودرا، أكبر مدينة في شمال ألبانيا، وبعد خمسة أيام ساعد الكاثوليك المسلمين لإعادة فتح المسجد الرئيسي في المدينة، ويضاف إلى ذلك أيضًا انتشار ظاهرة الزواج بين الأديان، ما يجعل الاعتقاد العام عن التسامح الديني حقيقي نوعًا ما.
إلا أن هذا الاعتقاد لا يعني أن الطريق إلى الانسجام الديني والتعايش السلمي في ألبانيا معبدًا، ولا يعني أن الثقافة الألبانية ثقافة تعايش ديني سلمي في الأساس، فقد كان التعصب الديني موجودًا دائمًا بين الألبان، لا سيما من بعض أصحاب السلطة في البلاد الذين يثيرون الانقسامات بين المجتمعات الدينية من حين إلى آخر، لأغراض دعائية أو ما شابه، من خلال إثارة الجدل عن طبيعة الهوية الألبانية وما إذا كان الألبان المسلمون “أوروبيين حقيقين”.
المجتمع الذي اعتنق المسيحية والإسلام ثم الإلحاد إما أن يكون لديه شعور بالشك تجاه كل العقائد الدينية وإما أن يصبح غير مبالٍ بكل ما يتعلق بالإيمان والجانب الروحاني.
مثالًا على ذلك، ما حدث عام 2005، حين قال الرئيس الألباني آنذاك ألفريد مويسيو: “ليس الإسلام دينًا أصيلًا في ألبانيا، بل لقد تم جلبه إلى بلدنا عن طريق جيوش العثمانيين… وليس صحيحًا أن المسلمين يشكِّلون أغلبية السكان في ألبانيا”، ودعم رأيه الكاتب الألباني إسماعيل قداري، الذي أكد أن “الألبان كشعب ينتمون إلى الثقافة المسيحية والحضارة الأوروبية دون غيرها”، ومتهمًا مسلمي ألبانيا بتنفيذ حملات أسلمة مفتوحة للألبان المسيحيين، وخص بالذكر رئيس الوزراء صالح بريشا الذي “يسعى لتحويل ألبانيا إلى دولة إسلامية من خلال إلحاقها بعضوية منظمة التعاون الإسلامي”.
تسببت أيضًا الممتلكات الدينية والرموز الثقافية، سواء كانت مسلمة أم مسيحية، في اضطرابات بين الأتباع ورجال الدين، ففي عام 2006، تم نصب تمثال للأم تيريزا في شكودر، ما أثار معارضة المسلمين الألبان الذين اعتقدوا أنه يمنح المدينة هوية دينية كاثوليكية، كما دارت نقاشات محتدمة بشأن الاحتفال بالأعياد الدينية في أماكن العبادة المتنازع عليها، لكن دون وقوع أي حالة اعتداء أو عنف.
ورغم هذه المواقف والمناقشات المطروحة، تم اختراع التسامح وتعزيزه باستمرار بين الألبان، من خلال اتخاذ موقف محايد تجاه المجتمعات الدينية وفرض إطار قانوني يضمن حرية الدين، ويرجع ذلك جزئيًا إلى القادة الدينيين الذين يبذلون جهودًا جادةً لرعاية وزراعة ثقافة الحوار بين الأديان بشكل عام وطالما استمرت القيادة في تعزيز هذه السياسة، فمن المرجح أن يستمر التسامح الديني.
من جهة أخرى يُنظر إلى التسامح الديني الألباني على أنه “لامبالاة” أكثر من كونه انسجامًا دينيًا، فالمجتمع الذي اعتنق المسيحية والإسلام ثم الإلحاد إما أن يكون لديه شعور بالشك تجاه كل العقائد الدينية وإما أن يصبح غير مبالٍ بكل ما يتعلق بالإيمان والجانب الروحاني، وهذا “الموقف المتراخي” سهل التسامح والاحترام المتبادل.