مناحات المثقفين في جنازة الدولة الوطنية

النقاش المهيمن هذه الأيام في تونس بعيدًا عن إعلام “الهشك بشك” طبعًا؛ هو مصير الدولة التونسية التي توشك على التلاشي بفعل حكومة المشيشي. ترتفع صيحات الويل والثبور منذرة بسقوط الدولة وأعلى الأصوات هي أصوات مثقفين يجلسون مجلسًا مريحًا في ظل دولة رأوها قائمة فعلًا ويخشون سقوطها بفعل تهاون الحكومة مع مطالب الجهات.
هل الدولة مهددة فعلًا بالسقوط؟ ولكن قبل ذلك هل كانت الدولة قائمة فعلًا أم أن قيامها لا يعدو عن كونه وهمًا لدى مثقفين يوجدونها في الفكر والخيال ليحفظوا رزقهم ومكانتهم.
للدولة آثام سابقة على مطالب الجهات
يحاول حماة الدولة الآن اقناعنا أن الدولة كانت قائمة فعلًا وأن استجابتها للمطالب التنموية في الجهات بدءًا من منطقة الكامور سيؤدي بها، ولذلك عليها أن تمارس أعتى أشكال الردع (لا يقولون القمع) لكي لا تستضعفها الجهات والمناطق فتخسر وجودها نفسه.
هذا الخطاب يغفل -ونظنه يفعل ذلك عامدًا- كبائر كثيرة ارتكبت باسم الدولة فحطت من قيمتها لدى الناس دون أن يرف للمثقفين جفن. لن نستعرض هنا تاريخ القمع الذي جعل الدولة وكل أشكال السطلة التي تنبع منها مكروهة ومرفوضة لا يخضع لها الناس إلا من قهر وخوف. لكن لنتأمل أشكالًا أخرى من فعال الدولة التي تفقدها صفتها وتجعل خطاب المتباكين عليها يثير سخرية سوداء.
عندما يجتهد المزارع التونسي وينتج كفاية البلد من الخضر والغلال ويوفر للتصدير فتقوم الحكومات المعبرة عن الدولة بمنح رخص توريد منتجات زراعية مماثلة لما أنتج التونسي في مزرعته وبجهده فينكسر المنتوج التونسي في سوقه وينكسر ظهر المزارع ويفقر. هل يمكن لهذا الفلاح أن يؤمن بوجود دولة فعلًا؟ ولماذا لم يبك المثقفون على المزارع المنكوب بفعل الدولة نفسها؟
لم ينتبه المثقفون إلى خطورة تفشي الاقتصاد الموازي بصفته عملية تخريب للدولة
إن شبكات الموردين المعششة في كواليس الحكومات والتي لا تقدر المزارع التونسي عامود البلد وسنده هي علامة من أكبر علامات فقدان الدولة لذاتها ووجودها وفعلها. إنهم الإشارة الجلية لفعل العصابات المتخفية باسم حرية التجارة. لا يمس فعلهم الشائن الفلاحين فقط، بل يتعداهم إلى تحطيم كل نواة لصناعة وطنية قادرة على التشغيل وبناء الاستقلال الاقتصادي ولو بعد حين. عصابات التهريب (العمل غير القانوني) وعصابات التوريد القانوني جميعهم يعبرون عن غياب الدولة وذلك قبل أن تتحرك الجهات وتطالب بالتنمية.
لم ينتبه المثقفون إلى خطورة تفشي الاقتصاد الموازي بصفته عملية تخريب للدولة رغم أن هناك كتابات في الغرض إلا أن كثيرا منها يحاول إيجاد حل لإدماج المهربين في الدولة لا الضرب على أيديهم ولذلك اصطلحوا على نعت التهريب بالاقتصاد الموازي متغافلين أن في ذلك تشريع لدولة موازية أو للا دولة داخل الدولة بما يخرب الدولة.
تقطيع الدولة إلى مراكز قوة
يقول المثقفون إن إقطاع الجهات بعضا من عائدات الثروات الطبيعية وتحت الضغط الجهوي سيؤدي إلى تفكيك الكيان السياسي برمته وتصير المناطق إلى الحكم الذاتي أو الانفصال. ولذلك نسمعهم ونقرأ لهم دعوات صريحة إلى الردع العسكري. لكن هذا الخطاب يغفل أن الدولة مفككة فعلًا وأن هناك اقطاعات خالصة للبعض دون الكل، فالدولة أقطعت إقطاعات وحمت باسم المركزية نفسها. كل ما في الأمر أن هذه الاقطاعات لا تظهر في الجغرافيا.
هناك طيف واسع من الأفعال غير المترابطة ولكن لا يمكن النظر إليها إلا كإقطاعات قدمتها الدولة لجهات نافذة ولم ينتبه لها المثقفون كفعال مخربة للدولة.
إن إقطاع بيع الخمور مثال ساطع على وجود مراكز قوة متنفذة تحتكر بقوة الدولة وتحت حمايتها. ومثل ذلك وإن اختلف في المحتوى نفوذ السفير الفرنسي على البرنامج الرسمي للتعليم وفرض الفرنسية كلغة أولى قبل العربية يعتبر إقطاعًا وسياسة الدعم الثقافي المحتكر من قبل مجموعات إنتاج محددة دون غيرها تعتبر إقطاعًا.
أما أشد الفعال دلالة على تفكك الدولة فهو خضوعها بل ركوعها أمام النقابة. ويمكننا أن نقول -وسيثبت مؤرخون موضوعيون قولنا في زمن لاحق- إن الحاكم الحقيقي في البلد منذ الثورة هي النقابة بل جماعات سياسية داخلها تسقط في الانتخابات ولكن تحكم فعلًا بالنقابات. والحكومات عاجزة ترتعش أمامها دون أن ينتبه أحد إلى أن ذلك الخضوع مؤذن بنهاية الدولة قبل أن تتحرك أية جهة وتطالب بحق فيصرخ المثقفون بنهاية الدولة.
يمكن تخيل ما بعد هذه الدولة
نتذكر ونقارن بين الحالة التونسية منذ ما قبل الثورة وحالة إيطاليا تحت حكم المافيا فنرى دولة تتجه إلى نهايتها حثيثًا. ونتذكر القاضي فالكوني الذي قاد الحرب ضد الفساد والمافيا فأعاد الدولة إلى مسارها وجدد وجودها، ولكن عندما نريد بناء حلم بظهور قاضي فالكوني في تونس نجد قضاة تونس يغلقون المحاكم من أجل الحصول على جواز سفر ديبلوماسي يمتعهم بعبور المطارات عبر بوابة الشخصيات الاعتبارية. لأن قضاة تونس يستنكفون أن يسيروا مع عوام الشعب.
اللادولة هي الوضع الطبيعي للمهمشين وهؤلاء يزدادون عددا ويتحولون إلى قوة فعل أكبر مما كانوا زمن انطلاق الثورة
إذن ما الذي قد يجعل مزارعًا تونسيًا أو عاملًا مهمشًا أو عاطلًا لفترة لا نهاية لها يشفق على دولة ليست دولته أو في أهون الحالات لا تعتبره موجودًا ولا يهمها إيمانه بها؟
صحيح نتوقع وجود خوف عام من حالة الفراغ ولكن هذا الخوف يكبر عند من لديه مكاسب من الدولة وفي مقدمتهم المثقفين ومن لم تكن له مكاسب ماذا سيخسر إذا انهار الوضع واتجه إلى اللاّدولة.
اللادولة هي الوضع الطبيعي للمهمشين وهؤلاء يزدادون عددًا ويتحولون إلى قوة فعل أكبر مما كانوا زمن انطلاق الثورة. ربما كنا كتبنا أنها كانت ثورة للمطالبة بالدولة فإذا الدولة تحتال من جديد على من أراد بناءها بقوة الشارع وهي الآن تحت تهديد الشارع نفسه، لكن هذه المرة ليست في أفق إصلاحي بل في أفق هدم وإعادة بناء بغير الأحجار القديمة، ونرجح أن الجرأة ستزداد في جهة والخوف سيزداد في الجهة المقابلة، ونستعد لما بعد دولة بورقيبة وبن علي ومعارضتهما التي كانت أسودًا افتراضية فانكشفت عن خراف مرعوبة أمام لوبيات التهريب والنقابات.
القارئ الذي سيصل هنا سيظن أن هذه أماني لا وقائع ولا توقعات، ليكن! ولتخيبنا الوقائع فنقوم على دولة قوية وعادلة، ولا بأس أن نخطأ في التحليل. نقول بيقين إن الوضع الحالي للدولة التونسية لم يعد قابلًا للاستمرار وكل ما تبقى هو المكوث في الهشاشة التي تؤجل الموت ولا تلغيه. ليواصل مثقفو الدولة المنهارة مناحاتهم فدولتهم تتفتت وهم معذورون فالخبزة مرة.