خيمت أجواء التفاؤل النسبي على المشهد الخليجي خلال الساعات القليلة الماضية في أعقاب الزيارة التي قام بها صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومستشاره جاريد كوشنر لقطر، أمس الأربعاء، قادمًا من الرياض، في محاولة لتحقيق انتصارات دبلوماسية قبل انتهاء ولاية دونالد ترامب على مستوى ملف الأزمة الخليجية.
مصادر أشارت إلى أن ملف المصالحة كان على رأس أجندة الزيارة فيما ذهب البعض إلى احتمالية صدور بيان خلال الساعات المقبلة باتجاه مصالحة خليجية محتملة، ما لم يحدث تغير مفاجئ يبقي الأوضاع على ما هي عليه منذ بداية الحصار في الـ5 من يونيو/حزيران 2017.
ليست المرة الأولى التي يثار فيها الحديث عن انفراجة في تلك الأزمة التي شارفت على منتصف عامها الرابع، في ظل تشبث أطرافها بمواقفهم الثابتة، غير أن توقيت الزيارة الحساس، على بعد أيام قليلة من مغادرة ترامب البيت الأبيض، العامل اللافت للنظر في تلك الجهود هذه المرة.
المناخ العام خلال الآونة الأخيرة شهد العديد من التطورات التي تذهب في هذا الاتجاه، لعل أبرزها تصريحات وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، قبل أسبوعين، قال فيها إن بلاده ترحب بالحوار القائم على احترام السيادة، لافتًا إلى أن الكل خاسر في تلك الأزمة.
وبالتزامن مع تلك التصريحات أكد مستشار الأمن القومي الأمريكي، روبرت أوبراين، في حديث أدلى به لوسائل إعلام أمريكية أن إدارة الرئيس ترامب ترغب في حل الأزمة قبل مغادرتها المحتملة البيت الأبيض في الـ20 من يناير/كانون الثاني المقبل.
أوبراين أضاف خلال مقابلة له في إطار منتدى الأمن العالمي 2020 أن رفع الحصار المفروض من دول خليجية وعربية على قطر، يمثل أحد أولويات الإدارة الأمريكية الراهنة خلال السبعين يومًا المتبقية من عمرها لحين تسليم السلطة للإدارة الجديدة، مشددًا على “ضرورة إقامة علاقات ودية بين دول الخليج من أجل تحقيق توازن في مواجهة إيران بالشرق الأوسط”.
وكان الرباعي (السعودية – الإمارات – البحرين – مصر) قد أعلن في يونيو/حزيران 2015 قطع علاقاتهم مع قطر وفرض حصار عليها، فيما وضعوا 13 شرطًا لإنهاء تلك القطيعة، قوبلت بالرفض من جانب الدوحة التي رأت أنها تمس سيادتها واستقلالها، مؤكدة في الوقت ذاته استعدادها الكامل لاستئناف الحوار لحلحلة الأزمة على أسس الاحترام المتبادل للسيادة والاستقلالية، ودون شروط مسبقة.
اتفاق سعودي قطري بمعزل عن الآخرين
بحسب وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية فإن السعودية وقطر تقتربان من التواصل لاتفاق مبدئي لإنهاء الخلاف وذلك بفضل الجهود الدبلوماسية المبذولة من إدارة ترامب على مدار السنوات الثلاثة الماضية، التي أوشكت على إحداث اختراق وشيك في جدار الأزمة الخليجية.
الوكالة في تقريرها المنشور على موقعها أمس الأربعاء أشارت إلى أن الاتفاق المتوقع لن يتضمن الثلاثي “الإمارات – البحرين – مصر” وسيقتصر فقط على السعودية، مرجعة الحلحلة المتحملة للأزمة بالدور المحوري الذي قامت به الكويت على مدار الأشهر الماضية من الوساطة بين طرفي الأزمة توجت بزيارة كوشنر للرياض والدوحة.
التفاؤل الحذر بشأن إسالة جليد الأزمة لن يتطرق إلى مصالحة شاملة مرة واحدة، بل سيتم عبر مراحل تدريجية في مقدمتها إعادة فتح المجال الجوي والحدود البرية، وإنهاء الحروب الإلكترونية بين الطرفين، بجانب خطوات أخرى لإعادة بناء الثقة في العلاقات الثنائية على حسب الوكالة الأمريكية.
استبعاد الإمارات على وجه التحديد من هذا الاتفاق المبدئي يعود إلى نواياها المبيتة بشأن إفشال أي محاولات للتقارب منذ بداية الأزمة، فسوابقها في مسار إجهاض أي مساعٍ لإنهاء هذا الخلاف كثيرة ومتعددة، وتكشف توجهات خبيثة أبعد مما تحاول تصديره للمجتمع الدولي.
Saudi Arabia and Qatar are nearing a preliminary deal to end a rift that’s dragged on for more than three years https://t.co/PH2eOLZZ0p
— Bloomberg (@business) December 2, 2020
شبكة “فوكس نيوز” في تقرير لها في 9 من يوليو/تموز 2020، كشف أن “الإمارات أفشلت، مطلع شهر يوليو، اتفاقًا خليجيًا لحل الأزمة مع قطر بوساطة أمريكية، كاد يمثل انتصارًا سياسيًا للرئيس ترامب قبل الانتخابات الرئاسية” مشيرة إلى قبول الرياض ببعض الآراء الأمريكية لإنهاء هذا الخلاف إلا أن ضغوطًا إماراتيةً حالت دون ذلك في اللحظات الأخيرة.
الأمر تكرر قبل ذلك في ديسمبر/كانون الأول 2019 حين نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن مصدر دبلوماسي قوله إن أبو ظبي تستميت من أجل إفشال أي محاولات للتقارب مع الدوحة، لافتًا إلى وجود تيار سياسي مؤثر في الإمارات يضغط وبقوة على الرياض لعدم قبول أي مقترحات للحل.
هذا الرأي عززه وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش، بتغريدته التي نشرها في 5 من يونيو/حزيران الماضي التي قال فيها إن الخليج تغير و”لا يمكن أن يعود إلى ما كان عليه” قبل قطع العلاقات مع قطر، مضيفًا “لا أرى أن أزمة قطر في ذكراها الثالثة تستحق التعليق، افترقت المسارات وتغيّر الخليج ولا يمكن أن يعود إلى ما كان عليه”.
إيران.. عامل ضغط
الدور الإيراني حاضر بقوة في الضغط لإنهاء هذا الخلاف في أقرب وقت، إذ يتفق الخبراء على أن الانقسام الخليجي الراهن يصب في صالح طهران، وعليه فإن العودة لمجلس التعاون الخليجي ككيان موحد هدف رئيسي لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة.
الاستغلال الإيراني للشقوق التي أصابت التحالف الأمريكي في الخليج أقلق واشنطن وبعض عواصم المنطقة، لا سيما مع التلويح الإيراني بين الحين والآخر باستئناف النشاط النووي، وهو الأمر الذي ربما يكون حافزًا لدول مجلس التعاون لتنحية خلافاتها جانبًا ولو بصورة مؤقتة.
التقارب السعودي مع “إسرائيل” في الآونة الأخيرة ربما يكون دافعًا للرياض للتراجع خطوة للخلف في موقفها من الخلاف مع الدوحة، لا سيما أن الهدف الرئيسي المعلن لهذا التقارب هو تقويض التمدد الإيراني وتقليم أظافر حكومة الملالي، ولا يمكن لهذا أن يحدث في ظل الانشقاق الخليجي الراهن.
صحيفة “نيويورك تايمز” تُدرج الرغبة الأمريكية الملحة في تخفيف منسوب التوتر بين السعودية وقطر تحت إطار مساعي تجفيف المنابع الاقتصادية الإيرانية، وغلق كل الموارد التي من الممكن أن تعوض العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من واشنطن.
مساعي ترامب لحسم هذا الملف قبيل رحيله، تشير إلى رغبة حقيقية في إبرام العديد من الصفقات في المنطقة، وتعزيز صداقات مع زعامات خليجية، وتجميل الصورة العامة لفترة حكمه بما يدشن له أرضية سياسية من الممكن أن يحتاج إليها مستقبلًا
Trump administration wants Qatari commercial flights to route through Saudi Arabia’s airspace instead of over Iran to starve Tehran of an estimated $100 million in annual flyover fees that Doha pays. My news analysis on cusp of deal to ease Gulf embargo: https://t.co/zaXH1NRXLn
— Lara Jakes (@jakesNYT) December 2, 2020
الصحيفة تشير إلى رغبة إدارة ترامب في فتح السعودية مجالها الجوي أمام الطائرات القطرية من أجل حرمان طهران من نحو أكثر من 100 مليون دولار أمريكي تحصل عليها نظير السماح للطيران القطري بالمرور عبر أجوائها وفق تقديرات لدبلوماسيين.
ويرى سياسيون أن هذا المبلغ كان يساهم بشكل أو بآخر في تخفيف الضغط عن اقتصاد إيران المتضرر بفعل العقوبات الأمريكية، كما كان يستخدم بعضه في تمويل البرنامج العسكري والنووي للبلاد، وعليه فإن فتح المجال الجوي السعودي أمام الطائرات القطرية – حال موافقة الرياض – سيحرم الإيرانيين من هذا المورد.
قرقاش: الخليج لا يمكن أن يعود إلى ما كان عليه https://t.co/YgTeaVKKUU
— صحيفة الشرق الأوسط (@aawsat_News) June 5, 2020
إرث ترامب
مساعي ترامب لحسم هذا الملف قبيل رحيله، تشير إلى رغبة حقيقية في إبرام العديد من الصفقات في المنطقة، وتعزيز صداقات مع زعامات خليجية وتجميل الصورة العامة لفترة حكمه بما يدشن له أرضية سياسية من الممكن أن يحتاجها مستقبلًا، سواء على المستوى السياسي أم الاقتصادي.
زيارة كوشنر الحاليّة لم تكن الوحيدة لمسؤول من إدارة ترامب، فقد سبقتها زيارة وزير الخارجية مايك بومبيو قبل أسبوع، عقد خلالها لقاءً ثلاثيًا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في مدينة نيوم السعودية الحدودية.
التقارير الصادرة عن وسائل إعلام أمريكية بشأن تلك الزيارات والجهود الدبلوماسية التي تبذلها إدارة ترامب وهي على بعد أمتار قليلة من الخروج من البيت الأبيض تشير إلى أن رغبة الرئيس وصهره في تحقيق إنجاز سياسي يحسب لهما، فذهبت “فورين بوليسي” إلى أن كوشنر يعتبر تطبيع العلاقات بين “إسرائيل” والسعودية “أكبر جائزة” له، لا سيما أنها ستكون بداية لانضمام دول عربية وإسلامية أخرى.
المؤرخ والباحث في شؤون الرئاسة الأمريكية والسياسة في جامعة فاندربيلت، توماس شوارتز، يعتقد أن “زيارة كوشنر ربما تأتي لإعطاء السعودية تقييمه الخاص لسياسة الرئيس المنتخب، جو بايدن، تجاه الشرق الأوسط”، موضحًا أن إدارة ترامب ترغب في إقناع السعوديين أو القطريين بتطبيع العلاقات مع تل أبيب، معتبرًا أن ذلك “جزءًا من إرث ترامب في الشرق الأوسط”.
وأضاف في تصريحات له لموقع “الحرة” الأمريكي أن هذا الهدف إن لم يتحقق فمن الجيد حدوث تقارب سعودي قطري يخفف من وطأة الأزمة المشتعلة في منطقة دول الخليج التي تعد مسرحًا كبيرًا للمصالح الأمريكية في المنطقة، فترامب حتى وإن غادر يريد أن يُبقي على تماسك حلفائه في المنطقة.
أي تحرك سعودي في اتجاه حلحلة الأزمة الخليجية ليس إلا رغبة ملحة في منح إدارة ترامب هدية وداع، من الممكن استغلالها داخليًا وخارجيًا، ومن جهة أخرى تقديم أوراق اعتماد لكسب ود إدارة الرئيس الديمقراطي المنتحب جو بايدن
آخرون رأوا أن أمريكا بحاجة ماسة لترميم صورتها المشوهة بفضل سياسات ترامب خلال ولايته الأولى، وعليه تبحث الإدارة الحاليّة إلى ترك بصمة إيجابية لها قبيل الرحيل، وهو الرأي الذي ذهب إليه الكاتب الصحفي القطري عبدالعزيز آل إسحاق الذي لفت إلى أن هوس ترامب بالإعلام دفعه لأن يكون دائمًا في الصورة سواء قبل رئاسته للولايات المتحدة أم وهو على مشارف مغادرة كرسي الحكم.
آل إسحاق في مقاله بـ”الشرق” القطرية أشار إلى رغبة ترامب في حذو الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما الذي رسم أحلامًا وردية في كل مكان بالعالم عبر تصريحاته الدبلوماسية القوية التي ساهمت في تحسين الصورة الذهنية عن الولايات المتحدة بعد التشوه الذي اخترقها خلال فترة حكم جورج دبليو بوش.
واعتبر الصحفي القطري أن كوشنر “يحاول الآن لعب دور المقاتل الأمريكي ناثان ألغرين الذي لعب الممثل توم كروز دوره في فيلم مقاتل الساموراي الأخير، حيث يحاول حل أكبر مشكلة افتعلها مع إدارة ترامب، وهي مشكلة حصار قطر، ويحاول أن يلعب دور حمامة السلام الأخيرة لحل المشكلة، وترميم صورة الإدارة الأمريكية الحاليّة لتحقيق حلمه بجر كل المنطقة لاتفاق التطبيع”.
إلا أنه في نهاية مقاله ألمح إلى أن حل الأزمة الخليجية سيكون بأيدي الخليجيين فقط، لافتًا إلى أن “ترامب لم يكن يومًا أونودا (آخر رجل استسلم في الحرب العالمية الثانية)، ولن يكون كوشنر يومًا ناثان، سيغادر الجميع البيت الأبيض، وستبقى القضايا الدولية الكبرى كما هي، وسيربح كل من حاربه ترامب، وسيبقى الحل الخليجي خليجيًا فقط”.
المؤشرات حتى كتابة هذه السطور تشير إلى أن الأزمة الخليجية لن تنتهي بشكل مفاجئ كما بدأت، لكنها ربما تكون عبر مراحل متدرجة وخطوات متباعدة، في محاولة لاستعادة الثقة المفقودة، وستكون الرياض والدوحة طرفي المعادلة في مراحلها الأولى، ومن المستبعد دخول أبو ظبي على خط التهدئة في الوقت الراهن، لكن على الأقل لو اتفق الجانب السعودي على إنهاء هذا الخلاف فإن التصعيد الإماراتي سيكون في أضيق حدوده.
وفي الأخير يرى محللون أن أي تحرك سعودي في اتجاه حلحلة الأزمة الخليجية ليس إلا رغبة ملحة في منح إدارة ترامب هدية وداع، من الممكن استغلالها داخليًا وخارجيًا، ومن جهة أخرى تقديم أوراق اعتماد لكسب ود إدارة الرئيس الديمقراطي المنتحب، جو بايدن، في محاولة لتخفيف الضغوط المحتملة من الإدارة الجديدة بشأن ملف حقوق الإنسان.
الدروس المستفادة من التجارب السابقة على مدار 3 سنوات كاملة من الوساطة الأمريكية والكويتية تنسف أي توقعات نهائية بشأن حدوث انفراجة في تلك الأزمة، فرغم المؤشرات الإيجابية التي شهدها هذا الملف خلال الآونة الأخيرة فإنه ظل قيد التجميد، غير أن المستجدات الإقليمية والدولية الراهنة ربما تكون دافعًا وحافزًا قويًا لوضع حل لهذا الخلاف، فهل يفعلها ترامب قبل الرحيل؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.