التقارب الإماراتي اليوناني.. توازن إقليمي جديد لكبح جماح أنقرة

يونان

توقيع اليونان والإمارات جملة من الاتفاقيات السياسية والاقتصادية والثقافية وحتى الدفاعية أمر متعارف عليه دبلوماسيًا وهو ركيزة من ركائز العلاقات الدولية التي تُبنى على تبادل الخبرات والمنافع بأشكالها المتعددة، غير أن توقيت عودة أثينا إلى خريطة العلاقات السياسية لدول الخليج توحي بأن الخطوة تأتي في إطار سعي أبو ظبي – التي يتهمها خصومها بأنها دولة وظيفية – إلى محاصرة أنقرة وتحجيم نفوذها الإقليمي الذي عرف تصاعدًا في السنوات الأخيرة، وأيضًا ضمن خطط استقطاب اليونان للعب دور موازٍ لتركيا واستثمار الصراع بينهما.

التقارب بين البلد الخليجي والأوروبي عبر الشراكة الإستراتيجية القائمة على تعزيز التعاون الثنائي في مجالات الاقتصاد والأمن، قد ينجح على المدى البعيد في ظل التحولات الجيوسياسية والإقليمية التي يشهدها العالم وصعود إدارة أمريكية جديدة بقيادة جو بايدن، شريطة أن لا يكون هذا التقارب مؤقتًا وناتجًا عن تقاطع مصالح ظرفية فرضتها سياسة المناكفة للأتراك.

شراكة إستراتيجية

ولي عهد أبو ظبي، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وصف في وقت سابق الشراكة مع اليونان بالإستراتيجية التي تهدف إلى تعزيز التعاون المشترك بين البلدين في مجالات عديدة بما في ذلك قطاع الصحة والعلوم والتكنولوجيا والأمن الغذائي والمائي والطاقة المتجددة والنفط، غير أن الجانب العسكري (السياسة الخارجية المشتركة والتعاون الدفاعي) هو أهم عنصر في الشراكة لأنه يدفع كل دولة إلى مساعدة الأخرى إذا تعرضت سلامها الإقليمي للتهديد.

وفي سياق متصل، وقع البلدان مذكرات التفاهم في مجالات أخرى أبرزها التعاون الإنمائي وتمكين الشركات الصغيرة والمتوسطة والابتكار والتعاون الرقمي والتعاون الثقافي والصناعات الثقافية والإبداعية، بالإضافة إلى إطلاق الخطة الإماراتية اليونانية المشتركة للسياحة.

هذه الاتفاقيات من شأنها أن تفتح آفاقًا اقتصاديةً كبرى لليونان التي تُعاني إلى الآن من تداعيات أزمة الديون (2009) التي كادت أن تعصف باقتصادها، حيث ما زالت نسبة الانكماش السنوي في حدود 15.2%، ما يعني أن البلد الأوروبي بحاجة إلى مثل هذه الاتفاقات التي قد تمكنها من جذب استثمارات خليجية تُجنبها الأزمات التي فاقمتها جائحة كورونا على شاكلة المشروع الاستثماري الإماراتي لعام 2014 المتمثل في تطوير أرض المطار القديم في العاصمة أثينا، بكلفة إجمالية تتجاوز 7 مليارات يورو.

الإمارات أيضًا من المرجح أن ينكمش اقتصادها في حدود الـ11% هذه السنة بسبب حالة الركود تحت ضغط الوباء العالمي (كوفيد 19)، لذلك فهي تسعى إلى إرساء اتفاقات ثنائية تمكنها من إنعاش السياحة (العمود الفقري لاقتصادها) عبر خطط رفع عدد الزوار اليونانيين إلى الإمارات (24 ألف يوناني 2019)، وكذلك تطوير حجم التجارة غير النفطية بين البلدين 450 مليون دولار (2019).

توازن جديد

على أهمية الاتفاقات الاقتصادية بين البلدين، يبقى التعاون العسكري والأمني البعد الواضح والأساسي من وراء التقارب الإماراتي اليوناني، فالأخيرة تعمل من خلال توسيع دائرة علاقاتها الدولية على تكوين تحالفات جديدة في المنطقة لتحقيق التفوق النوعي على تركيا الذي تطمح له منذ سنوات، خاصة أن تفتقد لقدرات عسكرية تُضاهي جارتها، ويبدو أنها نجحت نسبيًا في مساعي حشد بعض الدول كمصر و”إسرائيل” وفرنسا والإمارات التي أعلنت ضمنيًا مساندتها من خلال التدريبات العسكرية حيث أرسلت مقاتلات من طراز إف-16 إلى قاعدة في جزيرة كريت في أغسطس/آب الماضي للمشاركة في تدريب عسكري مع القوات الجوية اليونانية والإسرائيلية.

ويذهب محللون إلى أن اتفاق الدفاع المشترك بين البلدين “أكثر دقة” من اتفاقية الدفاع والأمن الثلاثية بين “إسرائيل” واليونان وقبرص التي تم التوصل إليها في سبتمبر/أيلول، متوقعين أن تمهد هذه الخطوة لصفقات وعقود بيع وشراء الأسلحة المهمة العام المقبل، خاصة أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم توافق اليونان على الدخول في اتفاقيات ثنائية ذات طبيعة مماثلة كالتي وقعتها مع أبو ظبي.

وتسعى اليونان التي أولت مؤخرًا التسليح على التنمية، إلى تحديث ترسانتها العسكرية وخاصة السفن الحربية والطائرات المقاتلة القديمة، لذلك يتوقع المحللون أن توقع أثينا عقودًا جديدةً بموجب هذه الاتفاقية لتجهيز أساطيلها من طراز إف-16 أو أن تنظم للبرنامج الإماراتي الفرنسي الذي بدأ لتحديث مقاتلات “الميراج – 2000″، وأن تنقل الإمارات 50 طائرةً من طراز إل-35 إس طلبت شراءها من الولايات المتحدة إلى اليونان وفق اتفاقيات تعاون ودفاع مشترك.

اليونان تعمل أيضًا مع الفرنسيين لشراء 18 مقاتلة نوع داسو رافال متعددة المهام من الجيل 4.5، والحصول على طائرات مقاتلة من الجيل الخامس من طراز لوكهيد مارتن إف-35 لايتنيغ الثانية من الولايات المتحدة، فيما تجد تركيا نفسها مستبعدةً من برنامج المقاتلات الأمريكية المتطورة إف-35 بعد أن تسلمت الدفعة الأولى من منظومة الدفاع الصاروخي الروسية إس-400.

ومن غير المستبعد، بحسب المراقبين، أن يشمل التعاون الدفاعي بين البلدين عمليات نشر استكشافية لطائرات مقاتلة إماراتية إلى جزيرة كريت وعقود دفاعية لتزويد سلاح الجو اليوناني بالأسلحة الإماراتية أو أن تنقل أبو ظبي أسطولها من طراز ميراج 2000-9 إلى اليونان، وهي خطوة تهدف من ورائها الإمارات الرد على إقامة تركيا قاعدة عسكرية في قطر بعد الحصار الخليجي.

العلاقات اليونانية الإماراتية الجديدة على رمزيتها، يُمكنها تحقيق مكاسب ملموسة كبناء توازن إقليمي جديد أو إنشاء كتلة متعددة الأطراف ينافس الأتراك في المنطقة، وذلك عبر استثمار عدد من الملفات الشائكة كسوريا وليبيا والعلاقات المتوترة مع الاتحاد الأوروبي، وكذلك وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، خاصة أن الأخير تعهد بإعادة الدور الريادي لأمريكا عالميًا وإعادة انخراطها في القضايا الساخنة.

ما وراء الشراكة؟

في الوقت الحاليّ، لا يُمكن بشكل من الأشكال الحديث عن شراكة حقيقية بين البلدين، فالاتفاقات الموقعة والأهداف المعلنة صراحة لا تصب إلا في محاولة كبح جماح النفوذ التركي الممتد إقليميًا وعالميًا الذي تصوره هذه الدول بأنه “سلوك مزعزع للاستقرار”، فالسياسة الخارجية اليونانة لا تبحث إلا عن علاقات جيدة مع الجهات الفاعلة إقليميًا لتعزيز موقفها الرافض لتنقيب تركيا عن الغاز الطبيعي ومحاولتها التنقيب في المياه المتنازع عليها في بحر إيجة وكذلك الاتفاق الحدود البحرية الذي وقعته مع حكومة الوفاق الليبية.

وفي السياق ذاته، فإن التقارب مع الإمارات سيحقق لليونان مصلحة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها وتتمثل في استثمار علاقاتها مع دول الخليج المؤثرة في القرار السيادي المصري، لدفع القاهرة إلى ترسيم الحدود البحرية معها وهو ما يُمثل المصدر الأول لنزاع أثينا وأنقرة، خاصة أن الخطوة ستمكن اليونان من فرض سيادتها على المنطقة البحرية كاملة.

ومن هذه الزاوية، يُمكن القول إن التوترات السياسية بين تركيا واليونان، دفعت الإمارات إلى تقوية علاقاتها مع أثينا تحت ذريعة الاقتصاد والتعاون الإستراتيجي والتنمية، والاستثمار في تحالف جديد مع الدولة الأوروبية يهدف إلى تعزيز دورها إقليميًا في هذه المنطقة وحصار تركيا التي تنافسها على النفوذ في ليبيا.

وبحسب مصادر إعلامية، فإن التقارب بين البلدين هو أيضًا جزء مخطط أبو ظبي لتسريع إنشاء خط أنابيب لنقل الغاز من قبرص و”إسرائيل” عبر أثينا إلى أوروبا دون المرور بتركيا، الذي تهدف من ورائه إلى ضرب أنقرة التي تحذر من استبعادها عن أي مشروع في المتوسط، وقطر التي من المتوقع أن يقل تصديرها للغاز بمقدار النصف إلى أوروبا في حال أنجز هذا المشروع.

دورالإمارات الوظيفي، بحسب تعبير وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، وخوضها لحروب باردة في منطقة بالاعتماد على إستراتيجية التحالفات والتفاهمات الإقليمية، يهدف بالأساس إلى خلق موازين قوى ضد تركيا في الشرق الأوسط واستنزاف قوتها والاعتماد على دول كاليونان التي تُعرف بتحالفها مع كل من يقف ضد أنقرة وتعزيز تأثيرها في شرق المتوسط من خلال توثيق علاقاتها بدولة الاحتلال.

بالمحصلة، يبدو أن الاتفاقيات الجديدة بين أثينا وأبو ظبي لا تهدف إلى إنقاذ اليونان اقتصاديًا باعتباره بلدًا يُمثل عبئًا ثقيلًا على الاتحاد الأوروبي، بقدر ما تستند إلى المخطط الجيوسياسي الفرنسي لتكوين حلف وازن ومربح يساعد على تحجيم الدور التركي إقليميًا ودوليًا، لكن الواضح أن نجاح هذا التحالف مرتبط بتوجهات السياسة الأمريكية القادمة بقيادة بايدن وبمواقع القوى داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو).