تمامًا مثل غيرهم من الطبقات المجتمعية الأخرى، يتعين على الفقراء دفع المصاريف اليومية مثل الطعام والمأوى وتكاليف الرعاية الصحية غير المتوقعة والتعليم وحفلات الزفاف والجنازات، ولكن عليهم أن يفعلوا ذلك في ظل ظروف “الطبقة الفقيرة” ذات الدخل المتدني وغير المنتظم حيث تعيش تحت وطأة مخاطر كبيرة من حالة عدم اليقين وعدم القدرة على معرفة ما سيكون عليه الحال غدًا.
وفي ظل كل ذلك، ينبغي لهم أن يسعوا نحو الادخار بكل جهدهم، فالادخار سيكون لهم درءًا من فترات البطالة التي تطاردهم أو من أي مرض أو بلاء يصيبهم، بل والأهم أيضًا أن يفتح أمامهم الطريق لتأسيس أحد المشروعات أو الاستثمارات لينقذوا أنفسهم من براثن الفقر حتى لا يتقدم بهم العمر وهم غير قادرين على تلبية احتياجاتهم الأساسية.
المزعج في كون المرء فقيرًا جدًا هو أنه يواجه المزيد من الصعوبات والمخاطر بطريقة مباشرة أكثر في كل ساعة تقريبًا من حياته، وهناك من يتمكن من التعامل مع ذلك نفسيًا وعمليًا، والبعض الآخر يكونون أقل كفاءة. وبغض النظر عن الفوارق الشخصية، فإن الحاجة إلى إدارة الأموال أكثر أهمية بالنسبة للفقراء جدًا لأنهم لا يملكون منها إلا النذر اليسير أو لا يملكون منها أصلًا في حال كانوا ممن يعملون بمبدأ “إذا كان بالدين، خليهم رطلين”.
الفقراء قليلي الصبر؟
بحسب كتابات الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز، في العصر الفيكتوري (1837- 1901) وهي حقبة مهمة وأساسية لما بعد النهضة، ففي تلك الفترة بلغت الثورة الصناعية في بريطانيا ذروتها ثم امتدت لتصل أمريكا وباقي الدول الأوروبية، كان الناس في ذلك الوقت ينظرون للفقراء على أنهم قليلي الصبر ولا يتمتعون بطول النظر، وعليه كانوا يرون أن السبيل الوحيد لإبعاد الفقراء عن حياة الكسل والتراخي، هي ببناء ملاجئ الفقراء وسجون الدائنين، ليتوعدوا بها الفقراء بأشد صنوف البؤس إذا ما حادوا عن الطريق القويم.
واستمر الاعتقاد بأن الفقراء هم فقراء على اعتبار أنهم مختلفون بشكل فطري عن غيرهم ويميلون لقصر النظر لسنوات طويلة. وذلك على العكس ممن يصلون إلى النجاح المالي، وهم يتسمون بشكل عام بالانضباط والقدرة العالية على ترتيب أولوياتهم مما يساعدهم في زيادة قدرتهم على الادخار.
إذ إن المشكلة الحقيقية تكمن في النفس البشرية التي تستصعب الادخار والانضباط الذاتي بغض النظر عن كون المرء يعاني من الفقر المدقع أو أنه فقيرا وحسب، ويمكننا أخذ التدخين كمثال واضح على ما أقول، فمن السهل إجبار أيا من المدخنين الفقراء على الاعتراف بمضار التدخين على الصحة والمال، وأنه بالابتعاد عن هذه العادة سيوفر الكثير من الأموال سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
ولكن وفي نفس الوقت نحن نعلم أن معظم المدخنين قد قدموا وعودا كثيرة لأنفسهم أو لأسرهم بالاقلاع عن التدخين بدءا من الأسبوع القادم أو الشهر القادم، ولكن ماذا يحصل في كل مرة؟ إغواء تدخين سيجارة أخرى لا يقاوم ويتحول الأسبوع القادم للذي يليه أو تغلق صفحة الوعود ويُنسى موضوع الاقلاع تمامًا.
هذه المشكلة في الاتساق الزمني، والتي تعني أن العقل البشري بتعاطى مع الحاضر على نحو مختلف تماما عن تعاطيه مع المستقبل تعني أن المشكلة لا تكمن في قصر نظر الفقراء وعدم إدراكهم لأهمية الادخار، بل بالكيفية التي يجب أن نتصرف بها في المستقبل، وهي غالبا لا تتسق مع الطريقة التي نتصرف بها اليوم، بمعنى آخر نحن نأمل أن نكون أكثر صبرا في المستقبل (الأسبوع القادم أو الشهر القادم) مما نحن عليه اليوم.
الفقراء والانضباط الذاتي
بحسب “كتاب “اقتصاد الفقراء”، أجرى مجموعة من خبراء الاقتصاد وعلماء النفس والأعصاب دراسة سعوا من خلالها لإثبات أن هناك أساسًا فيزيائيًا للانفصال في عملية اتخاذ القرار، وقد منحوا المشاركين في التجربة الفرصة للاختيار بين جوائز متنوعة سوف يحق لهم الحصول عليها في توقيتات زمنية مختلفة، وهكذا كان يتعين على كل مشارك أن يتخذ مجموعة من القرارات، فمثلا يتلقى 20 دولارًا الآن أو يتلقى 30 دولارًا في غضون أسبوعين (الحاضر في مقابل المستقبل).
وتقوم فكرة ذلك على أن المشاركين كانوا يتخذون قراراتهم داخل جهاز تصوير بتقنية الرنين المغناطيسي الوظيفي، واكتشفوا أن أجزاء الدماغ المتصلة بالأطراف كانت تنشط عندما ينطوي القرار على مقارنة بين مكافأة اليوم ومكافأة في المستقبل، وعلى النقيض كانت القشرة الجبهية الجانبية (وهي جزء في الدماغ أكثر اختصاصا بالحسابات) تستجيب بكثافة متشابهة لكل القرارات، بغض النظر عن توقيت الخيارات المطروحة.
ويمكن القول إن الأدمغة التي تعمل على هذا المنوال سوف تنتج الكثير من النوايا الطيبة غير المحققة، على شاكلة سوف أتوقف عن التدخين أول الشهر القادم، أو أتبع حمية غذائية صحية بدءا من تاريخ كذا.
بالنسبة للأشخاص ذوي الدخل المنخفض وغير منتظم، غالبا ما يكون من الصعب عليهم الاستفادة من الفرص الاستثمارية التي توفرها المؤسسات المالية
هل حقا لا يدخر الفقراء؟
قد يكون ذلك غير صحيحا بشكل مطلق، حيث أن للفقراء وسائلهم في الادخار ومن يصل منهم إلى الادراك الكافي لمشكلة الاتساق الزمني والنفس البشرية، تراهم يجتهدون ويبتكرون طرقا متنوعة للادخار وحماية أنفسهم من إغواءات اليوم.
ولعل المثال الأكثر شيوعا هو الادخار طويل الأمد من خلال البناء، فمن المثير للدهشة لأي شخص يزور الأحياء الفقيرة الموجودة في قطاع غزة على سبيل المثال عدد المنازل المسكونة غير مكتملة البناء والتي لا يوجد حولها دليل على وجود أعمال البناء حديثة أو أنها ستستمر في وقت لاحق، وقد يتسائل الزائر كيف لأحد أن يسكن في منزل لم يتم سقفه بعد أو غرفة بدون شبابيك؟ ولو سألت أي أحد من السكان لكان رده ببساطة أنه يقوم بإتمام البناء شيئا فشيئا كلما توفر معه المال، ستكتشف أن البناء يمثل أداة توفير ادخار طويلة الأمد بالنسبة للفقراء، قد يتطلب من بعضهم سنوات العمر أكملها ليكمل بناء منزلا لعائلته، فكلما أتيحت له الفرصة والمال يشتري بضعة أحجار ليرصها بنفسه أو بمساعدة أبنائه، وهذا يتنافى بشكل واضح مع النظرية القائلة بأن الفقراء قليلي الصبر.
ولكن ذلك يذهب بنا لجدوى الطريق التي يتدخر بها الفقراء والأسباب التي تدفعهم إلى الإدخار، فالأغنياء يقومون بحسابات مختلفة حتى وإن كان الموضوع متعلق بالمسكن، ففي حالة الفقير الذي يضع كل ما يتوفر له في بناء منزل قد يأخذ منه سنوات طوال وفي الغالب لا يكون عنده أي نية بالمتاجرة به بل يبني لكل من أبنائه غرفة أو شقة صغيرة ليتزوج فيها هو الآخر وفي كثير من الأحوال يمثل المنزل عبئا يستنزف مدخراته مع الزمن.
وعلى الطرف الآخر لا يمثل شراء منزل هدفا بحد عينه للأغنياء فهم لا يمانعون العيش في منزل مستأجر إذا كانوا يحصلون على عوائد أعلى من استثمار أموالهم وإعادة تشغيلها مرة أخرى ليراكموا المزيد من الثروات من خلال زيادة مدخراتهم وهذا ما لا يحصل مع الفقراء.
الفقراء وأدوات الاقتصاد الحديث
قد يكون من المستغرب بالنسبة للكثيرين أن يعرفوا أن معظم الفقراء في الدول النامية ليس لديهم حسابات بنكية رسمية، ويعود ذلك إلى سببين: الأول أن البنوك “لا تريد التعامل مع الفقراء”، لأنها ترى أن الحسابات الضئيلة لا تستحق التكلفة التشغيلية، إذ أشارت الأبحاث التي أجرتها المجموعة الاستشارية لمساعدة الفقراء إلى أن حسابات التوفير الصغيرة للعملاء الفقراء ومنخفضي الدخل هي “الأكثر تكلفة على المؤسسات المالية للحفاظ عليها”.
كما تخشى المصارف أن يتم إبعاد عملاء الطبقة المتوسطة إذا رأوا فقراء يتسكعون في البنك مما يؤثر على سمعة البنك، وفي الحالات القصوى، يُبقي الحراس الأشخاص ذوي الملابس الرديئة بالخارج.
أما السبب الثاني فهو أن الوصول إلى البنوك مكلف وصعب حيث أن معظم الفروع تكون في المدن أو بعيدة عن المناطق الفقيرة مما يتطلب مصروف إضافي لا يجد الفقراء مبررا لدفعه، إضافة للوقت والجهد المطلوب، أو أن هناك رسوم لافتتاح حساب بنكي ولا يستطيع أي شخص فقير تحملها.
بالنسبة للأشخاص ذوي الدخل المنخفض وغير منتظم، غالبا ما يكون من الصعب عليهم الاستفادة من الفرص الاستثمارية التي توفرها المؤسسات المالية سواء كانت فوائد على المودوعات أو كانت نصائح وتوصيات المختصين، فتكلفة وقت الموظف تكون أعلى بكثير من أن تكون مجدية.
وسيبقى السبيل الوحيد المنطقي هو أن يستثمر الفقراء مدخراتهم في أعمالهم الخاصة إن كانوا من أصحاب المشاريع الصغيرة مثل الزراعة، ولكن تبقى تحديات المعرفة والتعليم تلقي بظلالها عليهم لتصعب المهمة لتلحقها المصائب والمغريات، وتبدأ الدائرة من جديد.